محمد المصري
الحوار المتمدن-العدد: 2041 - 2007 / 9 / 17 - 05:32
المحور:
اليسار , الديمقراطية والعلمانية في مصر والسودان
في واحد من أشهر – وأعظم - المشاهد في تاريخ السينما المصرية يسأل أحمد زكي المحامي المُكلف بالدفاع عنه محمود المليجي عن السبب في قبوله لقضيته رغم معرفته سلفاً أنه سيخسرها ، فيجيبه المليجي في مرارة "تنفيسة .. تنفيسة ليَّ ولك ، كلمة حلوة نقولها صحافي يلقط مننا لمحة نضيفة، قاضي تفلت منه كلمة شجاعة ، أهي تنفيسة للكل"
قبل أن يدخل في منولوجه الشهير "وعايزني أكسبها" !
***
حال الصحافة في مصر – والتي تسمى تجاوزاً بالصحافة – لا يتجاوز كونها مجرد "تنفيسة" ، تنفيسة للكاتب .. للقارئ .. تتركها الحكومة لتضرب أكثر من عصفور بحجر واحد .. من ناحية تأكد على ديمقراطيتها وسماحها بحرية التعبير .. ومن ناحية أُخرى تسمح ( للمثقف/القارئ ) على حدًّ سواء بمساحة "ينفس" فيها عن غضبه اتجاه الأوضاع المتردية .. وهي – من ناحية ثالثة – تعلم أن صحافة التنفيس ليست قادرة على صنع تغيير ما في المجتمع يمسُّ مصالحها ولو من بعيد ، تحدثوا عن الفساد .. السلطة .. النفوذ ، هاجموا التوريث .. الرئيس .. الحزب الحاكم ، وفي النهاية : لا جديد ..
ربما لذلك كانت الدستور – على مدار أكثر من عامين – هي أنجح الجرائد المصرية ، فهيَ الأكثر براعة في استخدام "فلسفة التنفيس" ، المواطن المصري الآن لا يحتاج لتحاليل سياسية كُبرى .. أو أحاديث عن مستقبل يعلم أنه لن يتغير .. لا يحتاج لصحافة تتبع الفساد لتصل إلى مصدره .. فالسؤال – غير المُقال – : ما الفائدة من كل هذا إذا كنا نتعامل مع نظام "لا يسمع" ؟! ، لذلك فيبدو أن أقرب ما أراده هو صحافة تعبر عنه .. هكذا "بعبله" ، تتحدث بلغته ومنطقه وفلسفته ، تسب الحكومة آناءَ الليلِ وأطراف النهار ، صحافة بلغة القهاوي – كما وصفها زاماً ممتاز القط في إحدى نبشاتُه – .. ومن أبرع من الدستور في ذلك ؟؟
ولذلك كان نجاحها الملفت المتخطي لجرائد أخرى اتبعت نفس ذات النهج – نهج التنفيس – ولكن حاولت تطويعه لشكل ثقافي مُعيَّن ، فكانت كمن أمسك العصا من المنتصف .. فلا هي قدمت صحافة حقيقية ، ولا برعت في التنفيس كما يجب أن يكون !
وعن نفسي أمتلك موقفاً محايداً – إلى حدًّ بعيد – اتجاه تلك الصحافة ، أحياناً أشعرُ أن الصحافة يجب أن تقوم بدورها بصرف النظر عن تردي المجتمع .. ولكن أفوق بعدها من تلك المثالية الزائدة لأجد أن الأمور كلها قد غدت أكثر وضوحاً من أن تكشفها الصحافة في ممارسة لدورها المفترض .. من لا يعلم أن الفساد سيتوغل ولن يُحاسب المخطئ .. وأن الرئيس سيستمر في منصبه – كما ذكرها صراحةً – مادام حياً .. وأنَّ التوريث سيتم بصرف النظر عن أي اعتراضات تبديها المعارضة .. وأن صعود التيار الإسلامي حدث لأنه يبدو الخيار الوحيد أمام الشعب هروباً من دوامة الحزب الوطني .. إلخ ، فحينما تكون الأمور واضحة بهذا الشكل دون قدرة على تغييرها .. فما الضرر من صحافة تستخدم للتنفيس عن الشعب ؟!
***
ولكن فلسفة اللعبة لم تستمر على هذا المنوالِ !
***
منذُ ثلاثة أيام بالظبط انتشر بسرعة خبر الحكم على أربعة من رؤساء تحرير صحف مستقلة بالحبس لمدة عامٍ ودفع غرامة ثلاثون ألف جنية بتهمة سب رموز الحزب الوطني !!
بدأ الكثيرين بعدها في الحديث عن مساحة الحرية التي قلت ! والبدءِ في حبس الصحفيين المُنتظَر ، إبراهيم عيسى قال : "جاء الحكم بحبسي مع أستاذي عادل حمودة والرفاق الأصدقاء عبد الحليم قنديل ووائل الإبراشي دليلاً ناصعاً على إن سنتنا سودة" ..
في الحقيقة لم أشعر كثيراً بالخوف على مساحة الحرية التي تتناقص ولا في لونِ سنتنا هل سيصبح أسوداً أم كُحليَّاً !
فالحقَّ في نظري أن الحرية ليست هبة ممنوحة .. ولا مساحة معينة يحددها النظام الحاكم تقل و تزيد حسبما يريد ، ولكنها غير مشروطة وغير تابعة لرغبة الأفراد ، وقانون عدم حبس الصحفيين إذا لم يكن دستوراً ومنهجاً واضحاً فلا معنى له طالما ارتبط "بوعد" أصدره فرد قادر على إلغاؤه أو عدم تنفيذه ! ، وقرار الحبس هذا لا يؤثر على حريتنا في شيء .. فهي غير موجودة من الأساس ، ما الفارق إذاً إذا جاء حبس عيسى ورفاقه اليوم أو بعد عام ؟! طالما هو منتظر ويمكن أن يأتي في أيَّ وقت !
لم يثرني الحكم في شيء .. ولم أشعر أنه يوم أسود في تاريخ الصحافة المصرية كما رأى الكثيرين
الذي أثارني حقاً هو سؤال دار بذهني منذُ سمعت الخبر : لماذا أخلَّت الحكومة بلعبة التنفيس ؟؟!
***
قُلتُ ذات مرة أن الشعوب يمكنها التعايش بسلام مع حكومات ديكتاتورية ونظرة بسيطة لأغلب أنظمة الحكم الثورية خلال عقدي الخمسينات والستينات يجعلنا نكتشف ذلك – بصرف النظر عن النتائج بعدها - ، ولكن العبث حقاً حينما نتعامل مع حكومات ديكتاتورية موصومة بالغباء ، أنتَ يمكنك أن تأخذ من الشعوب حريتها مقابل أن تعطيها "أمانها" .. أما أن تأخُذُ منها كل شيء حتى مساحتها للتنفيس !
وقتها أتخيل شكري مراد المحامي يكمل منولوجه الشهير قائلاً : "زمن بيتحبس فيه الصحفي من دول ولا من دول عشان بيبيع للناس شوية كلام ينفسوا فيه عن نفسهم .. وعايزني أكسبها ! .. ياخي !"
#محمد_المصري (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟