عندما تهبطين على ساحة القوم؛ لا تبدئي بالسلام
فهم الآن يقتسمون صغارك فوق صحاف الطعام
بعد أن أشعلوا النار في العش..
والقش..
والسنبلة!
وغداً يذبحونك..
بحثاً عن الكنز في الحوصلة!
وغدا تغتدي مدن الألف عام.!
مدنا.. للخيام!
مدناً ترتقي درج المقصلة!
قد تكون هذه الأبيات للشاعر المصري أمل دنقل خير توصيف لحال الكثير من المثقفين الفلسطينيين، الذين كانوا ولا يزالون يلعبون دورا رئيسيا في استدخال الهزيمة وتسويق التسوية.
فالحركة الوطنية الفلسطينية تعاني حاليا من غياب واضح للمثقفين الثوريين عن ساحتها، ما ترك المجال مفتوحا أمام مثقفي السلطة و مثقفي "المنظمات غير الحكومية" الخاضعين جميعهم لاجندة الحكومات والممولين الغربيين.
ولذا لم يكن من المستغرب أن ينادي مثقف كالدكتور سري نسيبة علنا وبوثيقة تطبيعية من الدرجة الأولى وبتمويل غربي، بالتنازل عن حق العودة،أو أن يدعو مدير أحد مؤسسات حقوق الإنسان" الغربية التمويل طبعا، باسم عيد،بـ"المقاومة المبنية على اللاعنف"، بعد أن ثبت له – وهو الجالس وراء طاولة فخمة في مكتبه المكيف- عبثية الكفاح المسلح، وذلك في مقال هو جزء من سلسلة مقالات حول الآراء المتعلقة باللاعنف التي نشرت بالاشتراك مع مؤسسة غربية بدعم من الاتحاد الأوروبي واليونسكو، أو أن يطالب 55 مثقفا فلسطينيا، بعضهم اعتبر نفسه يوما ما يساريا ثوريا، في بيان مشترك لهم ، بوقف العمليات الاستشهادية.
ولعل من المفيد هنا الرجوع إلى الفكرة الأساسية التي يدور حولها كتاب الثائر الاممي "فرانتز فانون" وهي أن العنف هو السبيل الوحيد للقضاء على الاستعمار،وإن هذا العالم الاستعماري الذي قام على العنف لا يمكن الخلاص منه إلا بالعنف، الأحزاب السياسية البرجوازية تستبعد فكرة العنف بل تخشى العنف، هي عنيفة في أقوالها معتدلة في مواقفها، لا يزيد نشاطها على مقالات وخطب تتحدث حول حقوق الإنسان وتقرير المصير. إن هذه الأحزاب لا تدعو إلى العنف لأنها لا تهدف إلى قلب الأوضاع التي أنشأها الاستعمار رأسا على عقب، ولا تطمع في اكثر من استلام مقاليد الحكم من يد المستعمر، كل ما تريده هو أن تفاوض المستعمر وتنتهي معه إلى تسوية. أن البرجوازية الوطنية تخشى النتائج التي يمكن آن تنتج عن لجوء الشعب إلى العنف، تخشى النتائج التي يمكن أن تنتج عن هذا الإعصار الجبار، وتخشى أن تكنسها هذه الريح فلا تفتأ تقول للمستعمرين " ما زلنا قادرين على أن نوقف المذبحة، فالجماهير لا تزال تثق بنا، فأسرعوا إذا كنتم لا تريدون أن تعرضوا للمخاطر كل شيء".
فالواقف في وجه المذبحة، الدكتور نسيبة، لا يفتأ –والـ 20 ألف فلسطيني المزعومين الذين انضموا إلى حملته- يستجدي آخرين الانضمام إلى حملته، وليضمن إعلانها عبارة:“من قال أن شعبنا لا يكترث؟؟"، ولكن بماذا: بالتنازل عن حق اكثر من نصفه بالعودة إلى دياره التي شرد منها عام 1948.
وبهذا بدأ مثقفونا ومن يتأثر بهم، يتسابقون في التهاوي في بئر التنازلات الذي لا قاع له، فما كان يعتبر خيانة في الماضي كالتطبيع أو الاعتراف بالكيان الصهيوني، اصبح يعتبر ما هو افظع منه كالتنازل الصريح عن حق العودة وجهة نظر تستحق الاستماع لها.
وباستدخال الهزيمة غدت باقي التجاوزات تمر مر الكرام دون محاسب أو حتى مسائل، كتوقيع شخصيات فلسطينية وإسرائيلية مؤخرا اتفاقية تشطب حق العودة.
والانكى أن هؤلاء المثقفين لا يكلون من صياغة وعي الجماهير بطريقة مشوهة، يتحول فيها صراعنا من تناقض بين حركة التحرر الوطني والكيان الصهيوني الاستيطاني الإمبريالي إلى نزاع بين شعبين، والمقاومة إلى إرهاب وعنف، والمقاومين إلى قلة وسط جمهور طواق "للسلام"، والمنادين بالثوابت إلى راديكاليين ... الخ.
ولعل ابرز ملامح هذا التشويه، عدم خلق ثقافة العودة، وإظهار هذا الحق وكأنه حلم بعيد مستحيل التحقق، وهو ما ظهرت نتائجه بشكل جلي، من خلال ثلاثة استطلاعات للرأي العام أجراها المركز الفلسطيني للبحوث السياسية والمسحية في رام الله بين اللاجئين الفلسطينيين في مناطق الضفة ولغربية وقطاع غزة والأردن ولبنان، إذ بينت تمسك اللاجئين بحق العودة، لكن نسبة قليلة منهم "10%" قالت بأنها ديارها التي هجرت منها عام 1948 في حال حصلت على هذا الحق.
فالسائد حاليا هي ثقافة الفردية واللامبالاة التي عملت السلطة الفلسطينية والمنظمات غير الحكومية على نشرها وتشجيعها، ليس عن طريق المساعدات لغير مستحقيها فحسب بل والمشاريع الفردية والخاصة بدلا التعاونيات الاقتصادية، ما انعكس بالتالي على العلاقات الأخرى من اجتماعية وسياسية التي تشربت أيدلوجيا السوق وفقدت الروح الجماعية.
وبالتالي غابت الكتب والمنشورات الثورية عن رفوف مكتباتنا لصالح مؤلفات لا هم لها إلا استيراد وتسويق أفكار الغرب دون تدقيق أو تمحيص، والأخطر هو امتلاك هؤلاء "الكمبرادوريين الثقافيين"– كما يطيب للمفكر الماركسي الدكتور عادل سمارة أن يسميهم- لوسائل الإعلام، وإلا فأي غاية يخبئها يعقوب في نفسه من امتلاك مؤسسة صحية – غربية التمويل أيضا- كالإغاثة الطبية الفلسطينية لمحطة تلفزة محلية هي تلفزيون وطن.
إن المقاومة الفلسطينية بأمس الحاجة حاليا لتجاوز المثقفين الحاليين باتجاه إنتاج مثقفيها الثوريين، ليرسموا أولويات ثورة حقيقية، وليثقفوا الجماهير وفقا لهذه الأولويات، ما يحول النضال الفلسطيني من نضال بحد ذاته لنضال لذاته ويوصل بالتالي وتحصيل الحقوق الوطنية.
فقارع جدارن الخزان والعائد إلى حيفا ولكن بالحرب، الشهيد غسان كنفاني لم يدرس في الولايات المتحدة الأمريكية، ولكن عيشه وسط الطبقات الشعبية المسحوقة في مخيمات اللجوء والشتات، أكسبته وعيا جعله الأبرز في التنظير والتجسيد للمأساة الفلسطينية.
واخيرا يقول أحمد سيكوتوري الزعيم الغيني الذي وقف في وجه الاستعمار الفرنسي لبلاده"ليس يكفي أن تؤلف أغنية ثورية حتى تشارك في الثورة الأفريقية (وبالتالي كافة حركات التحرر – كاتب المقال)، وانما ينبغي أن تصنع هذه الثورة مع الشعب ثم تأتي الأغاني من تلقاء ذاتها".