|
أصحاب الرواق: الجبرية العاقلة والسعادة الصارمة
حسام أبو حامد
الحوار المتمدن-العدد: 2040 - 2007 / 9 / 16 - 10:06
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
" إنما يريد الإنسان أن يكون سعيدا، ولا يريد إلا أن يكون سعيدا، ولا يسعه ألا يكون سعيدا" باسكال مقدمة: لم يكن للتلميذ إلا أن ينصاع إلى طلب أستاذه الذي اختار ملازمته والتتلمذ على يديه. فحمل وعاء يحوي حساء جريش العدس ليجوب به خلف أستاذه حي كيراميكوس(السيراميك) في أثينا. وحين ارتبك التلميذ وحاول التواري خلف أستاذه خجلاً من نظرات الناس، بادر المعلم إلى ضرب الوعاء بعصاه لينسكب الحساء على التلميذ من رأسه وحتى أخمص قدميه، فما كان من التلميذ إلا أن لاذ بالفرار.
لن ينسى زينون أبداً هذا الدرس كما لن ينسى أستاذه أقراطس الكلبي، بل ستكون عبارة الأخير بأن الحكيم "إنسان يعيش مع الطبيعة" هي الفكرة المركزية في فلسفة زينون الذي قيل عنه أنه استهبط الوحي لمعرفة أفضل حياة يحيا فأرشده إلى معاشرة الموتى فعكف على دراسة كتب القدماء. وإذا كانت الفلسفة الكلبية سميت كذلك نسبة إلى الملعب الذي كانوا يجتمعون فيه والمسمى "الكلب السريع" كما تقول إحدى الروايات، فإن فلسفة زينون ستسمى بالرواقية نسبة للرواق الذي كان يجتمع فيه زينون مع تلاميذه. ولذلك أيضا يسميهم العرب أصحاب الرواق و أصحاب المظلة أو الاصطوان.
يقسم مؤرخي الفلسفة الرواقية إلى ثلاثة مراحل:
الرواقية القديمة: والتي كان أشهر فلاسفتها بعد زينون الكيتومي (336-264 ق م) كلا من كليانتس وخريزيبوس.
الرواقية المتوسطة: كان على رأسها بانيتوس وبوزيدونيوس (القرنين الثاني والأول قبل الميلاد).
الرواقية الجديدة: والتي ظهرت في العصر الروماني أيام القياصرة وتزعمها ابيكتيتوس ومرقص أوريليوس وسنكا، وهم الرواقيون التي ستصلنا كتبهم كاملة.
فلسفة الطبيعة: التعاطف ووحدة الوجود
تميز الرواقية بين الكون والعالم. فإذا كان الكون هو مجموع العالم والخلاء، فإن العالم يشمل منظومة الكائنات التي يربط التعاطف أجزاءها. أي يشمل العالم السماء والأرض والأحياء الموجودين عليها من بشر وآلهة. والعالم قديم لكن نظامه حادث. هذا العالم هو كائن حي عاقل وهو ليس إلهيا وحسب بل هو الله ذاته. هو ملائم وبمنتهى الدقة والانسجام. يقول مرقص أوريليوس: (( أيها العالم، كل ما يلائمك يلائمني أنا نفسي. لاشيء بالنسبة لي سابق لأوانه أو يتأخر عنه، إذا جاء في أوانه بالنسبة لك. كل ما تحمله الأيام هو بالنسبة لي فاكهة لذيذة. أيتها الطبيعة منك يخرج كل شيء، وفيك يقوم كل شيء، وإليك يعود كل شيء)).
وتتشكل المادة من أربع اسطقسات(عناصر)، اثنان فاعلان: هما الهواء والنار، وآخران منفعلان هما التراب والماء. تنطلق حركة أولى من النار إلى التراب مارة بالهواء والماء، وتوجد هذه الحركة في دورات الحياة والموت التي تمر بها الكائنات الحية. وهناك حركة ثانية هي التي تذهب من التراب إلى النار مارة باتجاه معاكس يكل الحالات الوسيطة السابقة، وتمثل هذه الرجعة احتراقا كليا يتمدد عبره العالم في الخلاء الغير محدود وتتحول كل الأشياء إلى نار. لكن ينبغي ألا نظن أن التحول الأخير هو تدمير كلي ونهائي للكون بل على العكس، إنما هو تجديد له. فهناك دائما عود سرمدي للكائنات والحوادث، إذ سيوجد دائما ومن جديد أفلاطون وأرسطو....فيمكن التمييز إذا بين نارين، نار فنانة تساعد في النمو ومحافظة كتلك التي توجد في النبات والحيوان، وهذه النار هي الطبيعة والنفس أو هي الله، وهي تعمل منهجيا على تجديد الأشياء. وهناك نار أخرى هي النار غير الفنانة التي تستهلك فيها ما يغذيها.
الأجسام هي الحقائق الواقعية الوحيدة والجوهر الوحيد. ويتحدد كل جسم بأمرين: كيفية خاصة: فلا توجد بيضتان متشابهتان تماما. توتر داخلي: وهو البنية في الجماد، والطبيعة في النبات، والنفس في الحيوان، والروح في الإنسان. أما اللاجسميات عند الرواقيين فهي أربعة: المعنى والخلاء والمكان والزمان. والله جسم سائل ينتشر عبر العالم كله ممتدا عبر المادة امتداد العسل في الشهد، وما العقل الإنساني إلا جزء من الروح الإلهي مغموس في جسم الإنسان. أما تعاطف الأجسام وإحاطة الإنسان في العالم فليسا سوى وجهين مختلفين من دائرة الوجود. ويستعمل الرواقيون عبارات عديدة للدلالة على "التعاطف" منها: عدوى الطبيعة، وجدان الطبيعة، روابط اتصال العالم...الخ. يمكن القول أن مفهوم التعاطف عند الرواقية هو إحدى صور التعبير عن وحدة الله والعالم، فكما أن نقطة الخمر حين تلقى في البحر تنتشر في البحر كله ومنه إلى الكون كله، كذلك يكون لأقل الحوادث وزناً أثر رجعي في العالم كله. وتحتمل نظرية التعاطف بعدين:
ـ بعد ميتافيزيقي: فبما أن هذا التعاطف مؤسس في الله وبالله فهو يتضمن غائية للطبيعة تفترض تدابير عطوفة لعناية إلهية كلية القدرة.
ـ بعد أخلاقي: فحياة الحكيم هي حياة عرفت كيف تقيم الانسجام في داخلها وأن تظل في تعاطف مع الكون الذي تشارك فيه.
نجد أن فيزياء الرواقيين هي خليط من آراء سابقة لاسيما آراء أرسطو وهيراقليطس. لكن بينما يتوقف اقتران المادة والصورة عند محرك أرسطو الذي لا يتحرك (الله) الذي ليس اتحادا للمادة والصورة بل هو صورة محضة بريئة من المادة. نجد أن هناك عند الرواقية نوع ما من وحدة الوجود حيث تتم هنا المطابقة بين الله والعالم، فالعالم جسم واحد حي تسري فيه نفس مادية. وفي الوقت الذي تبقي فيه الرواقية على بعض فكر هيراقليطس كنشوء العالم من النار وفكرة الدورة(السنة الكبرى) التي تنتهي بالاحتراق التام ويعود العالم كله نارا والتي ربما تكون استوحتها مباشرة من الفكر الغنوصي الشرقي القديم، فإنها تعارض الإلحادية الأبيقورية حين تلح على الطابع الإلهي للعالم والنفس التي تسري فيه وللعقل الذي يتجلى في هذا العالم.
نظرية المعرفة: العلم والمنطق
المعرفة عند الرواقيين ترجع إلى الحس، والأصل في المعرفة أن الشيء يطبع صورته في الحس بفعل مباشر لا بواسطة أشباه كما ارتأى الأبيقوريون. والمعرفة على هذا النحو هي أفكار حقيقية يقينية تمتاز بالدقة والوضوح. وهذه الأفكار الحقيقة هي الدرجة الأولى من درجات المعرفة، يشبهها زينون باليد المبسوطة. الدرجة الثانية هي التصديق ويشبهها باليد المقبوضة قبضاً خفيفاً، ويقوم التصديق في النفس رداً على التأثير الخارجي وهو متعلق بالإرادة. أما الدرجة الثالثة فهي الفهم، وهو يشبه اليد المقبوضة قبضا تاماً. وهناك درجة رابعة وأخيرة وهي العلم الذي يشبه اليد المقبوضة بقوة والمضغوط عليها باليد الأخرى.
العلم إذا هو تنظيم للمعرفة الحسية، أي جميع الإدراكات الجزئية وسلكها في مجموعة متناسقة تصور وحدة الوجود. أما إذا اعتبرنا القضايا والحجج التي نركبها بمناسبة الأشياء وأهملنا الأشياء صار لنا علم المنطق. والمنطق عند الرواقيين ليس مجرد آلة أو أداة (ارغانون) كما اعتقد أرسطو، بل هو مقدمة للفلسفة وجزء جوهري منها، فهو يتضمن رؤية للعالم تدعمه، ومذهبا اسمياً يؤكد أن الفرد هو وحده الذي يملك الحقيقة الواقعية في حين أن التصورات ما هي إلا مجرد كلمات. فالوجود الحقيقي عند الرواقيين هو للفردي أما العام أو التصور فما هو إلا كلمة فارغة.
يسعى المنطق الرواقي إلى أن يحدد تضمن الحوادث وفقا للحقيقة ولا يهتم بدراسة دمج التصورات بعضها إلى بعض. فالقضية عند الرواقيين ليست حكما حملياً تسند محمولات إلى موضوع نحو(الغزال حيوان) بل هي قضية تعبر عن حوادث (الشمس ساطعة) أو (السماء ممطرة)، بمعنى آخر، القضية عند الرواقيين هي صدور فعل عن فاعل (سقراط يتكلم) وليست وضع نسبة بين معنيين كما هي حالها عند أفلاطون وأرسطو. فالاستدلال الأرسطي يقوم على دمج مفاهيم في نموذج معروف: (كل إنسان فان ـ سقراط إنسان : سقراط فان). أما الاستدلال الرواقي فيستند أساسا إلى تضمن العلاقات الزمانية: (إذا كان في ثديي هذه المرأة حليب، فذلك لأنها ولدت). هكذا أحل الرواقيون منطق اللزوم أو الاستتباع مكان منطق التلازم أو الاستغراق. فمعرفة العلاقات الزمانية وروابط الضرورة بين مقدم وتال هي المهمة الأولى للإنسان الذي يريد أن يعيش وفق العقل أي وفق الطبيعة. هنا نجدنا أمام فكرة القانون بدلاً من فكرة الماهية.
أما الجدل عند الرواقية فيبدو أنه بلغ سن الرشد مع خريزيبوس حتى قيل: ((لو كانت الآلهة تمارس الجدل لاختارت جدل خريزيبوس)). ويعتبر الرواقيون جدلهم فضيلة تحوي داخلها كل الفضائل الأخرى. ففيه التبصر الذي يعلمنا متى يليق بنا أن نؤيد ومتى لا يليق بنا ذلك. وفيه الفطنة وهي القدرة على أن نعارض بالأدلة ما ليس حقيقياً إلا في ظاهره بغية ألا ننقاد إليه. وفيه الصرامة أو قوة الاستدلال. وأيضا فيه الرزانة وتعني المقدرة على أن نؤلف بين التمثلات في استدلال صحيح.
الجبرية العاقلة أو الوفاق مع الطبيعة:
شعار الرواقية كما قدمنا هو العيش في وفاق مع الطبيعة، فإذا كان الحكيم لا يستطيع أن يغير من سنن الكون شيئاً فبوسعه أن يتقبل بكل الرضا جميع ما يحمله قدره إليه فلا يجزع أو يحزن على أحد مهما كانت صلته به، وبوسعه أن يستأصل من نفسه كل ما يخالف منطق العقل من ألم وخوف وأوهام. لكن ما هو حيز الحرية المتروكة للإنسان أمام هذه الجبرية المطلقة؟ ألم يسخر الأبيقوريون مما يراه البعض قدرا وأن الإنسان نفسه هو سيد هذا العالم ولا سيد له؟ ترى الرواقية أنه يمكن الحفاظ على فكرة القدر مع تجنب فكرة الضرورة. حيث يميز خريزيبوس بين نوعين من العلل: العلل الباطنة، وهي العلل الأساسية والكاملة المتوقفة علينا، والعلل المساعدة والمقدمة وهي التي تكون سلسلة القدر. فهناك سلسلة من العلل المقدمة ستجعل مثلاً من هذا اليوم ماطراً. لكن العلل الأساسية الباطنة التي تتوقف علينا هي التي ستحدد الطريقة التي سنواجه بها هذا الحادث الخارجي. وهنا يلجأ خريزيبوس إلى مثاله حول المخروط والاسطوانة. حيث سيتحرك هذان بفضل دفع خارجي (علة مساعدة مقدمة) لكن سيتحرك كل منهما وفق طريقته الخاصة بحسب بنيته( علة باطنة كاملة أساسية). إذا لا تقوم حرية الإنسان على أن يريد أن يحدث كل شيء وفق رغباته. لا يوجد خلف أكبر من ذلك. فإذا كنت أريد أن أكتب اسم(زيد) فيجب أن أكتبه لا كما أريد أنا بل كما هو. ويذهب ابيكتيتوس إلى أن الحرية تقوم على أن تريد أن تحدث الأشياء لا كما يحلو لك ذلك وإنما كما تحدث هي، فإذا (( كنت مجبرا على أن أركب البحر فعلي أن أحسن اختيار المركب والقبطان والبحارة والفصل والنهار والرياح، هو ذا كل ما يتوقف عليّ. وبعدما أصبح في عرض البحر تطرأ عاصفة هوجاء، الأمر لم يعد أمري إنه أمر القبطان، فإذا غرق المركب ماذا عليّ أن أفعل؟ لن أعذب نفسي إطلاقاً، كل ما هو مولود يجب أن يموت إنه القانون العام، إذاً يجب أن أموت)). الأبيقورية تطالب الإنسان أن يتعلق باللحظة الحاضرة وبما تمنحه إياه من لذة دونما أن يكون هناك أي قدر فكل شيء في العالم يفسر بعلل فيزيائية. الحكيم الأبيقوري ليس له سيد بل متحرر دائما من الخشية من الآلهة والهلع من الموت، فيكون هو نفسه إلها بين البشر متحرراً من الحركة الباطلة للأشياء والموجودات. أما الحكيم الرواقي هو ذاك الذي يحب الزمان ويخضع له لأنه يعبر عن حياة العالم وتعاطف الإنسان مع الموجودات وإرادة الله. فنحن لا نخاف من الموت لأنه عملية طبيعية وانحلال انطلاقا منه تتولد أشياء أخرى. هكذا يكف القدر أن يكون قوة هي بجوهرها من خارج العالم، بل هو حقيقة واقعية تندرج في بنية العالم. إنه النظام الثابت في الأشياء. هو ترتيب يقوم منذ الأزل لكل شيء ويتبع ويرافق كل شيء آخر ولا يمكن انتهاكه، فهو عقل العالم أو قانون كل الأشياء الموجودة في العالم والتي تسوسها العناية الإلهية. إنه بتعبير آخر تلك الجبرية العاقلة.
الفضيلة والسعادة:
هكذا ترفض الرواقية الحرية كما يفهمها الأبيقوريون. فأفعال الناس لا تتمايز بكونها حرة أم لا، فكلها تخضع للضرورة الصارمة التي لا مفر منها وإنما تتمايز بكيفية انسياقها مع هذه الضرورة تلقائياً أم قسرياً. والسعادة لا تنتج عن اللذة بل إلى قبول الحادث باعتباره تعبيراً عن النظام. والخير هو الفضيلة وهي تعبير عن انسجام داخلي يتوحد هوياً مع انسجام العالم الكلي، لذلك اعتبر خريزيبوس أن الجميل هو وحده الحسن.
السعادة نتيجة للفضيلة، والفضيلة كائن حي، فهي من حيث الماهية بالفكر تكون، لنقل أنها رصانة عقلية. يقول ديوجينس اللارسي: (( إن من أغضبك ليس ذلك الشخص بل رأيك أنت، فاسع قبل كل شيء ألاتترك نفسك تنجرف مع خيالك، لأنك إذا ما تمهلت وترويت سيسهل عليك أن تكون سيد نفسك)). أما أبيكتيتوس فيتساءل قائلاً: (( ماذا يجعل الطاغية مخيفاً؟)) يتابع: ((إنهم أصحابه وأتباعه المسلحون بالسيوف والرماح. لكن الطفل يقترب منهم دون أن يخافهم. لماذا؟ لأنه لا يعرف الخطر. وأنت عليك ألا تعرفه وتزدريه)). الميل الأولي في الإنسان إنما هو حب البقاء وهو الذي يهدينا إلى التمييز بين ما هو موافق للطبيعة وما هو مضاد لها، فنحن ،حسب الرواقية، نطلب ما ينفعنا ونتجنب ما يضرنا عملاً بهذا الميل الأولي الذي هو ليس منصرفاً إلى اللذة كما هي الحال عند الأبيقوريين، لأن اللذة عرض ينشأ حين يحصل الكائن على ما يوافق الطبيعة. إن اتخاذ اللذة الناشئة عن الإشباع غرضاً وغاية يؤدي إلى انحراف الميول، وتساعد البيئة في ذلك بما تفرضه على الأطفال من عادات لاتقاء البرد والجوع والألم على أنواعه فنقنعهم أن كل ألم شر، وتشيد على لسان الأهل والمربيين والمرضعات والشعراء والفنانين باللذة والمال والكرامة، فتنقلب الميول إلى انفعالات وأهواء مضادة للعقل تحول دون الفضيلة والسعادة. وليس الانفعال هو الإحساس اللاذ أو المؤلم الحادث في النفس عن الأشياء ولكنه قبول النفس لهذا الإحساس. والفرق بينهما كالفرق بين الألم والحزن. الحزن والغبطة موقفان للإنسان بما هو موجود عاقل بإزاء الألم واللذة الذين هما حالان للإنسان بما هو حاس.
الانفعال إذا هو الصادر عن رضا النفس أو نفورها بإزاء إحساس ما أو حدث ما. فليس حكمنا بأن موت الصديق مصيبة هو الذي يحرك النفس بل حكمنا أنه من اللازم أن نحزن لهذا المصيبة، فإذا أردنا أن نستبعد الحزن وجب أن نستبعد هذا الحكم الأخير. ينقل عنهم شيشرون: (( كيف لا نقوم بأحكام خاطئة؟ لقد علمونا ذلك منذ طفولتنا. إذا ما تعثرنا بحجر وبكينا تنهال المربية التي تعلمنا المشي بالضرب على الحجر بدلاً من أن توبخنا. إيه ربي، ما ذنب هذا الحجر المسكين؟! هل كان عليه هو أن يخمن أننا سنتعثر به وأن يغير مكانه؟! عندما نصبح كباراً ونكلف بالوظائف نجد أنفسنا كل يوم أمام أسئلة مشابهة. هو ذا السبب في أننا نعيش ونموت أطفالاً(...) ندعو في الحياة طفلاً من لا يعرف كيف يعيش ولا يمتلك آراء سليمة))
النزعة الكسموبوليتية و المواطنة العالمية:
السعادة هي الخير الأقصى فليس يفضلها شيء آخر يمكن أن يناله الإنسان فكل ما عداها هو وسيلة لبلوغ السعادة. ومن الطبيعي أن تكون الغاية القصوى من التفلسف هي تحقيق السعادة. لكن عند الرواقيين السعادة ليست فردية ولا يمكن لها أن تكون كذلك بل هي جماعية، فما ليس بنافع للخشرم (جماعة النحل) ليس بنافع للنحلة. فالاجتماع الإنساني هو بحد ذاته موافق للطبيعة وهو صادر عن الأسرة التي هي جماعة طبيعية بامتداد التعاطف إلى خارج نطاقها. أما الأعراف والقوانين المختلفة بين الشعوب فهي عرفية بحتة ولا ينبغي أن يقف التعاطف بين الناس عند حد ولا أن يتفرقوا مدنا وشعوباً فجميعهم أخوة وليس بينهم أسياداً أو عبيداً. وعلى الحكيم الرواقي بالتالي ألا يعلن نفسه مواطناً أثينياً وحسب بل مواطناً في العالم أجمع. هنا تكرس الرواقية مفهوم المواطنة العالمية وتسجل نقلة نوعية لمفهوم المساواة. يقول زينون(( الناس كلهم مواطنو العالم(...) العالم موطن الإنسان والإنسان مواطن العالم)).
تجد هذه المساواة مبرراتها في أن الإنسان وحده العاقل بين جميع الكائنات الأخرى فإن أي فرد من أفراد الجنس الإنساني مساو لأي فرد آخر لاشتراكهما في الميزة الإلهية التي اختص بها البشر وهي العقل. فلا فرق إذاً بين حر وعبد أو بين رجل وامرأة أو بين يوناني وأجنبي أو بين غني وفقير، فهذه الفروق وليدة العادات والتقاليد. وإذا كانت العادات هي قانون البيئات المحلية فإن العقل هو قانون العالم وهو القانون الطبيعي الحقيقي وبه نحكم على قيمة التقاليد والقوانين المحلية و ونعرف فسادها من صلاحها. العرف ليس بالضرورة موافقاً للطبيعة والأولية والأولوية دائما للطبيعي. فعالمية الإنسان المواطن هي حكم الطبيعة. وهذا المواطن ليس مواطناً مجرداً فهو لا يعنى بأوهام تحقيق المدينة الفاضلة ولا يعتزل الحياة، بل يقوم بجميع وظائف المواطن. فيؤسس أسرة ويعنى بالسياسة ولا يثور على النظام القائم بل يجتهد في حسن التصرف في السياسة، فالحكيم سعيد ولو كان في ثور فالاريس (وهو أحد الطغاة في جزيرة صقلية في القرن السادس ق. م كان يشوي ضحاياه في تمثال ثور من البرنز المفرغ). هكذا كانت الرواقية ثورة سلبية استجابت لروح العصر الهيلنستي بتعدد شعوبه ومدنه وداعبت ذلك الحلم بتشييد دولة رومانية عالمية.
ولم يلح الرواقيون على المناصب السياسية فهي بالنسبة لهم كحبة البندق، إذا وقعت على ثوب الإنسان صدفة أخذها وأكلها وهذا كل ما تساويه، لكن الحكيم الرواقي لا ينحني لالتقاطها ولا يدافع أحداً للحصول عليها. يمكن أن نستثني من هذا المبدأ سيرة سنكا الذي خطب في العصر الروماني ود البلاط الإمبراطوري فعهد إليه بتربية نيرون. وهو من كتب له خطابه الذي ألقاه أمام مجلس الشيوخ مبرراً جريمة قتل أمه. لكن سنكا فقد الحظوة لاحقاً ومات بأمر من نيرون منتحراً بقطع شرايينه. أما مرقص أوريليوس فلم يكن بحاجة لأن يخطب ود البلاط فقد كان هو نفسه إمبراطورا. لكن عصره كان عصر قلاقل وفتن وكان عليه مواجهة ظروف صعبة ليس أقلها مواجهة حشود البرابرة على الحدود وتمرد القواد والمجاعات، بالإضافة إلى الطاعون الذي هو نفسه كان على ما يبدو أحد ضحاياه عام180 م.
خاتمة:
يحتفظ الرواقيون للآلهة بأسمائها الشعبية الميثولوجية وإن استخدموا التأويل المجازي الفيثاغورثي بحيث يحافظون في الوقت نفسه على ما تشير إليه عندهم من كواكب وأحداث كونية. وهم يذكرون الله كما قلنا ويتوجهون إليه بالصلاة. وحاولوا دائما مجارات الجمهور والتعبير عنه. مع ذلك لم يقدر للفلسفة الرواقية أن تصبح فلسفة شعبية ولم تنتشر انتشار المسيحية المعاصرة لها والتي تأثرت بها بشكل أو بآخر بل ظلت الرواقية حكراً على النخبة المثقفة. وربما يعود ذلك لعدة أسباب:
ـ كانت الأخلاق الرواقية أخلاقاً صارمة تطالب الحكيم بالخضوع للقدر والنظام بألا يجزع أو يحزن على أحد مهما كانت صلته به الأمر الذي يخرج عن حدود الطاقة البشرية. والسعادة التي نادت بها الرواقية هي أشبه بالسعادة الداخلية المعزولة كلياً عن كل الظروف الخارجية. يقول ابكتيتوس: ((إذا رأيت إنساناً يخور من الحزن(...) فلا تتردد أن تخور وإياه، لكن حذار من أن تخور من أعماق نفسك)).
ـ ظلت الحكمة عند الرواقيين مفهوما مجرداً، فاتفقت الرواقية على أن لا أحداً من البشر كان حكيماً كاملاً حتى ولا سقراط نفسه. ولم تتجسد الحكمة في شخص كما هو حال المسيحية التي نجحت في تجسيد الله في الإنسان فاستطاعت بذلك إثارة عواطف الناس بعقيدة الخلاص أكثر مما استطاعت ذلك عقيدة العود السرمدي الرواقية. فإذا كان هناك عود أبدي بحيث يعود العالم بما احتوى، أفلا يكون من المناسب أن يعود أفضل مما كان؟ إن الثورة السلبية والخلاص الرواقي من حيث هو تحرر نفسي فردي كان يتطلب وعداً بعالم أفضل.
ـ قسمت الرواقية الناس إلى جاهل وفاضل وبدا أن هذا التقسيم نهائي. فيعتقد كليانتس أن من يمتلك الفضيلة لا يمكن بعد أن يفقدها لأن لها مقابض متينة يتمسك بها من يختارها. لذلك لم يعبأ الرواقيون بمن كان جاهلاً بل ترفعوا عن هؤلاء وتركوهم وشأنهم بدل أن يقدموا لهم يد العون.
ـ ولا تخلوا الفلسفة الرواقية من تناقض، ففي الوقت الذي طالبت فيه بالخضوع للطبيعة والتسليم بمشيئة القدر وعدم الاعتراض، فإنها بإلحاحها على عدم الخشية من الموت باعتباره جزء من العودة السرمدية انتهت إلى تكريس مبدأ الانتحار حين يعجز الحكيم عن أن يحيا حياة سعيدة. فها هو مثلاً كليانتس حين منعه الأطباء من تناول الطعام لمدة يومين لورم في لثته، يرفض العودة إلى تناول الطعام ويستسلم للموت جوعاً بعد أن عمر حسب رأيه بما فيه الكفاية.
بالرغم من هذا الإخفاق الشعبي للوغوس أمام الميثوس ظل تأثير الرواقية قويا عبر مختلف العصور ابتداء بالعصور القديمة مرورا بالعصور الوسطى وعصر النهضة حتى الأزمنة الحديثة فتشبع بأفكارهم العديد من الفلاسفة كإخوان الصفا ومونتييه وديكارت وباسكال و كانط. بل كان لها تأثير بالغ على مفكري المسيحية وعلى التشريع الروماني عموماً.
المراجع: ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- كرم، يوسف. تاريخ الفلسفة اليونانية. بيروت: دار القلم. 2- بران، جان. الفلسفة الرواقية. عربه وعلق عليه جورج أبو كسم، قدم له د.عادل العوا. ط1. دمشق: الأبجدية للنشر، 1990. 3- جماعة من الأساتذة السوفييت. موجز تاريخ الفلسفة. تعريب توفيق إبراهيم سلوم. راجعه د. خضر زكريا. إصدار مشترك لدار الجماهير العربية ومكتبة ميسلون. 4- إيلياد، ميرسيا. أسطورة العودة الأبدية. ترجمة حبيب كاسوحة. دمشق: منشورات وزارة الثقافة،1990.
#حسام_أبو_حامد (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
حركة -حماس- : النضج السياسي المطلوب واحتمالات الربح والخسارة
-
-حركة حماس: المراجعات وزمن الفتوح الإسلامية... ونهاية -الحقب
...
-
الثقافي والسياسي... وسرير بروقرسطس
-
ثقافة - البسطة- وأزمة اليسار العربي
-
أيديولوجيا الموت واغتيال عمر المختار
-
التأويل ومسألة اليقين..والعلاقة بين المعرفي والأيديولوجي
-
حق العودة وأزمة الخصوصية اللبنانية
-
أبو حيان التنوحيدي: إغتراب المثقف بين باب الله وباب السلطان
-
من النص القراني إلى الفلسفة العربية الإسلامية... ملاحظات منه
...
-
المثقف العربي : من سياسة تدبير العوام و تدبير المتوحد إلى سي
...
-
حركة -حماس- واستحقاقات مرحلة ما بعد الانسحاب الإسرائيلي من غ
...
المزيد.....
-
مجلس الوزراء السعودي يوافق على -سلم رواتب الوظائف الهندسية-.
...
-
إقلاع أول رحلة من مطار دمشق الدولي بعد سقوط نظام الأسد
-
صيادون أمريكيون يصطادون دبا من أعلى شجرة ليسقط على أحدهم ويق
...
-
الخارجية الروسية تؤكد طرح قضية الهجوم الإرهابي على كيريلوف ف
...
-
سفير تركيا في مصر يرد على مشاركة بلاده في إسقاط بشار الأسد
-
ماذا نعرف عن جزيرة مايوت التي رفضت الانضمام إلى الدول العربي
...
-
مجلس الأمن يطالب بعملية سياسية -جامعة- في سوريا وروسيا أول ا
...
-
أصول بمليارات الدولارات .. أين اختفت أموال عائلة الأسد؟
-
كيف تحافظ على صحة دماغك وتقي نفسك من الخرف؟
-
الجيش الإسرائيلي: إصابة سائق حافلة إسرائيلي برصاص فلسطينيين
...
المزيد.....
-
تداولية المسؤولية الأخلاقية
/ زهير الخويلدي
-
كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج
/ زهير الخويلدي
-
معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية
/ زهير الخويلدي
-
الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا
...
/ قاسم المحبشي
-
الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا
...
/ غازي الصوراني
-
حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس
/ محمد الهلالي
-
حقوق الإنسان من منظور نقدي
/ محمد الهلالي وخديجة رياضي
-
فلسفات تسائل حياتنا
/ محمد الهلالي
-
المُعاناة، المَعنى، العِناية/ مقالة ضد تبرير الشر
/ ياسين الحاج صالح
-
الحلم جنين الواقع -الجزء التاسع
/ كريمة سلام
المزيد.....
|