أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - محمد البيتاوي - حكايات من المسطبة / 1














المزيد.....

حكايات من المسطبة / 1


محمد البيتاوي

الحوار المتمدن-العدد: 2033 - 2007 / 9 / 9 - 09:11
المحور: الادب والفن
    



أرخت الشمس ذوائب شعرها الذهبي فوق حقول قريتنا، فأنضجت الحصد والثمر بدفء حنانها، فتوسد المزارعون غُمْرَ القش على البيادر، وراحوا يحلمون.. كانت أحلامهم محملة ببساطة حياتهم، وإذا ما اشتط بعضهم في أحلامهم، كانوا يحرصون على أن لا يدخلوا حقول ألغام المستحيل...

الناس في قريتنا، طيبون جداً.. ولما كانت البساطة تغري الكثيرين ممن خُدعوا، أو هم خَدَعوا أنفسهم، بتوهمهم بأنهم قادرون على تشكيل حياة الناس في قريتنا، وتلوينها، حسبما يرغبون ويشتهون، فإن أحلام هؤلاء كانت تسيح، لتعبر حقول قريتنا في جداول لزجة، دبقة.. يغذيها لعاب يسيل، ليعمق جداول الرغبة المتدفقة من أعماقهم.. فتنمو أحلامهم الزئبقية.. وتتضخم فقاعات الرغبة على وجه الجداول اللزجة..

كانت البساطة وحدها كافية لأن تستثير جشعهم، فكيف إذا ما امتزجت بالطيبة؟. ولكنهم صدموا عندما اكتشفوا بأن أبناء قريتنا ليسوا سُذَّجاً ولا حُمقاً ولا أغبياء..
صحيح أن الفطرة قد جبلتهم على البساطة والطيبة.. ولكن متى كانت الفطرة والطيبة مرادفتان للجهل والحمق؟ يكفي أن كل ما في قلوبهم ينزلق عن ألسنتهم بكل بساطة، ذلك بأنهم لا يعبؤون بأمور العصر،ولا بمستجداته، ولا بمتطلباته من الأتيكيت والبروتوكولات، وما قد يصحب ذلك كله من نفاق وتدليس وتدجيل ..

فإذا قال أحدهم: "أُحِبُكَ".. فإن هذا يعني بأنه يحبك دون طمع ولا مأرب.. إذا قال "روح يا.."، فتأكد بأن ما دفعه لقول ذلك هو استيائه منك أو من تصرفاتك، ولا تتوقع منه أن يغير رأيه فيك إلا إذا غيرت أنت ما في نفسك..

إنها سِنَنَهم في الحياة، تلك السِنَة التي فَطَرت صغيرهم على حب كبيرهم واحترامه، كما فطرت كبيرهم على العطف والحنان على صغيرهم.. أصحاب نخوة.. إذا سمع أحدهم صرخة استغاثة، صاح دون تردد: "جيتك".. وغالباً ما يلبون النداء قبل أن يعرفوا من المستغيث.. فيترك واحدهم ساقيه لتنطلقان نحو مصدر الاستغاثة بدافع غريزي، قبل أن ينبت السؤال في الرأس: "ترى من المستغيث؟"...

ولكن يبدو أن عالمنا الذي تجاوز كل هذه المعاني، بات ينظر إلى هذه العفوية الفطرية، وبخاصة النخوة، بشيء من الاستهجان.. ولكن ما ذنب الناس في قريتنا إن كان الآخرون لا يفهمون هذه الحقيقة!؟ ولأنها حقيقة راسخة في وجدان أبناء قريتنا، لم تفلح كل محاولات العصرنة في إزاحتها عن بؤرة الاهتمام في رؤوسنا.. وعندما تطرح عشرات الأسئلة، قد لا نجد لها إلاَّ جواباً واحداً.. "إللي ما عنده نخوة، ما عنده غيرة على عرض ولا ارض". هكذا بكل بساطة..

فقاموس حياتهم يخلو من مشتقات الحقد والضغينة والخبث والمكر، ولكن هذا لا يعني بالضرورة أنهم ضعفاء أو جبناء.. وأنهم بلا حول ولا طول.. أما كان عليهم أن يدركوا أن القلوب التي عمرت بالحب والخير والإخاء، لا مكان فيها للكراهية والمقت؟ ولكن هذا لا يعني بالضرورة خلوها من مشاعر الغضب والسخط والاستياء الكامنة في أغوار النفس..

ويبدو أن هذا الكم من الالتباسات وسوء الفهم، قد ولد لدى البعض استمراء الاستخفاف بهم، لأنهم لا يريدون أن يروا إلاَّ ما يرغبون في رؤيته عند الآخرين، مما قد يدفع الأمور للاقتراب من الانفجار البركاني في نفوس أبناء قريتنا، تلك النفوس الطرية الغضة التي لا تتوائم مع خشونة أياديهم، التي ما زالت تحتفظ ببكارة عفويتها..
ولكن من يستطيع التكهن بما يمكن أن تؤول إليه الأمور إذا ما وقع المحظور، وخاصة أنَّ الكثيرين لا يريدون أن يفهموا، أو أن يستوعبوا، تلك البساطة الممتزجة بالبداهة والعفوية والفطرية، لا لشيء، إلاَّ لأخْذِهم العزة بالإثم، ولقناعة تعتمد في الأساس على التميُّز عندهم.

وهذا العنت ولَّد شعوراً لدى البعض أن أبناء قريتنا يجهلون تمييز الألف من كوز الذرة.. فانهالت عليهم الاتهامات بالتخلف والجهل، رغم أن كل الدراسات التي أجريت عليهم، أثبتت بما لا يدع مجالاً للشك، بأنهم يمتازون بأدنى نسبة من الأمية في المنطقة، وأنهم قاب قوسين أو أدنى من نسبة الأمية في الدول الإسكندنافية وقلب أوروبا، وإن كانوا لا يملكون نعومتهم، وطراوة أناملهم.. ولكن متى كانت الأمور تحسب بالطراوة والنعومة؟

صحيح أن مداعباتهم، لا تخلو من الخشونة والقسوة، التي قد تصل حدَّ الإيلام المر، إلا أن ذلك كله يأتي انسجاماً من طبيعة حياتهم الخشنة القاسية.. حيث وخزة البرد القارس شتاءً تخترق عظامهم، ولفحة الشمس المحرقة صيفاً تشوي وجوههم وجلودهم.. فتتلون طباعهم تبعاً لذلك، ببرد وحر..

فها هي أياديهم المشققة قد اكتست بأكثر من طبقة جلدية، لتتحدى قَبضاتهم عصيَّ المعاول الخشنة، وهي تضرب وجه الأرض لتخرج خيرها.. ولكن هذا لا يدعو إلى الامتعاض من قسمات وجوههم الصلبة التي ملَّح جلدها عرق لا ينضب.. فالبسمة التي تنبت في تلك الوجوه التي جف جلدها، لا تخرج إلا من القلب، وهي لن تخطئ قلبك إن أنت استْطْعَمْتَ العرق المالح.. ولكن هذا لا يعني بالضرورة أنهم قد نسوا بعض المداعبات الرقيقة العذبة الناعمة، فكيف وعروقهم النافرة تَخْضَرُّ مع قطرات الندى التي تداعب مزروعاتهم، فترطب قلوبهم بالسعادة والقناعة، والحب والأمل الآتي مع موسم حصادٍ جديد، يغريهم بالتمرغ بطمي الأرض، ليستروحوا رائحتهم فيها، ورائحتها فيهم. فالحب لا يولد إلا الحب.. والقسوة، كل القسوة في أن تطعن براءة القلب، باتهامه بما ليس فيه..

وها هي البسمة تخضر فوق شفتيها المكتنزتين، وهو يلمس خدها بظاهر كفه وهو يغادر منزله متوجهاً إلى عمله، فقالت في وجد:

- روح الله يفتحها بوجهك وييسر رزقك ورزقنا، ويرجعك إلنا بالسلامة..

فتنهد باطمئنان وهو يتابع طريقه، ممتزجاً بموكب الذاهبين إلى أعمالهم.. فلم تعد منهم إلا قلَّة قليلة يتوجهون إلى حقولهم، وأما الباقون، فكانوا يذهبون إلى المدينة لعلهم يظفرون بعمل بها، ليسدوا رمق أطفالهم..



#محمد_البيتاوي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- بعض من ألم وعبرة
- هذيان خارج النص
- حواريات في الحب
- مقطع من رواية : اوراق خريفية
- الصوت والصدى
- بقايا من ثمالة
- قصص قصيرة


المزيد.....




- الكوفية: حكاية قماش نسجت الهوية الفلسطينية منذ الثورة الكبرى ...
- رحيل الكوميدي المصري عادل الفار بعد صراع مع المرض
- -ثقوب-.. الفكرة وحدها لا تكفي لصنع فيلم سينمائي
- -قصتنا من دون تشفير-.. رحلة رونالدو في فيلم وثائقي
- مصر.. وفاة الفنان عادل الفار والكشف عن لحظات حياته الأخيرة
- فيلم -سلمى- يوجه تحية للراحل عبداللطيف عبدالحميد من القاهرة ...
- جيل -زد- والأدب.. كاتب مغربي يتحدث عن تجربته في تيك توك وفيس ...
- أدبه ما زال حاضرا.. 51 عاما على رحيل تيسير السبول
- طالبان تحظر هذه الأعمال الأدبية..وتلاحق صور الكائنات الحية
- ظاهرة الدروس الخصوصية.. ترسيخ للفوارق الاجتماعية والثقافية ف ...


المزيد.....

- مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة / د. أمل درويش
- التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب ... / حسين علوان حسين
- التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا ... / نواف يونس وآخرون
- دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و ... / نادية سعدوني
- المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين / د. راندا حلمى السعيد
- سراب مختلف ألوانه / خالد علي سليفاني
- جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد ... / أمال قندوز - فاطنة بوكركب
- السيد حافظ أيقونة دراما الطفل / د. أحمد محمود أحمد سعيد
- اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ / صبرينة نصري نجود نصري
- ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو ... / السيد حافظ


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - محمد البيتاوي - حكايات من المسطبة / 1