|
وَمَا أَدْرَاكَ مَا .. حَدَبَايْ!
كمال الجزولي
الحوار المتمدن-العدد: 2033 - 2007 / 9 / 9 - 11:04
المحور:
اليسار , الديمقراطية والعلمانية في مصر والسودان
رزنامة الأسبوع 28 أغسطس-3 سبتمبر 2007
الثلاثاء: كثيراً ما تفلت مراسلات الكتاب والمبدعين من إسار طقسها (الخصوصي) لتطرق شفيفاً على خاطرات تداعب ، على نحو أو آخر ، شيئاً من اوتار (العامِّ)! وربَّما كان ذلك هو ما حدا بي ، أيام إشرافي على (عدد الثلاثاء المتميِّز) بجريدة (الصحافة) ، لتحرير بعض هذه المراسلات من محبس (خصوصيَّتها) التي لا أرضاً قطعت ولا ظهراً أبقت! من سِنخ ذلك ما ألحظ ، أحياناً ، في مراسلاتي ومهاتفاتي الشخصيَّة مع أحباء كثر ، كالياس وعبد الله وود المكي وعالِم وغادة ومحيسي وبولا وبشرى وفضيلي ولمياء وعمر العمر ومصطفى مدَّثر وحسن ابو زيد وعثمان حامد وكثيرين غيرهم تشتتوا في أركان الدنيا الأربعة! ولعلَّ من أقرب نماذج هذا (الترحيل) الحصيف المرغوب فيه من خانة (الخاص) إلى خانة (العام) ما نشر صديقي الحبيب ود المكي ، مؤخراً ، من أصداء أشجان كنا اقتسمناها ، على أكتاف بعضنا البعض ، ذات تواصل حميم من على البعد! وما البعد .. قل لي بربِّك؟! فلئِن كانت "السكَّة حديد قرَّبت المسافات .. وكثيراً" ، ذات زمان بعيد ، بما فجَّر إبداع عبد الله .. وكثيراً أيضاً ، فإن (الإيميل) و(الماسينجر) و(المحمول) قد ألغوا .. وكثيراً كذلك ، أسَى أيِّ شتيتين يظنان كلَّ الظنِّ ألا تلاقيا! وكان سبقهم أجمعين إلى ذلك ، وعن جدارة ، المغفور له (التلكس) الذي بات ، الآن ، في عِداد (الزينين)! بل وحتى طيِّب الذكر (الفاكس) الذي يبدو أنه لحِقَ ، هو الآخر ، بـ (أمَّات طه)! وكان عبد الله ، أخي الذي لم تلده أمِّي ، قد قال لي ، وهو يختم مهاتفة قديمة: "أرجوك .. فاكِسْنِي في الأمر"! وبدا لي الاشتقاق المُعرَّب جريئاً وطريفاً! لكن كيف ، ترانا ، نطلب ، الآن ، من أصدقائنا أن يبعثوا إلينا بـ (إيميل) في شأن بعينه؟! أيْمِلوُنا؟! وبعد .. خطر لي هذا كله لمَّا فرغت ، مساء اليوم ، من تسطير الإيميل التالي ، تحت وطأة إرزام نفسي (خاص) ، قاصداً أن أبعث به إلى ود المكي ، لكنني ما لبثت أن فكَّرت أنه ، في الحقيقة ، ليس (خاصَّاً) جدَّاً ، ثمَّ قدَّرت أنه ربما كان ملائماً تماماً إشراك (عموم) أصدقاء الرزنامة في الاطلاع عليه. فإن صحَّ تقديري فكان وبها ، وإن لم يصح .. فعذراً ، وها هو على أيَّة حال: عزيزي مكي ، من قال إن مِن نكد الدنيا على المرء أن يرى عدوَّاً له ما مِن صداقته بُدُّ؟! لو تأمَّلت قليلاً ، ولو في خبرتك الشخصيَّة وحدها ، لاكتشفت كم هو صحيح ، تماماً ، أن مِن نكد الدنيا على المرء ، يقيناً ، أن يجد منافقاً يدَّعي صداقته وما مِن عداوته بُدُّ! حسناً .. جرِّب ، أيُّها الحبيب ، أن ترفع رأسك شيئاً ، وسط مشاغلك الجمَّة ، لترى كيف أن هذا الصنف من العلاقات المنافقة المُرائية ليس نادراً ما يصادفك في المستوي الشخصي ، بل ليس نادراً ، أيضاً ، ما يتمظهر لك في المستوى المؤسَّسي! والأخير أسوأ صنوف هذه العلائق طرَّاً ، إذ لو كان شرُّه (قاصراً) عليك لهَانَ ، لكنه (متعدٍّ) ، من كلِّ بُدٍّ ، ربَّما إلى مؤسَّسات بأكملها قد تكون قيِّماً عليها! فالمنافق الوصوليُّ يضمر أن يستخدم قيُّوميَّتك هذه جسراً يبلغ عن طريقه موقعاً ما في المؤسَّسة التي يتوهَّم أنها ضيعة ورثتها عن اجدادك القدماء ، وتملك ، من ثمَّ ، أن تبوِّئه فيها الموقع الذي يشاء! وعادة ما يكون هذا الساعي إلى المواقع بنفاقه من أفقر الناس مقدرة ، وأضعفهم بذلاً ، وأبأسهم عطاءً ، في كلا الجانبين: المهني والتنظيمي! وهو ، يقيناً ، ولهذا السبب بالذات ، أقلهم ثقة في (الديموقراطيَّة) ووسائلها المستقيمة ، رغم إطنابه في الدفاع عنها ، وأكثرهم ميلاً لطرق السبل التآمريَّة الملتوية ، رغم مبالغته في ادِّعاء النفور منها! فإذا استجبت لنفاقه ، وجاريته فيه ، وساعدته ، بخسارتك لنفسك ، في بلوغ ما لا يستحق ، أخرج من أمِّ رأسه (عيون الرضا) الحولاء كليلة عن كلِّ عيب ، ينظر بها إليك كأفضل إنسان ، وإلى ما تفعل كأبدع ما كان في الامكان! أما إذا أصررت على أن تتصالح مع نفسك ، ورفضت أن تجيبه إلى رغائبه ، حتى لو أفضى ذلك لأن تخسره هو ، فإنه سرعان ما يقلب لك ظهر المِجَن ، ويخرج (عيون السخط) العوراء من محاجرها يتصيَّد بها المساوئ! ساعتها لن يكون أمامك سوى أحد خيارين: فإما أن تكرَّ عليه ، وتفضحه ، وتلقمه حجراً على رءوس الأشهاد ، وما أيسر ذلك لو أردت ، أو أن تسفهه ، ببساطة ، وتتجاهله ، نزولاً على حكمة ناصحين كثر! سوى أن مثله ، في الحالين ، كمثل الكلب في القرآن الكريم: إن حملت عليه يلهث وإن تركته يلهث! بل هو ، فوق كلِّ هذا وذاك ، (لا يدري) أنه (لا يدري) أنه أغبى من أن تجوز ألاعيبه الصغيرة على مَن هم أذكى مِن أن يَدَعُوه يرى كم هو وضيع في عيونهم ، أو يَدَعُوا نكاتهم عنه تبلغ مسامعه .. ولله في خلقه شئون!
الأربعاء: ليس مُهمَّاً ما إن كان الجنرال مُشرَّف قد انقضَّ بنفسه على الديموقراطيَّة في باكستان ، ليلة 12/10/1999م ، فأطاح بحكومة نوَّاز شريف الذي كان عيَّنه ، قبل ذلك بسنة ، رئيساً لهيئة الأركان ، أم أن جنرالين آخرين من رفقائه في لعبة التنس الارضي هما اللذان نفذا الانقلاب لصالحه! المهم أن الانقلاب أعاد الجيش إلى الحكم بعد أكثر من عشر سنوات على رحيل الجنرال ضياء الحق عام 1988م ، ليدخل مشرَّف ، كالعادة ، في نزاع مع المعارضة السياسيَّة ، ليس بسبب ذلك فحسب ، بل ولأسباب أخرى ، أبرزها أنه سعى ، في 6/6/2001م ، لاصطناع شرعيَّة لنفسه عبر استفتاء مشكوك في نزاهته. وأقام علاقة مرتبكة بالاصوليين المتطرفين ، فبدا متحالفاً معهم ، أوَّل أمره ، ثمَّ ما لبث ، عقب 11 سبتمبر 2001م ، أن سمح لأمريكا باستخدام الأراضي الباكستانية لضرب حركة طالبان التي رفضت تسليم بن لادن في أفغانستان ، مِمَّا حدا بأمريكا لغضِّ الطرف عن تقويضه للديموقراطيَّة ، واعتباره أحد أهمِّ حلفائها في حربها على ما تسميه (الإرهاب!) ، الأمر الذي أفضى لتحالف ستة أحزاب إسلاميَّة ضدَّه في (مجلس العمل الموحد). ونقض اتفاقه مع هذه الاحزاب ، في 24/12/2003م ، ليتنازل عن قيادة الجيش مع نهاية عام 2004م ، مقابل تمريرها تعديلات دستوريَّة توسِّع من صلاحياته ، لكنه لم ينفذ ما يليه ، رغم أن البرلمان أقرَّ التعديلات في 29/12/2003م. وإلى ذلك اتهامه لعبد القدير خان ، أبي القنبلة الذريَّة الباكستانيَّة الذي يحظى باحترام وطني ، بتسريب أسرار نوويَّة إلى إيران وليبيا وكوريا الشماليَّة ، ومن ثمَّ إقالته ، في نهاية يناير 2004م ، من منصبه كمستشار لرئيس الوزراء للشؤون العلميَّة ، مِمَّا فاقم من غضب الشارع على النظام. وتجرَّأ وزير خارجيَّته خورشيد قصوري على اختراق أحد (المُحرَّمات) الباكستانيَّة ، بلقائه ، في 1/9/2005م ، نظيره الإسرائيلي سيلفان شالوم باسطنبول ، فضلاً عن مصافحته هو نفسه لأرييل شارون ، على هامش القمة العالميَّة للأمم المتحدة في الرابع عشر من ذات الشهر! ضف ذلك كله إلى فشله في التصدِّي للأزمة الاقتصاديَّة الطاحنة ، ولأزمة بلاده مع الهند في كشمير ، ودخوله في مواجهة مكشوفة مع القضاء ، ومع (طالبان باكستان) ، وزجِّه الجيش في مواجهات دامية بإقليم وزيرستان ، ومعالجته لأزمة (المسجد الأحمر) بعمليَّة دمويَّة ، وتصاعد مطالبة حزب الرابطة وحزب الشعب بتنحيه بينما يسعى هو لولاية أخرى ، وتزايد محاولات اغتياله التي بلغت أربعاً ، مِمَّا اضطره للعيش تحت ظروف أمنية بالغة الصرامة ، لدرجة أن مُسدَّسه الشخصي لا يكاد يفارق جيبه! وقد وقعت آخر هذه المحاولات في 6/6/2007م ، عندما تعرَّضت طائرته للقصف قرب إسلام اباد! ثمَّ يأتي ، من فوق ذلك كله ، عجز القوى الخارجيَّة التي يعوِّل كثيراً على مساندتها له ، من باب ردِّ الجميل! وهكذا فإن أدقَّ تقويم لنظام الجنرال في الوقت الراهن أنه .. آيل للسقوط! ولكن ، هل أتاك حديث بيناظير بوتو ونوَّاز شريف؟! لقد حسم الأخير ، وسط حماس جماهيره ، أمر عودته من المنفى في العاشر من سبتمبر الجاري ، بناءً على الحكم التاريخي الذي أصدرته المحكمة العليا في 20/7/07 ، رغم تهديد النائب العام بالقبض عليه ، فور وصوله ، على ذمَّة اتهامات ضدَّه! أما بوتو ، فعلى الرغم من أنها كانت حدَّدت ، ابتداءً ، الرابع عشر من هذا الشهر موعداً لعودتها ، ثمَّ ما لبثت أن تراجعت لتعلن ، فقط ، أنها ستعود "في أقرب فرصة!" ، إلا أنها ارتكبت ، على العكس من شريف ، خطأ سياسيَّاً قاتلاً بإدراجها هذه العودة في سياق (صفقة) تلهث لإبرامها مع مشرَّف ، بحيث يتنازل الجنرال المولع بالرقص ، مِمَّا يمكن مشاهدته في التلفزيون الحكومي ، عن قيادة الجيش ، في سبيل استمراره في رئاسة البلاد ، على أن تتولى هي رئاسة الوزارة! لكن دروس التاريخ أثبتت أن من (يُصالح) الشموليَّة المتصدِّعة ليمنحها عُمراً جديداً .. يخسر سياسيَّاً ، طال الزمن أم قصُر!
الخميس: ضمن كلمته الشائقة عن اسماعيل عبد المعين أشار صديقي كامل ابراهيم حسن إلى أن خليل فرح استلهم المقدِّمة الموسيقيَّة لأنشودته الخالدة (عازَّة في هواك) من مارش (ود الشريفي) العسكري المعروف (السوداني ، الجمعة 20/7/07). أشعلت هذه الكلمة في ذاكرتي عبق مناخات كنا عشناها ، الحبيب الراحل عبد الهادي صديق وشخصي ، منتصف سبعينات القرن المنصرم ، في محاولة باكرة لتحقيق ديوان الخليل بتكليف من ابنه المرحوم فرح. لكن تلك المحاولة سرعان ما انقطعت بنقل عبد الهادي إلى السفارة ببيروت ، ثمَّ اعتقالي ، بُعَيْدَ ذلك ، لأشهر تطاولت. ولمَّا صعُب التكهُّن بميقات انقضاء تلك الظروف ، فقد زارني فرح بالسجن ، ووجَّهت بتسليمه المخطوطة من مكتبي ، حيث حوَّلها إلى الراحل المقيم علي المك الذي تولى إنجازها على أفضل ما يكون. حمَلَ إلينا استغراقنا في مناخات ذلك العمل ، على قِصَره ، معارف مدهشة الثراء ، ويكفي أنه أخذنا ، من حيث لم نحلم ، إلى .. حدباي احمد عبد المطلب ، وما أدراك ما حدباي ، ودنياواته الواسعة التي قد لا تبدأ من النهود ، على شغفه بها ، ولا تنتهي في الجيلي ، على ما ربط بينه وبين احمد الطريفي الزبير باشا من محبَّة نالنا منها نصيب ، والحمد لله ، عبر نهارات الأنس العبقة الدبقة التي لطالما سلخنا ساعاتها تحت ظلال (راكوبته) الفيحاء ، يجاورنا النيل ، وتحفُّ بنا الخضرة ، ويحلق بنا النسيم على مخدات الندى .. ليس أروع ولا أمتع! الشاهد أن كليهما كان من أخلص خلصاء الخليل. وكان الكلام لا يحلو لأيٍّ منهما إلا بسيرته وفنه. بل ان أكثر ما كان يحيِّرنا أن حدباي ما كان يطيق أن ينحرف الأنس ، قيد أنملة ، عن ذلك ، حتى ولو إلى فنه هو نفسه ، وهو هو الشاعر المجيد والمُغنِّي العذب الذي أنشد في زمانه: "الليلة كيفْ امسيتو يا مُلوك امْ دُرْ" ، والتي روى لنا قصَّتها بعد تمنُّع ، وكان كثيراً ما يُبرِّر تمنُّعه ضاحكاً: ـ "يا وليداتي خلونا نحكي عن خليل .. العُمُر ما فضل فوقو شي .. وانا ما قاعد ليكم"! وحكى كثيراً. وحكى احمد الطريفي كثيراً. أشياء جُلها ليس للنشر ، رغم أن ثمارها منشورة ومذاعة يتذوَّقها الغاشي والماشي! ولعنة الله على هذه (التابوهات) التي تعتقل أكثر التاريخ الاجتماعي لإبداعنا ، وسوف تواصل ذلك لزمن سوف يطول ، في ما يبدو ، للأسف .. وكثيراً! كان مِمَّا حدَّثنا عنه حدباي المقدِّمة الموسيقيَّة لـ (عازَّة) ، قال: كنا نسكن أنا وخليل في منزل بالحي الكائنة فيه كليَّة الصحَّة حالياً بالخرطوم. لكننا كنا كثيري الأسفار في أنحاء البلد ، ما نكاد نستجمُّ من سفرة ، حتى نقوم بأخرى ، دون أن نشعر بالتعب ، رغم أن الطرق والوسائل لم تكن ميسورة كما هي الآن! وفي الفاشر سمعنا بنات الجلابة يغنين أغنية فولكلوريَّة قديمة ، بذات ميلوديَّتها ، ولكن بكلمات مترجمة إلى عربيَّة هجين عن الأصل الذي كانت أنشأته ، في لغتها الأصليَّة ، صبيَّة فوراويَّة في الخامسة عشر أراد أبوها تزويجها من عجوز ثري ، فصارت تنوح مستعطفة أمَّها: "يا إيَّا/ راعي ليَّا/ فيشانْ هَوَانْ دَاكْ نَمُوتْ بَلا دُرِّيَّة/ الكَرْكَدي ما بَقوُمْ غَلة/ حِلوُنِي مِن جَقودْ يا رُجالْ الله"! إنفعل الخليل كثيراً بالأغنية ، حكاية ومغزىً ولحناً ، حيث بدت له حالة الوطن شبيهة بحالة تلك الصبيَّة! و(جقود) تصغير لكلمة (جقد) ، في معنى الشخص ضئيل الشأن ، وهي لهجة في لغة الفور يجري استخدامها ، أكثر شئ ، في منطقة الفاشر ، حسب صديقي (الشرتاي) الكبير صالح محمود. وحدَّثتني صديقتي سعاد ابراهيم احمد بأن هذه الكلمة موجودة ، بذات معناها ، في بعض اللغات النوبيَّة في أقاصي الشمال ، كما علمت أنها موجودة ، أيضاً ، في بعض لغات النوبا بجنوب كردفان ، فوقع عندي هذا ضمن حُجَج الصلة القويَّة بين النوبيين وبين بعض الإثنيات في غرب السودان! كرَّت مسبحة السنوات ، وانهزمت ثورة 1924م ، واجتاح الخليل حزن عميق أورثه داء ذات الرئة العُضال ، فسافر إلى مصر للعلاج برفقه صديقه الحميم حدباي. وهناك اتفق للصديقين أن يسمعا تلك الميلوديَّة العذبة ، ولكن في سياق آخر! فقد كان الخليل غافياً ، ذات ظهيرة ، على فراش المستشفى بالقاهرة ، حين مرَّت فرقة (الكشافة النوبيَّة) وهي تعزف بعض المارشات. إنتبه الخليل ، وأفاق متسائلاً: ـ "دحين يا حدباي دي ما غنية البت الفوراويَّة"؟! فأرهف حدباي السمع قليلاً ، ثمَّ سرعان ما أمَّن على ملاحظة الخليل الذي ما لبث أن عاد للاغفاء تحت وطأة العِلة. تعافى الخليل شيئاً ، وغادر المستشفى. وكان على موعد مع صاحب استديو (لتعبئة) الاسطوانات كي يسجِّل له أغنية (عازة في هواك) قبل عودته إلى السودان. وكان بالاستديو بيانو يلعب عليه خواجة. فصار الخليل يعزف الميلوديَّة الأساسيَّة للاغنية الفوراويَّة بالعود ، على إيقاع الفالس ، بينما العازف الاغريقي يتابع الميلوديَّة على البيانو ، حتى أتقن عزفها ، فطلب الخليل تسجيلها كمقدِّمة للأغنية ، ترجمة للتشابه الذي كان يجده بين الحالتين! وختم حدباي حكايته قائلاً: علمنا ، في ما بعد ، أن صول (المزيكة) في جيش الزبير باشا كان قد سمع الاغنية بعد دخولهم الفاشر ، إثر انتصارهم على السلطان ابراهيم قرض في معركة منواشي ، فأعجب بميلوديَّتها ، وقام بإعادة توزيعها وتنويتها كمارش عسكري صار يُعرف ، لاحقاً ، بـ (مارش ود الشريفي) ، لكن بكلمات مغايرة تقول: "وَدَّ الشَّريفِي رايُو كِمِل/ جيبوا ليْ شَايْلاتا مِن دارْ قِمِرْ"! وهكذا ، فإن الخليل لم يستلهم مقدِّمة (نشيد الانشاد السوداني) من (مارش ود الشريفي) ، وفق الرواية الشائعة ، وإنما استلهمه ، وفق حدباي ، من اغنية الصَّبيَّة الفوراويَّة .. شبيهة الوطن! الجمعة: لا تثريب على مَن لم يعُد يذكر إدريس البصري خارج المغرب ، فقد اختفى ، تماماً ، منذ أزاحه أسياده عن السلطة هناك قبل زهاء العقد من الزمان ، مثله مثل خشبة مسرح أظلمت بغتة! لكنَّ سيرته النتنة لم تبرح ذاكرة الملايين في ذلك البلد. بدأ ابن حارس السجن ذاك يتسلق سُلم المناصب الأمنيَّة ، باكراً ، ولما يربو على الثلاثين سنة تحكم خلالها في مصائر المغاربة بالمطلق. ففي 1971م عُيِّن مديراً للشؤون العامَّة والولاة بوزارة الداخلية ، ومسؤولا عن إدارة التراب الوطني ، ثمَّ ارتقى كاتب دولة بالداخليَّة ، فوزيراً للداخليَّة عام 1979م ، حيث استقوى تماماً فصار الرجل الأكثر قرباً من الحسن الثاني! ومن الألقاب التي خلعت عليه أيامها: (الشرطي الأول) ، (الصدر الأعظم) ، (خادم الأعتاب الشريفة)! وللعجب ، فقد ظلَّ يحتفظ ، إلى ذلك كله ، بكرسي الأستاذيَّة بجامعة محمد الخامس بالرباط! بثَّ البصري عيونه في كلِّ المواقع ، وجعل مبلغ همِّه هندسة المصائد ، ونسج المكائد ، وفبركة الدسائس ، ودسِّ التقارير للخصوم السياسيين ، خصوصاً الثوريين منهم ، والتنكيل بهم دون رحمة. وطالت (عمليَّاته) حتى زملاءه في الأجهزة الأخرى مِمَّن انتهوا إلى العزل ، أو قضوا في حوادث غامضة! بل وكبَّل بأحابيله القصر نفسه ، إلى أن أصبحت الداخليَّة المصدر الوحيد للمعلومات ، والرمز الأكبر لسطوة الملك! فشى في عهده الخوف من السلطة ، والرعب من الاجهزة الأمنيَّة. وجنَّد ، لأجل ذلك ، الاجناد ، والعسس ، والجواسيس ، والبصَّاصين ، والمخبرين ، والجلادين ، والزبانية الذين لا عمل لهم سوى القهر ، والتزوير ، والفبركة ، والغشِّ ، والكذب ، والتدليس ، واستعباد الناس ، وإشاعة الاذلال ، وتشجيع الفساد ، وتكريس الخنوع ، فقمعوا التجمُّعات السلميَّة ، واعتدوا على المسيرات الاحتجاجيَّة ، واعتقلوا المناضلين وراء الشمس ، وعذبوا الشرفاء في أقبية الموت ، وهجَّروا البسطاء من مواطن أجدادهم ، ونفذوا سياسات الاقصاء والتهميش ، وصادروا الاملاك بغير وجه حق ، وأكلوا أموال الشعب الجائع في ما بينهم بالباطل ، ووزَّعوا منها على غير المغضوب عليهم من الأحزاب المأجورة ، والاتحادات التابعة ، والصحف الموالية. ثمَّ ، كما في الكلاسيكيَّات ، مضت في البصري سُنَّة (مات الملك .. عاش الملك!) ، فتوفي الحسن الثاني ، وتولى العرش محمد السادس ، فاتحاً الطريق لتحوُّلات ديموقراطيَّة محدودة ، غير أنها كانت كافية لإصدار قراره في 9/11/1999م بعزل الرجل شرَّ عزل ، وبالأخص عندما اكتشف أنه كان يتجسَّس عليه أيام كان وليَّاً للعهد! فزال عنه الهيل والهيلمان ، ولم يتبق له سوى (كرسي الاستاذيَّة!) ، لكن حملة شنَّها الأساتذة والطلاب نجحت في طرده من الجامعة أيضاً ، فأيَّة ديموقراطيَّة هذى التي يُدرِّسُ القانون في ظلها مَن تلطخت يداه بدم الشهداء في المعتقلات السريَّة ، وتلوَّثت سمعته بالرشوة وأكل السُّحت واستغلال النفوذ؟! ولولا ترتيبات (العدالة الانتقاليَّة) التي اعتمدت في ذلك البلد لشنق الطاغية على عمود كهرباء في الطريق العام! فرَّ البصري بجلده إلى باريس. وهناك راح يدَّعى الفقر رغم ثبوت مراكمته لأموال طائلة كدَّسها بين فرنسا وسويسرا وأمريكا! ولمَّا حاصرته الصحافة الحُرَّة بتاريخه الأسود لم يَحر ردَّاً سوى أنه كان محض عبد مأمور ، ومنفذ للتعليمات ، وخادم للنظام ، ويا لها من .. مسخرة! ............................ ............................ بالأمس القريب أكد أحد أقاربه وفاته ، بعد صراع مع السرطان ، في مستشفى بباريس ، عن عمر يناهز التاسعة والسِّتين. ونقلت وكالة الانباء المغربيَّة الخبر باقتضاب! وأبدى ناشطون مغاربة في حقل حقوق الانسان أسفهم لكون الكثير من حقائق الانتهاكات في عهده قبرت معه! وقال أحد ضحاياه عن حق: "كلُّ بلد لا يتوفر على هيكل ديمقراطي سليم يحتاج المسئول الأول فيه إلى بصري .. وكل شعب متخلف لا بُدَّ له من رجل قوي متخلف مثله ، واقرأوا التاريخ"! ............................ ............................ وبعد ، ليس البصري سوى فأر استأسد طويلاً .. ثمَّ نفق!
السبت: الحدُّ الأدنى من الحصافة يقتضي ، عند إبرام أيِّ اتفاق سياسي مع طرف ديدنه المشهود المراوغة ونقض المواثيق ، أن يضع الطرف الآخر في حسبانه نسبة مئويَّة منطقيَّة للنكوص .. بنظريَّة الاحتمالات! لكنني عجبت لمبروك مبارك سليم ، وقد جلست أشاهد لقاءه ، مساء اليوم ، مع قناة الجزيرة ، يتحدث عن اتفاق أسمرا بين (جبهة الشرق) و(الحكومة) ، موحياً ، بيقين لا يتطرَّق إليه الشك ، وطمأنينة لا تتأتى إلا لمن يزعم علم الغيب ، بأن مجرَّد التوقيع على الاتفاق ، والالتحاق بالحكومة ، يعني ضمانة حاسمة لجديَّة الطرف الآخر في تنفيذ الاتفاق بحذافيره .. على علاته! كان الرجل يتحدَّث وكأنه يلقي بيان تهديد ووعيد في معركة ما مع جهة ما ، يتجهَّم السامعين بصلف السلطة المعهود ، وصرامتها المعلومة ، وبثقة لا تروِّي معها ، وحماس لا تحسُّب فيه ، فبدا كما لو انه لم يبرم الاتفاق من مواقع المعارضة بالأمس القريب ، بل لكأنه كان ، هو نفسه ، فجر الثلاثين من يونيو ، يحمل رشاشاً في شارع المك نمر ، أو يمتطي ظهر مجنزرة على جسر القوَّات المسلحة! لطالما تمنيت أن أدرك سِرَّ السِّحر الذي يتلبَّس هؤلاء الناس ساعة التوقيع على أيِّ اتفاق مع الحكومة! الأحد: وددت لو ان المرحوم القاص الزبير علي الذي ترجم كتاب أليك بوتر ، مؤسِّس قسم العمارة بكليَّة الهندسة بجامعة الخرطوم ، وزوجته التشكيليَّة مارقريت ، والموسوم بـ (Every Thing is Possible: Our Sudan Years) ، قد اختار ، لترجمة العنوان الجانبي ، عبارة (سنواتنا في السودان) ، بدلاً من عبارة (سنوات في السودان) التي لم يتح لي أن أفهم الحكمة من إيثاره إيَّاها على الأصل ، حرفاً وروحاً ، رغم أنها ، وقد أكون مخطئاً ، تفتقر إلى الحميميَّة المائزة ليس للعنوان ، فحسب ، وإنما لمجمل النص. تلك ، على كلٍّ ، ملاحظة طفيفة لا أخالها تقدح في قيمة الترجمة التي اتسمت ، كما وصفها يوسف فضل عن حق ، في تقديمه لها ، بالجودة والسلاسة. من أمتع فصول الكتاب ، وأكثرها ، في ذات الوقت ، إثارة للغبن ، الفصل الذي يورد فيه الكاتبان بعض الروايات عن صنع تمثالي غردون على ظهر جمل وكتشنر على ظهر حصان ، ونقلهما من انجلترا إلى السودان. فهما ليسا أصليَّين ، كما يعتقد الكثيرون ، بل تقليدان لتمثالين آخرين: أحدهما من اعمال أونصلو فورد لغردون ، البطل القومي بنظر البريطانيين ، وكان حاكماً عامَّاً للسودان ذبحه الثوَّار المهدويون على دَرَج سرايه لدى اجتياح جحافلهم المنتصرة للخرطوم ، وكان عُرض لأوَّل مرَّة عام 1889م بالمعرض الصيفي للاكاديميَّة الملكيَّة بلندن ، قبل نقله ليُنصَب في فناء مدرسة الهندسة العسكريَّة بشاثهام ، أما الآخر فمن اعمال سدني مارش لكتشنر ، قائد الجيش الاستعماري الغازي في معركة كرري صباح 2/9/1898م ، وكان منصوباً في كلكتا بالهند. التمثالان المُقلدان كانا قائمين ، حتى عهد عبود ، في موقعين مهمَّين بالخرطوم: الأول في الساحة الموسومة الآن بـ (ساحة الشهداء) جنوبيَّ القصر الجمهوري (سراي الحاكم العام) ، والآخر في باحة وزارة الماليَّة على شارع النيل. والواقع أن قراراً كان قد صدر من الحكومة البرلمانيَّة ، مطالع الاستقلال ، بإنزالهما وإعادتهما إلى لندن ، لكنه لم ينفذ إلا بعد انقلاب عبود عام 1958م! إستهجن البعض ، أوَّل عرض تمثال غردون بلندن ، أن يُصوَّر "رمزهم الأسطوري" على ظهر حيوان "متخلف" كالجمل! لكن فورد ردَّ ببساطة: "لأن الجمل كان وسيلة مواصلات غردون المفضلة"! نصِبَ التمثال المُقلد ، أولاً ، عند زقاق القدِّيس مارتن بلندن ، جوار الصالة الوطنيَّة للفنون التشكيليَّة ، قبل أن يُرحَّل إلى الخرطوم. ويورد المؤلفان العديد من المواقف الطريفة التي صاحبت ترحيله ، حيث استقرَّ ، ابتداءً ، في قاع التايمز ، ضمن حمولة الباخرة سيداردين ، جرَّاء اصطدامها بأخرى! وتصادف مرور الباخرة ليسبيان التي انتشلته وأقلته إلى الاسكندريَّة ، ليقطع ، من ثمَّ ، ستمائة ميل على القطار حتى الشلال ، حيث سقطت ، مرَّة أخرى ، كتلة البرونز التي تزن خمسة عشر طناً ، وابتلعها النيل ، أثناء نقلها إلى باخرة نهريَّة! لكنها انتشلت ، ووضعت على ظهر الباخرة ، لتشق طريقها ، جنوباً ، إلى حدود السودان ، ومن هناك ، بالقطار ، إلى الخرطوم بحري! وبما أن جسر النيل الأزرق لم يكن قد شيِّد ، بعد ، فقد نقل التمثال إلى باخرة نهريَّة أقلته إلى موقعه المُقرَّر ، حيث شيِّدت له قاعدة حجريَّة عالية قبالة (سراي غردون)! سوى أن القاعدة انهارت تحت ثقله ، وغاصت في التربة الرخوة تحته ، مِمَّا استوجب معالجات مُعقدة حتى أمكن نصبه! أما تمثال كتشنر المُقلد فحكايته حكاية! إذ كان كتشنر نفسه في رحلة إلى السودان عام 1911م لصيد الأفيال والأسود ووحيد القرن ، حين عرض عليه خلفه ريجنالد ونجت إقامة تمثال له على سبيل تكريمه. وافق كتشنر ، مقترحاً الاستفادة من القالب الذي استخدم في صبِّ تمثاله الأصلي. ورغم أن من شأن ذلك تقليل النفقات ، إلا أن الخزينة لم تكن لتتحمَّل كلفة ملء القالب بالنحاس المصهور! ومع ذلك فقد توصَّل ونجت لحلٍّ بارع! كانت ثمَّة أطنان من النحاس في هيئة ظروف طلقات فارغة جُمِعَت من ميدان كرري ، وأرسلت لإنجلترا. فما كان من ونجت إلا أن وجَّه بصهرها وصبِّها داخل القالب! هذه الفكرة استدعت إلى ذاكرة المترجم النبيه قصَّة صبِّ المثال الاغريقي الشهير فدياس درع تمثال الربَّة (أثينا بروماخوس) من برونز دروع أعداء بلاده من الفرس المهزومين! أخَّر نشوب الحرب الأولى عام 1914م نقل التمثال من لندن إلى الخرطوم حتى عام 1920م ، وكان كتشنر قد لقي مصرعه قبل ذلك بأربع سنوات ، عندما أصيبت باخرته خلال الحرب في بحر الشمال! ولأن وسائل المواصلات كانت تحسَّنت ، وقتئذٍ ، فقد أمكن ترحيل التمثال من انجلترا إلى قناة السويس فبورتسودان ، ومن ثمَّ بالقطار رأساً إلى الخرطوم عبر جسر النيل الأزرق الذي كان قد شيِّد آنذاك. هكذا تسلم مكتب السكرتير الاداري ، ذات صباح ، إخطاراً روتينياً لاستلام طرد من مخزن البضاعة بمحطة السِّكَّة حديد بالخرطوم. لكن الساعي المسكين ، عندما ذهب لإحضار الطرد بدراجته الحكوميَّة كالعادة ، فوجئ بحاوية خشبيَّة ضخمة ، وبداخلها كتشنر على صهوة جواده بحجم أكبر من الطبيعي مرَّة ونصف! وذكر المؤلفان أنهما ، عندما رويا للمرحوم ثابت حسن ثابت ، أوَّل مدير سوداني للآثار والمتاحف ، حكاية صبِّ التمثال من النحاس المصهور لفوارغ رصاص كرري ، "ضحك .. إحدى ضحكاته العميقة .. وأجاب بصوت يُذكِّر السامع بصوت الفنان بول روبنسون: إذن هذا هو ما قالوه! أنا لم أسمع بذلك أبداً"! أخطر ما في رواية (كرري بروماخوس) هذه ، لو صحَّت ، أن قرار إعادة التمثال إلى بريطانيا يُعتبر ضرباً من (الخراقة السياسيَّة) ، إن لم يكن أكثر من ذلك! فالتمثال ، في حقيقته ، مصبوب من نحاس الذخيرة التي أفضت لاستشهاد عشرة آلاف ، وجرح ستة عشر ألفاً آخرين ، من اجدادنا الاشاوس الذين تدافعوا في ساحة الوغى كما الضوارى الكواسر ، لا تعوزهم البسالة ولا الاستعداد للفداء ، فأبدوا من ضروبهما ما أذهل المراسلين الحربيين ومؤرِّخي معركة أم درمان ، لولا أن العزلة الخانقة عن وقائع عالم ما ينفكُّ يتطوَّر من حولهم ، فرضت عليهم ألا يبلغوا من عِلم السلاح ، مع مغارب القرن التاسع عشر ، أكثر من بقايا مدافع هكس ، وبنادق الريمنتون ، وأبو صرة ، وأبو روحين وما إليها ، بينما جيش كتشنر يحصدهم حصداً برشاشات المكسيم ، ودانات المنثار ، وشظايا الخراطيش ، ونيران البوارج المدرَّعة! فكيف تنازلت الارادة الوطنيَّة ، تحت رايات الاستقلال الذي تحقق بعد ما يربو على نصف قرن ، عن نحاس الذخيرة التي قضت على تلك الأرواح الزكيَّة ، لتعيدها ، طائعة مختارة ، إلى دولة المتروبول التي جثمت على صدر بلادنا من فوق كلِّ تلك التضحيات الجسام؟! ألم يخطر ببال أيٍّ من القائمين على الأمر وقتها ، مدنيين أو عسكريين ، أن الواجب كان يقتضي إذابة تلك الكتلة ليُشيَّد منها نصب تذكاري لأولئك الشهداء الأماجد ، بدلاً من الصرف البذخي على الاحتفال بإنزال التمثالين وتسليمهما إلى بريطانيا؟! إن مِمَّا يزيدك غبناً على غبنك أن تطالع تفاصيل المراسم الملوكيَّة التي أحاط بها جنرالات عبود إنزال التمثالين ، وحفظهما ، لشهرين ، في فناء خلفي بمبنى متحف الآثار القديم ، قبل ترحيلهما ، معزَّزين مكرَّمين ، إلى موطنهما! لقد حرصوا ، أيَّما حرص ، على الطقوس المبهظة لإسدال الستار عليهما ، تمهيداً لإزاحتهما من قاعدتيهما ، وترتيب طوابير الشرف الفخيمة أمام كلٍّ منهما ، وتنظيم فرق الموسيقى العسكريَّة في ستراتها البيضاء الزاهية ، وتنوراتها الزرقاء ذات الثنيات الطوليَّة ، تستقبل السفير البريطاني بالمقاطع الافتتاحيَّة من نشيد (حفظ الله الملكة!) ، وتعبِّق الاجواء بالالحان (الاسكتلنديَّة!) الصدَّاحة ، ثم تختم بـ (لحن الوداع!) التقليدي! وكما لو ان ذلك كله لم يكن كافياً لـ (حفنة الجنتلمانات) ، اللقب الذي أطلقته التايمز اللندنيَّة ، وقتها ، على جنرالات عبود ، فقد زادو عليه بأن واظبوا على أن يبعثوا إليهما ، كلَّ صباح ، بباقات الزهور النضرة خصماً على أموال دافعي الضرائب! وفسَّر خادم دولة يسكن في الجوار ذلك المسلك للمؤلفين بقوله ، لا فضَّ فوه: "السودانيُّون بطبعهم يحترمون البسالة والشجاعة"! ورحم الله الزبير الذي فاض به الغبن ، ولا بُدَّ ، فأضاف هامشاً إلى النصِّ المترجم ، قال فيه: ".. ولكن ، عندما يتعلق الأمر بالغزاة والمحتلين فيستحيل على سوداني أصيل أن يحترم تلك الصفات"!
الإثنين: ما زال الناس في أمريكا يؤلفون النكات عن (ذكاء) رئيسهم بوش! أحدثها ما يُروى عن الجِّنِّيِّ الذي ظهر له ، بغتة ، ليمنحه ثلاث دقائق فقط يطلب خلالها ثلاث أمنيات فيحققها له في التوِّ والحين! تلفت بوش مرتبكاً ، ثم ألقى بأمنيته الأولى: زجاجة من الجُعَة الباردة لا ينفد محتواها قط! وما بين غمضة عين وانتباهتها كانت الزجاجة على مائدة بوش الذي سارع لتجرُّعها مندهشاً من أنها ما تكاد تفرغ حتى تمتلئ! ولكي لا يضيِّع الوقت في الدهشة ، فقد نبَّهه الجِّنِّيُّ إلى أنه لم يستفد ، بعد ، من فرصة الأمنيتين الاخريين. فما كان من الرئيس (الذكي) إلا أن سارع لطلب زجاجتين أخريين .. من ذات الصنف!
#كمال_الجزولي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
كَابُوسُ أَبيلْ!
-
غابْ نَجْمَ النَّطِحْ!
-
بُحَيْرَةُ مَنْ؟!
-
دِيْكَانِ عَلَى .. خَرَاب!
-
صُدَاعٌ نِصْفِي!
-
كَجْبَارْ: إِرْكُونِي جَنَّةْ لِنَا! - سيناريو وثائقي إلى رو
...
-
عَوْدَةُ الجِّدَّةِ وَرْدَةْ!
-
الحُرُّ مُمْتَحَنٌ!(صَفْحَةٌ مِن مَخْطُوطَةِ ما بَعْدَ السِّ
...
-
طَاقِيَّتي .. التشَاديَّةْ؟!
-
كانْ حاجَةْ بُونْ!
-
إنتَهَت اللَّعْبَة!
-
سَفِيرُ جَهَنَّمْ!
-
برُوفيسورَاتُ تُوتِي!
-
العَقْرَبَةُ!
-
لَكَ أَنْ تَرمِيَ النَّرْد!
-
شَمسٌ كَرَأسِ الدَّبُّوس!
-
قصَّةُ بَقرَتَيْن!
-
الحَامِضُ مِنْ رَغْوَةِ الغَمَامْ - الأخيرة
-
الحَامِضُ مِنْ رَغْوَةِ الغَمَامْ (6) (مَبحَثٌ فى قِيمَةِ ال
...
-
الحَامِضُ مِنْ رَغْوَةِ الغَمَامْ (5) (مَبحَثٌ فى قِيمَةِ ال
...
المزيد.....
-
رجل وزوجته يهاجمان شرطية داخل مدرسة ويطرحانها أرضًا أمام ابن
...
-
وزير الخارجية المصري يؤكد لنظيره الإيراني أهمية دعم اللبناني
...
-
الكويت.. سحب الجنسية من أكثر من 1600 شخص
-
وزير خارجية هنغاريا: راضون عن إمدادات الطاقة الروسية ولن نتخ
...
-
-بينها قاعدة تبعد 150 كلم وتستهدف للمرة الأولى-..-حزب الله-
...
-
كتاب طبول الحرب: -المغرب جار مزعج والجزائر تهدد إسبانيا والغ
...
-
فيروز: -جارة القمر- تحتفل بذكرى ميلادها التسعين
-
نظرة خلف الجدران ـ أدوات منزلية لا يتخلى عنها الألمان
-
طائرة مساعدات روسية رابعة إلى بيروت
-
أطفال غزة.. موت وتشرد وحرمان من الحقوق
المزيد.....
-
كراسات التحالف الشعبي الاشتراكي (11) التعليم بين مطرقة التسل
...
/ حزب التحالف الشعبي الاشتراكي
-
ثورات منسية.. الصورة الأخرى لتاريخ السودان
/ سيد صديق
-
تساؤلات حول فلسفة العلم و دوره في ثورة الوعي - السودان أنموذ
...
/ عبد الله ميرغني محمد أحمد
-
المثقف العضوي و الثورة
/ عبد الله ميرغني محمد أحمد
-
الناصرية فى الثورة المضادة
/ عادل العمري
-
العوامل المباشرة لهزيمة مصر في 1967
/ عادل العمري
-
المراكز التجارية، الثقافة الاستهلاكية وإعادة صياغة الفضاء ال
...
/ منى أباظة
-
لماذا لم تسقط بعد؟ مراجعة لدروس الثورة السودانية
/ مزن النّيل
-
عن أصول الوضع الراهن وآفاق الحراك الثوري في مصر
/ مجموعة النداء بالتغيير
-
قرار رفع أسعار الكهرباء في مصر ( 2 ) ابحث عن الديون وشروط ال
...
/ إلهامي الميرغني
المزيد.....
|