أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - وليد المسعودي - مشروع ديكارت الفلسفي وإعادة ترتيب الوجود















المزيد.....


مشروع ديكارت الفلسفي وإعادة ترتيب الوجود


وليد المسعودي

الحوار المتمدن-العدد: 2037 - 2007 / 9 / 13 - 11:06
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


يعد رينيه ديكارت (1596 ــ 1650) واحدا من الفلاسفة الذين لعبوا دورا كبيرا في تغيير مسارات الفلسفة الغربية من سيادة وانتشار النزعة الغائية والمسلمات المسبقة حول الطبيعة والانسان الي النظرة الجديدة القائمة علي البحث العلمي الحر من دون عوائق ابستيمولوجية معينة، إذ استفاد كثيرا من تطوير المنهج الرياضي ومحاولة تطبيقه علي الطبيعة والميتافيزيقا والمعرفة البشرية، بعد ان كانت الفلسفة غارقة في الاشكال المدرسية التقليدية التي تعتمد علي الرمز والاسطورة والمتعاليات الالهية بعيدا عن اية رؤية او نظرة من الممكن ان تقود الي التداخل بين المادي والمعرفي اي بين المنجز العلمي والمعرفي لدي الانسان وبين المادي من طبيعة وموجودات محاطة بأنظمة فكر وتصورات معينة. فكانت الخطوة الاولي التي خطاها ديكارت تكمن في ثنائية المادة والعقل بصفتهما عالمين مختلفين متنابذين، من حيث ان الاول اي المادة تملك الكثافة والحركة وحيازة المكان وامكانية القياس " ضمن رؤية ديكارت " اما العقل فيملك جاهزية التفكير وغياب الحضور المادي اما الخطوة الثانية فتظهر من خلال مكتشفات غاليلو وكوبرنيك حول حركة الاجسام السماوية ومدي ارتباطها بصيغ جديدة معتمدة علي المنهج الرياضي حتي تصور ديكارت ضمن ذلك ان الله ماهو إلا عالم هندسة وان الرياضيات هي لغة العلم، اشارة الي ما تملكه الأخيرة اي الرياضيات من دقة متناهية لا يتخللها الشك او عدم اليقين (مدخل الي الفلسفة/جون لويس/المكتبة الاشتراكية ــ بيروت/الطبعة الثالثة ص 83). وهنا يوضح ديكارت مادية العالم وطبيعته المتحركة من خلال استخدامه المنهج الرياضي الذي يقود بدوره الي جعل الطبيعة والعالم والموجودات ماهي الا تصورات في اذهاننا لا تملك الوجود الواقعي، هناك الحركة والكثافة اما الوجود الواقعي والمحسوس فانه يرتبط بالعقل فحسب. اليس في ذلك الأمر محاولة اولي في تأسيس" مركزية الانسان" من خلال جعل مصادر الموجودات الطبيعية في اذهاننا وان العالم الطبيعي تحكمه القوانين الميكانيكية من جهة وكذلك نسيان للطبيعة ذاتها من خلال ذلك المحو لما موجود من طبيعة واثرها كالطعم والرائحة واللون والحياة والجماد.. الخ من جهة اخري، فكل هذه لا تمت بصلة الي العالم الطبيعي، اي إنها مجرد أشياء في أذهاننا " وان العالم لا يكتسب تنوعه وثرائه الكيفي إلا من خلالنا " من جهة اخري (المصدر نفسه/ص 83) .

دفعة اساسية للفلسفة
فتحولت بذلك العلاقة بين الانسان والمعرفة من العمودي الي الافقي اي من الميتافيزيقا بصفتها رائدة للتفسير والفهم بشكل غائي لا يحكمه منطق التطور والتغيير الي الانسان الذي يفكر وان بأمكانه ان يحقق التجاوز، وان يكون ذلك الانسان "سيدا علي الطبيعة ومالكها الوحيد" ولكن من الممكن ان نشير هنا الي مفارقة تكمن لدي ذلك السيد الذي حلم به ديكارت في القرن السابع عشر كان هنالك نقيضه، متمثلا في جميع المنبوذين والمهمشين والسجناء الذين يعيشون في عالم بلا طبيعة انسانية من خلال عملية الجمع في مكان واحد سجني يتمثل بالمشفي الذي انجز في القرن السابع عشر والذي جمع الفقراء والمجانين والمبدعين الذين يمتلكون معرفة مغايرة لنسق السلطة السائد حينئذ، فضلا عن المجرمين والخارجين عن القانون علي حد سواء. ان ديكارت أعطي من خلال ذلك الامر اي من خلال هذه المركزية الجديدة دفعة اساسية للفلسفة في تحولاتها القادمة من حيث بداية التفكير ومركزته لدي الانسان ووجوده ومن ثم هنالك الملاحظة والتجربة في الحقب التالية بعد ديكارت، إذ نجد علي سبيل المثال ان (كانت) لم يتبع اسلوب الشك في الاطاحة بالنظام القديم للمعرفة من اجل ان يؤسس صرح العلم الجديد بل كان ذلك الاخير اكثر سيادة ورسوخا وجاهزية من حيث المعرفة الجديدة القائمة علي العلم واليقين الكلي من النتائج الجديدة، فلم تعد الحاجة حينها الي الشك بعد ان وصلت النتائج والرؤي الي اشكال مغايرة ومختلفة عما كانت في زمن ديكارت الذي كان يهدف الي استخدام منهج الشك من اجل تحقيق التجاوز والتقدم في مجالات العلم والمعرفة معتمدا علي المادية الميكانيكية الصاعدة ومكتشفاتها الجديدة (دراسات في الفلسفة/العلم في الفلسفة/حمادي بن جاء بالله/دار الشؤون الثقافية العامة ــ بغداد 1986ص39).او كما يقول ميشيل فوكو "ان ديكارت شخصية رمزية تبحث عن اليقين في مشروع قابل لضمانه " خصوصا وان الانسان في زمن ديكارت اي في العصر الكلاسيكي لم يكن يملك دور الخالق ورئيس الحراقين (الصانعين) دور محفوظ لله كما يري فوكو بل كان يملك المرتبة الثانية اي دور القدرة علي التفسير والتوضيح وليس السيطرة والابداع التي تحققت فيما بعد من خلال امتلاك الوضوح في المفاهيم متمثلا في كوجيتو ديكارت (انا افكر ــ اذن انا موجود) (ميشيل فوكو... مسيرة فلسفية/اوبير دريفوس ــ بول رابينوف/مركز الانماء القومي/بيروت ــ لبنان ص 24 ــ 25).

ديكارات يتراجع!
يقول المفكر صادق جلال العظم ان "ديكارت لم يكن توفيقيا علي طريقة الاراء الشائعة حول التوفيق بين رأي الحكيمين او بين الشريعة والفلسفة اوما شابه ذلك بل انه كان مثل علماء عصره قد وجدوا طريقة او اخري للتعايش مع المعتقدات الدينية والروحية وذلك من اجل تضييق رقعة شمولها وتقليص دائرة نفوذها تدريجيا لصالح المادية الميكانيكية " (عن الفلسفة الحديثة وتاريخها/مقابلة مع صادق جلال العظم/مجلة دراسات عربية ــ العددان 1/2 ــ 1985 ــ ص95) وهنا نجد ذلك التعبير صحيحا عندما نعي جيدا كيف كان يعاني زمن ديكارت من هيمنة "المدرسيات " اي الاشكال التقليدية في الفهم والمعرفة وخصوصا ما كانت تمارسه سلطة الكنيسة من تضييق كبير لمصادر المعرفة والعلم الجديدين اللذان عملا علي الاطاحة بسلطتها الدينية والمعرفية، وديكارت ذاته قد تراجع عن نشر كتابه " العالم " الذي يوجز فيه طبيعة الاشياء المادية وحركتها وفقا للتطورات العلمية الحديثة، عندما سمع بالحكم القاسي الذي صدر ضد غاليلو من قبل الكنيسة. إذ تم تقسيم العالم حينئذ الي ثنائية من المعرفة والقيم او الي عالمين احدهما مرتبط بالعلوم الجديدة الصاعدة ومفاهيمها تلك التي تشمل، الامتداد، العلة الفاعلة، التكرار، الكم، الحتمية، القصور والسكون من جهة والمفاهيم المرتبطة بالنفس او الروح تلك التي تشمل، الفكر، التباين، الغائية، الحرية، الكيف وغيرها ضمن الانطولوجيا التقليدية (نفس المصدر/ص95).


مفهوم الطبيعة عند ديكارت

يتحدد من خلال المادية الميكانيكية التي تعتمد علي المنهج الرياضي وذلك الاخير استطاع ديكارت ان يطوعه لصالحه الي حد كبير من خلال ايمانه بأن كل ماهو سائد في الطبيعة خاضع الي معادلات رياضية جبرية إذ يقول بهذا الصدد " ان العالم كتاب صنف بلغة رياضية والانسان لايستطيع، بدون هذه اللغة ان يفهم كلمة واحدة من كتاب هذا العالم " (رينية ديكارت/ابو الفلسفة الحديثة/الدكتور كمال يوسف الحاج/منشورات دار مكتبة الحياة/الطبعة الاولي ــ بيروت 1954 ــ ص 180) وهنا تدخل الآلية في صياغة كل ما موجود في الكون من اصغر الاجسام الموجودة الي اكثرها تعقيدا و تركيبا، فالانسان علي سبيل المثال هو مادة متحركة بطريقة رياضية جبرية تسير نحو غاية معينة، وهذه الغاية مقدرة من قبل الله، وذلك لان المادة جامدة الاصل لم تنبثق فيها الحركة إلا من خلال الارتباط الميكانيكي القديم من قبل المطلق او المحرك الاول، وهكذا يوجد ما يقف علي نقيض من هذه المادة وهو العقل الذي لا يتحرك او يلتقي مع المادة، بحيث تنعدم الفاعلية بين العقل والمادة، الجسد والروح في الطبيعة ذاتها لان وجودهما قائم علي الانفصال وليس الاتصال، الامر الذي يقود الي الفوضي وعدم التوزان بسبب هذه الثنائية التي عمل علي كشفها ديكارت بين عالمين مختلفين من جهة، وكذلك تقرير حقيقة لا تنتمي الي العلم بصلة من حيث الاعتماد علي وضوح الافكار في العقل المنطقي معتمدا علي النظرة الذاتية وليس علي اساس الملاحظة والتجربة التي اصبحت جزءا اساسيا في مقياس حقيقة الاشياء ووضوحها في الفكر العلمي الحديث من جهة اخري، وبهذا الصدد يقول جون لويس " ان النظرة الذاتية هي منبع ذلك الفيض من الخرافات والاساطير التي أملتها علينا ما سمي بالافكار الواضحة المباشرة خلال قرنين ونصف قرن " (مدخل الي الفلسفة ص 87) علما ان ديكارت كان بعيدا عن الاهتمام بالحقيقة اهتماما اكاديميا وبحثيا بل كانت مرتبطة اي الحقيقة والفلسفة لديه كأسلوب للحياة والعيش وتفسير العالم مثله مثل افلاطون وارسطو وتوما الاكويني ولايبنتز وسبينوزا وكانط وهيجل. ان الطبيعة ضمن ماديتها لدي ديكارت لا تحمل الانغلاق او النهاية بل تملك الانفتاح الدائم علي معطيات عالم غير محدد او مغلق ضمن جاهزية معينة من القيم والمعرفة والتغيرات والفساد.. الخ بل هنالك وحدة القوانين التي تخضع لها هذه الطبيعة بعيدا عن التصورات التي كانت تضفيها القرون الوسطي، تلك المتعلقة بوجود وتحديد العالم وفقا لتدرجات معينة تمليها سلطة معرفية تضبط الزمان والمكان ضمن إطارها، بحيث يتحول البشر الي كتل مادية لا تحمل التأثير علي عالمها، ما دام ذلك الاخير محدد سلفا وفقا لارادة معينة لديها الحضور والهيمنة الي حد بعيد، وما عمله مشروع ديكارت يكمن في إعادة صياغة المكان وإعطائه صبغة هندسية جديدة تغير المفهوم القديم للمكان ، القائم علي النظرة الارسطية، تلك التي تؤكد ان المكان متباين الاجزاء، ليحل محله المفهوم الجديد للهندسة الاقليدية الذي يعتبر المكان "متجانسا لا متناهيا، والذي يعد مطابقا في بنيته للمكان الواقعي " كما يري ذلك (أ. كويري)، الامر الذي ادي الي تخلي الفكر العلمي عن جميع الاعتبارات التي لا تنتمي الي المعرفة الموضوعية والعلمية، تلك التي تنتمي الي مجال القيم وتدرج الكمالات الاخري، وبذلك حدث انفصال بين عالم الطبيعة وعالم القيم (درس الابستيمولوجيا او نظرية المعرفة/عبد السلام بنعبد العالي ــ سالم يفوت/الطبعة الثانية/دار الشؤون الثقافية ــ بغداد 1986 ــ ص 16). هذا المكان الجديد جعل الانسان يسيطر علي الشروط المادية للطبيعة ويستثمرها لصالحه من حيث وجود العلاقة الجديدة معها، تلك التي تمثل في التأثير المباشر عليها، وكذلك اخضاعها لمصلحة الكل الاجتماعي البشري،من حيث التطورات والتغيرات التي تباشر لمصلحة الانسان ذاته، ذلك ما يكشفه المشروع الغربي الحديث، بالرغم من العلاقة المزدوجة بين الذات والاخر، وهنا الذات الغربية ضمن مجالها الخاص اي ضمن طبيعة التعامل مع الاخر بصفته أداة للاستغلال والاكتشاف علي حسابه وان تم تخفيف اثر ذلك عبر عصور لاحقة ومتغيرة بفضل الثورات الفكرية والعلمية، تلك التي كشفت مركزية الغرب بشكل مهيمن علي الاخرين، وكذلك العلاقة مع الآخر غير الغربي بصفته اداة للاستغلال والخضوع عبر ادوات كثيرة تتمثل في الوصاية والهيمنة وإلحاق الاخرين ضمن تبعية دائمة تحول من سيطرة الانسان من حيث الجوهر علي الطبيعة وتحقيق السعادة والرفاة من دون تأثير اساليب الصراع والاستغلال بين البشر انفسهم. يقول (اندرية ناتاف) " ان نظام ديكارت يقيم أمرا مطلقا هو علاقة تدجين الطبيعة والسيطرة عليها واستثمارها. علاقة من النوع الاقطاعي ! لقد قادتنا الي حيث نحن اليوم مع كوكب يسير نحو التخلي عن جوهره " (الفكر الحر/اندريه ناتاف/ترجمة: رندة بَعث/المؤسسة العربية للتحديث الفكري ص 76) وهنا نقول ان مشروع الغرب الحديث كان ضروريا ومهما لنجاح التجربة البشرية الجديدة، ولكن ان تتحول العلاقة مع الكائن ــ الانسان الي علاقة النفي عن جوهره البشري، فذلك تدخل فيه اعتبارات تتعلق بطبيعة الحضارة الغربية ذاتها من حيث تحولها وتطورها المتواصل عبر عقود وثورات معرفية وعلمية واجتماعية قادت الي سيادة طبقة اقتصادية معينة دون اخري، الامر الذي انشأ هذه العلاقة المزدوجة مع الانسان ــ الاخر، وهنا نجد ان المجتمعات التي تلجأ الي الارواحية والقيم المفارقة للجوهر الانساني انما تقوم بذلك نتيجة النكوص والشعور بفقدان التوازن مع العالم المعاش، سلطة ومعرفة وسياسة مهيمنة علي وعي ذلك الانسان. الامر الذي يجعلها في حالة البحث عن مخلص لها من الطبيعة، القائمة علي الحصر والضبط ضمن قيم معينة تحد من نشوء ووجود الفكر الحر الذي يؤسس ويطور علاقة الانسان مع الاخر علي حد سواء بشكل يجمع التواصل والتعايش والاهتمام ونبذ علاقة المهيمن والمهيمن عليه، ذلك ما لم تعمل علي تشكيله الحضارة الغربية ضمن شكلها المعاصر.


الشك عند ديكارت يزحزح الصخرة ويهز البناء القديم

لقد ساعدت التجربة التي افتتحها غاليلو علي من خلال المكتشفات الحديثة تلك التي اسست عملية الفصل فيما بعد بين ماهو تجريبي وماهوتأملي، تحديسي، ساعدت ديكارت علي الامكانية في طرح الاسئلة تحت عين الرقيب اللاهوتي، الامر الذي ادي الي نشوء الكوجيتو المشهور لديه متمثلا بأنا افكر ــ اذن انا موجود، من خلال منهج الشك لديه، وذلك الاخير اي الشك من شأنه ان يحدث عملية المراجعة العلمية والدقيقة حول مجمل التصورات والافكار والحقائق التي تحيطنا، فهل استطاع ديكارت من خلال الشك ان يزيل او يزحزح الصخرة التي كانت تستند عليها حقيقة العالم ضمن البناء القروسطي التقليدي ؟ وماهي قيمة الشك الذي انجزه ديكارت ؟ البداية كانت متمثلة في التقليد والتربية، في صور المعارف والحقائق التي تلقاها الانسان منذ الطفولة، فأصبحت ضمن مجال اليقين الكامل والعرف الذي لايمكن التفكير بعدم مصداقيته، وعودة ديكارت الي الافكار الاولية للطفولة يؤكد الحاحه الشديد علي إعادة عملية الخلق والتكوين من حيث الاسس والبني الفكرية بالتوافق مع العلوم الجديدة في عصره من اجل ان يبني في العلوم شيئا ثابتا ومستقرا، خصوصا بعد ان عمل التقليد علي مفارقة العقل الانساني لجميع مصادر السؤال والشك والقراءة الجديدة التي تبتعد عن "التزمن" اي ثبات الزمان ضمن صنمية معينة من الافكار والحقائق، ومن هنا بدأ ديكارت في منهج الشك الحازم حول الافكار التي يتصورها العقل في وضوح ويقين كاملين، الي القراءة عبر الاستقراء الدقيق لهذه الافكار لاكتشاف النتائج الجديدة من خلال التمييز بين الافكار الواضحة التي لا تقبل الشك وبين الافكار التي من الممكن وصول الشك اليها (مدخل الي الفلسفة/ص 82).

الشمس متغيرة
بعد ذلك ينتقل الي الشك في الاحساسات من حيث تقلبها وتغيرها الدائمين وصولا الي فكرة ان هذه الاحساسات لا تعبر عن حقيقة الواقع الخارجي، بل تملك الكثير من الزيف وعدم اليقين، وهكذا يغدو الالم الذي يشعر به الإنسان الذي فقد أحد أعضائه علي سبيل المثال لا يمكن الوثوق به، كذلك الحال مع رؤية الإنسان لبعض المناضر والصور في الطبيعية عن بعد لا يضمن الوصول الي حقيقتها، إذ يقول في التأمل الثالث " لاحظت في احوال كثيرة ان هناك فرقا كبيرا بين الموضوع وفكرته:فمثلا أجد في نفسي فكرتين عن الشمس متباينتين كل التباين، احدهما مصدرها الحواس، ويجب ان تندرج تحت جنس الأفكار، التي قلت آنفا انها آنية من الخارج، (الشمس في غاية الصغر) والاخري مستمدة من ادلة علم الفلك اي من بعض معان مفطورة في نفسي او من صنعي علي وجه ما (وبهذا تظهر الشمس اكبر من الارض اضعافا كثيرة) " (رينية ديكارت.. ابو الفلسفة الحديثة /كمال يوسف الحاج/منشورات دار مكتبة الحياة/بيروت 1954 ــ ص 78) وهكذا يتوصل ديكارت الي ان الواقع الخارجي لا يحمل الاثر الحقيقي إلا في اذهاننا وما موجود يحمل التبدل والتغير، كذلك الحال مع شكه في بدنه يجعل الواقع حلما من خلال افتراضاته حول حركة اجسادنا ما هي إلا أحلام عابرة، غارقا بذلك في مثالية تلغي اي دور لأجسادنا وحركتها في الواقع المحسوس والمعاش من اجل ان يعطي لمنهج الشك لديه الفاعلية والانجاز ليثبت حقيقة كامنة لديه تفصل بين الجسد كمادة فاعلة ومتحركة وبين النفس، في ثنائية لا تحمل الاتصال والارتباط والتعايش بل الانفصال والاغتراب فيما بينهما بالنسبة لديكارت الذي واجه اشكالية تكمن في طبيعة العلاقة بين عالم العقل وعالم المادة بين العقل والجسد، وصولا الي شكه في الحقائق العلمية التي يصعب الشك فيها لانها تملك مصادر الوضوح وعدم التغير والتبدل مثل الاحساسات والانفعالات فشك فيها عن طريق الافتراضات والمخيلة البشرية التي تفترض اشياء غير معقولة وواضحة تتمثل في ان الله علي سبيل المثال قادر ان لا يكون هنالك الكثير من موجودات الطبيعة وما تحمل من اثر محسوس وواضح لدي الانسان مثل الارض والسماء والنجوم وما اشبه من ذلك اي ان الله قادر ان يجعلها غير موجودة كما هي عليه من حيث الشكل واللون والكم والعدد والمكان والزمان.. الخ ( نفس المصدر ــ ص 81).) هناك من يقول ضمن جميع تواريخ الفلسفة ان منهج الشك لدي ديكارت أوصله الي ثنائية المادة والعقل، هذه الثنائية كانت مفيدة كثيرا بالنسبة للعلم الفيزيائي كي يتحرر من جاهزيات المعرفة التي تبثها القرون الوسطي " وعلومها " تلك المتعلقة بالالهيات والارواح والنفوس والمقاصد الالهية.. الخ،ولكن المفكر صادق جلال العظم يقول عكس ذلك، بأن ديكارت قد توصل الي هذه الثنائية عن طريق "اعتبارات ومشكلات تتعلق بالمادية الميكانيكية وفلسفة العلم وبأبحاثه الرياضية من جهة، وكذلك من خلال اعتبارات اخري هامة تتعلق بالانطولوجيا الروحية الموروثة والمكرسة دينيا ومؤسساتيا من جهة اخري "(مقابلة مع صادق جلال العظم/مجلة دراسات عربية/ العددان 1/2/1985/ص95)ونحن هنا نقول ان منهج الشك لدي ديكارت كان نتيجة للابحاث الرياضية والعلمية والمكتشفات الجديدة ضمن عصر ديكارت ولا يدخل كسبب وحيد في الوصول الي هذه الثنائية من اجل ان يرسي دعائم العلم الجديد الذي كان يهدف اليه ويعزز قواعده المادية والعلمية عن طريق منهج الشك، بالرغم من ان ذلك الأخير كان مظللا الي حد بعيد، وذلك من خلال نتائجه النهائية التي توصل اليها حول الافكار القابلة للوضوح وتلك التي تملك الوضوح الفطري متمثلا بما هو خارج عن اذهاننا وارادتنا البشرية، فالله علي سبيل المثال من البديهيات التي لا يمكن ان يتطرق اليها الشك وذلك لان الله يملك هدايتنا الي الحقيقة، وهنا نجد كلام ديكارت واضحا عندما يقول " انه ما دمنا نؤمن بوجود الله فان الله لن يسمح ان ُنضلل " (مدخل الي الفلسفة/ص 86). وهذه الفكرة توصل اليها ديكارت بواسطة المصادر الاسكولائية او عن كتابات آباء الكنيسة تلك التي تتمثل في ماهو اكبر لايمكن ان ينتج ما هو اقل، وهنا تدخل لعبة اللغة في تبينة اثر الفوقي غير المدرك علي الانسان بأعتباره حمالا للكمال والهيبة، التي تنتمي إلي معرفة تندرج ضمن التأملات غير العلمية والدقيقة أي ضمن سلم القيم الدينية والروحية لدي الانسان (الموسوعة الفلسفية/فؤاد كامل ــ جلال العشري/نقلا عن الإنكليزية/دار القلم ــ بيروت /1983 ــ ص 191) او كما يقول هكتور هوتون " ان ديكارت قد صاغ خبرته وفق قالب المسند والمسند إليه. كان قد ورث التقليد الاغريقي حول ايمانه بشيء ما، خفي، ظواهر تحتية ساندة، مسند اليه " (متعة الفلسفة/هكتور هوتون/بغداد ــ بيت الحكمة 2002ص57). لقد كان ديكارت يعتمد علي الاساس الكبير في منهجه من اجل ان يتوصل الي حقائق يقينية بعد انتهاء مراحل الشك وذلك الاساس يكمن في الكوجيتو المشهور " أنا أفكر ــ اذن انا موجود، الذي لا يمكن وصول الشك اليه، لانه هو من يستخدم اسلوب زعزعة اليقينيات حول مجمل القضايا التي تقف حائلا دون التفكير والسؤال والشك الفاعل والمتواصل، فالكوجيتو هو المناعة الحقيقية التي يتناولها العقل الانساني ضد كل ما يصيب جسد المعرفة والحقيقة والعلم من تعثرات وامراض من شأنها ان تقف دون الوصول الي يقين واضح ومعين حول القضايا التي يطرحها ديكارت، وذلك لان الذات الشاكة هي ذات مفكرة تملك الوجود عن طريق الفكر، وهنا يصل ديكارت الي معرفة الوجود عن طريق الفكر كما اسلفنا سابقا من مثالية تجعل العالم الواقعي موجود في اذهاننا ضمن ثنائية المادة والعقل.

حقائق ومعارف
لقد استطاع ديكارت ان يهشم جزءا أساسيا من الصخرة التي تستند اليها حقيقة العالم والارض ضمن البناء القروسطي مع كل المعارف والحقائق والمسلمات الصامتة والثابتة التي لا تتزعزع من مكانها، مع الاجيال العلمية المبدعة ضمن عصره ليكمل الدورة المتسلسلة في تراكم المشروع الغربي وتحولاته،فلاسفة وعلماء ومفكرين امثال كانت ولوك وهيوم وهيجل ونيوتن وماركس.. الخ. لقد شك ديكارت في الكثير من الحقائق والمعارف ولكنه في النهاية عاد الي اليقين في كثير منها، فهل هنالك قيمة لذلك الشك ؟ من المؤكد ان هنالك القيمة الاساس تلك التي تكمن في توسيع مجال الحرية والبحث العلمي وتمكن الإنسان من السيطرة علي الطبيعة، ولكن ذلك الشك لم يكن معنيا بالحقيقة بالمعني الاكاديمي البحت، إذ كانت غايته الوصول الي حقيقة جديدة تعمل علي صياغة كل ما من شأنه ان يجعل الانسان بعيدا عن لغة الجمود الذهني والمعرفي التي تصيب المجتمعات عادة، فالشك الديكارتي هو شك منهجي قد تم افتراضه مسبقا حول الكثير من القضايا التي تواجه الإنسان من اجل ان يعطيها معني وتفسيرا جديدا وفقا للتطورات والمكتشفات الحديثة ضمن عصره، التي بدأت تؤثر علي الحياة المدنية والدولة والمجتمع علي حد سواء وكذلك العلم والأخلاق كما يقول هابرماز الذي يعد التحولات والانتقالات التي حدثت من زمن القرون الوسطي الي الحداثة كانت مصاحبة لمبدأ " الذاتية " الذي تجسد في بنية تُدرك في الفلسفة كذاتية مجددة عبر كوجيتو ديكارت " أنا أفكر ــ اذن انا موجود " وفي صورة وعي الذات المطلق عند عمانويل كانت (يورغن هابرماز/فصل من كتاب الحداثة مشروع ناقص/مجلة العرب والفكر العالمي/العدد التاسع ــ شتاء 1990/ص108)










#وليد_المسعودي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- المجتمع الجماهيري .. عامل محافظة ام تطور
- مفهوم الحرية ركيزة اساسية لتطور المجمتع
- محددات ثقافة الارهاب
- لماذا يفشل المثقف الحر في في انتاج ابداع مختلف (المثقف والمؤ ...
- الاحزاب السياسية والوعي العمالي ( نكوص مجتمعي ام استقلال سيا ...
- المؤسسات الثقافية العراقية ( مصدر ابداع أم تأسيس فراغ معرفي ...
- جذور الغنيمة والانتهازية لدى المثقف العراقي (محاولة في نقد ا ...
- سيميائيات حجاب المرأة
- الكتابة بين نموذجين
- نحو مدينة عراقية ..بلا هوامش واطراف .. بلا عنف واستبداد
- الهويات المغلقة - الهويات المفتوحة
- نقد سلطة المعرفة .. الحداثة والتراث في مقاربة جديدة
- هل يمكننا تجاوز تاريخ الانغلاق في المجتمعات العربية الاسلامي ...
- التعليم وصناعة الخوف لدى الطلبة .. نحو تعليم عراقي جديد
- نحو تكوين فلسفة شعبية عراقية
- لحظة إعدام صدام .. نهاية الاستبداد في العالم العربي ؟
- خصائص تربية الابداع في المؤسسة التربوية العراقية
- جماليات الاحتلال
- الثابت والمتحول في انماط الاستبداد(الطريق الى مقاربة وطنية ت ...
- المعرفة العامة نسق ثقافي سلطوي


المزيد.....




- بالصور..هكذا يبدو حفل زفاف سعودي من منظور -عين الطائر-
- فيديو يرصد السرعة الفائقة لحظة ضرب صاروخ MIRV الروسي بأوكران ...
- مسؤول يكشف المقابل الروسي المقدّم لكوريا الشمالية لإرسال جنو ...
- دعوى قضائية ضد الروائي كمال داود.. ماذا جاء فيها؟
- البنتاغون: مركبة صينية متعددة الاستخدام تثير القلق
- ماذا قدمت روسيا لكوريا الشمالية مقابل انخراطها في القتال ضد ...
- بوتين يحيّد القيادة البريطانية بصاروخه الجديد
- مصر.. إصابة العشرات بحادث سير
- مراسل RT: غارات عنيفة تستهدف مدينة صور في جنوب لبنان (فيديو) ...
- الإمارات.. اكتشاف نص سري مخفي تحت طبقة زخرفية ذهيبة في -المص ...


المزيد.....

- كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج / زهير الخويلدي
- معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية / زهير الخويلدي
- الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا ... / قاسم المحبشي
- الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا ... / غازي الصوراني
- حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس / محمد الهلالي
- حقوق الإنسان من منظور نقدي / محمد الهلالي وخديجة رياضي
- فلسفات تسائل حياتنا / محمد الهلالي
- المُعاناة، المَعنى، العِناية/ مقالة ضد تبرير الشر / ياسين الحاج صالح
- الحلم جنين الواقع -الجزء التاسع / كريمة سلام
- سيغموند فرويد ، يهودية الأنوار : وفاء - مبهم - و - جوهري - / الحسن علاج


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - وليد المسعودي - مشروع ديكارت الفلسفي وإعادة ترتيب الوجود