أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عدنان الظاهر - المتنبي لا يقرأ الشعر مع الموسيقى















المزيد.....

المتنبي لا يقرأ الشعر مع الموسيقى


عدنان الظاهر

الحوار المتمدن-العدد: 2037 - 2007 / 9 / 13 - 10:57
المحور: الادب والفن
    


- 13 -

إلتقينا في مركز المدينة منتصف نهار يوم مشمس رائع. جاء هذا اليوم بدون قبعة الرأس وبدون سترة. كان يرتدي قميصا أبيض مكويا بشكل
جيد. حييته فرد بحرارة قائلا ما توقعتك تأتي حسب الإتفاق. فلقد أتخمتك بالأمس بالرز والسمك وعدد لا يحصى من أقداح الشاي الثقيل. ثم سأل كيف نمت وهل نمت بشكل إعتيادي. قلت أجل. نمت بشكل طبيعي ولكن كالعادة حوالي منتصف الليل. لا أستطيع أن أنام قبل هذا الوقت. قال أحسدك ... لأنني لا أنام في العادة قبل الثانية صباحا، صيفا وشتاء. قلت له وبم تشغل نفسك حتى أو قبل أن يأتيك النوم ؟ قال آوي إلى الفراش مثلك حوالي منتصف الليل وأظل أتقلب يمنة ويسرة وتتقلب معي أفكار شتى منها السخيف ومنها الجدي الذي لا جواب له، منها المحزن والمبكي ومنها… ومنها … ، قلت له لو كنت مكانك لنهضت بدل البقاء متقلبا في الفراش وكتبت شيئا طريفا أو مفيدا. قال مثلا ؟ قلت قصة أو رواية أو تعليقا أو ما شابه ذلك. أضفت ... أنا أعرف أنك توقفت عن قول الشعر الذي قتلك أو تسبب في قتلك فخسرته وخسرت حياتك وحياة عائلتك وحاشيتك الكبيرة. قال من بين ما نهب القتلة من متاعي ديواني بخط يدي وديوان " أبي تمام " مخطوط بالذهب على وريق من حرير هدية لي من " إبن العميد " حين زرته ومدحته في " أَرِجّان " فارس. أما عضد الدولة البويهي فقد أغرقني بنفيس السجاد ونادر الطنافس وغيرها من أواني الذهب والفضة والزجاج المطعم. قتلوني ونهبوا متاعي وسَبَوا حريمي وأهل بيتي وخدمي وحشمي والجواري. حسبي الله ونعم الوكيل. قلت له قد كنا تكلمنا في هذا الموضوع فلا حاجة بنا لإعادة فصول مأساتك المروعة.
واصلنا المشي فوجدنا أنفسنا في " مارين بلاتس " في قلب المدينة. أعجبه المكان فقد كان عاجا بالبشر سياحا وغيرهم. كانوا في أنتظار الساعة الحادية عشرة ليتمتعوا بمنظر ساعة البرج في أعلى دار حاكم المدينة تدور بالراقصين والفرسان يتناضلون بأرماحهم وصوت البلبل الذي يعلن تمام الساعة الحادية عشرة. وتتكرر نفس الطقوس على تمام الساعة الخامسة عصرا. مناسبتان تستهويان السياح الأجانب بشكل خاص. وجدنا كرسيين فارغين في ركن ظليل من أحد أركان الساحة قريبا من محل لبيع الحلي وقلائد الكهرب وباقي زينات بنات حواء. قال لا ينقصني في هذه الجنة إلا فنجان قهوة. قلت سنشرب القهوة فيما بعد. قال موافق بشرط أن تحدثني كما وعدت بالأمس عن جوانب أخرى من عجائب الدنيا في هذه الأيام. قلت هل أتاك حديث بعض شعراء هذا الزمن ؟ قال ماذا ومن تقصد ؟ قلت كلهم تقريبا. كلهم لا يقرأون شعرهم اليوم إلا على أنغام الموسيقى والغناء. طلب مني بشيء من الإستنكار والإستخفاف أن أعيد قولي. أمال جسده ورأسه نحوي وكرر طلبه أن أعيد ما قلت. أعدتُ ما قلت فعبس وولى بوجهه عني ساحبا علبة السجائر من جيب سرواله. أشعل النار في لفافة التبغ بعمق شديد وتؤدة. أراد أن يقول شيئا لكنه فضل أن يواصل التدخين قبل أن يتكلم. تركته يمارس حريته علّه يقول شيئا يفرج به عن نفسه التي تأزمت بشكل حاد وإنقلبت سحنة وجهه الى أطياف شتى: رمادية – خضراء – زرقاء – بنية … حتى أشفقت على الرجل لأنه لم يألف هذه الظاهرة في ماضي عمره. أنهى لفافة التبغ وإنصرف إليَّ مصطنعا إبتسامة منافقة صفراء تخفي تحت أديم وجهه أكثر مما تبدي. شجعته على الكلام قائلا كنتم تقرأون الشعر في المحافل الوقورة وفي سوح القتال أو في مناسبات التشريف الوطنية والإجتماعية وما قام مقامها، أليس كذلك ؟ قال إي والله. كنا جادين فيما نقول من شعر. إييييييييه، إيه! يا نفس جدّي فإنّ دهركَ هازلُ!. سرح بعيدا يتفرس في وجوه المارة أو الواقفين بجوارنا ثم قال: ما سبب ولع هؤلاء الشعراء في إلقاء أشعارهم بصحبة الموسيقى والغناء ؟ قلت علمي علمك، لا أدري. فلنسألهم أو نسأل واحدا منهم. قال وهل تعرف منهم
أحدا ؟ قلت أجلْ، أعرف البعض منهم لكني لا أجرؤ أن أفتح هذا الموضوع معهم. قال لماذا ؟ قلت لأنهم لا يتقبلون مثل هذه الأسئلة. قال دعني أقول لك شيئا واحدا : هؤلاء ليسوا شعراء ! لا يمكن أن يكونوا شعراء بالمرة. الشعر بريء منهم ومما يقولون. هؤلاء ( عربنجية ) من صنف ( جيم )، أي آخر خانات الشعراء. قلت لماذا هذا الحكم المتسرع الجائر؟ قال لأن الشعر شعر والغناء والطرب شيء آخر، بالمرة شيء آخر. لقد أفلسوا كشعراء فصاروا يتعكزون على الفنون الأخرى كالموسيقى والألحان والطرب. دعني أضيف شيئا أخر. الشعر يضيع مع الغناء،.يطغى الغناء عليه ويغطيه ولا يترك له فُرصة للنجاح.لا حظَّ للشعر مع الموسيقى والغناء. خبِرْ من تعرف من الشعراء على لساني ولا تخشَ في الحق لومة لائم. كن شجاعا في قول كلمة الحق. كن شجاعا. قلت بل سأعرفك على أحدهم وناقشه أنت بدلا مني. قال يبعد الشر، لا أهبط الى مستوى العربنجية من مفلسي الشعراء. ثم ما الذي يمنعهم من ترك قول الشعر وقد أفلسوا وأحالوا مثلك أنفسهم على التقاعد؟ قلت وكيف يتركون الأضواء الساطعة والتصفيق وما تدرّه الحفلات عليهم من مال يواجهون به متطلبات الحياة وهي كثيرة ومتشعبة هذه الأيام. حُجة بعضهم أن المطربين ليسوا أفضل ولا أشطر منهم ولا أكثر ثقافة وقد أصبح بعضهم مليونيراً. قال لكني أعرف أن الشاعر نزار قباني ما كان يقرأ أشعاره على أنغام الموسيقى وأصوات المطربين. قلت كان المرحوم نزار واسع الثراء بفضل قصائده المغناة. وكان هذا يكفيه. المطربات والمطربون هم أنفسهم يقرأون شعره مغنى. المطربة تصدح بشعر الرجل. هنا إلتحام وهناك إنفصام. والمنفصم غير الملتحم. قال وماذا عن الجمهور؟ قلت قد إنسجم مع هذه المودة الجديدة وصار يهواها ويفضل سماع الشاعر يُلقي شعره وبجنبه مغن أو ضارب طنبورأو عود وطبل. ضحك المتنبيء طويلا ثم قال (خوش جوقة من الدنبكجية. عال العال، والله عال. آه يا زمن ). قلت لكن ( والله يا زمن ) أغنية للمطربة " شادية " . قال أعرف، وأحب أغنيتها الأخرى التي تقول فيها ( سوق على مهلك سوق بُكرة الدنيا تروق ... ). لِمَ العجلة وكل من عليها فان. سأل ثانية لِمَ لمْ تغنِ المطربة شادية أشعار نزار قباني أسوة بالأخريات والآخرين مثل ( نجاة وفائزة وماجدة وعبد الحليم وكاظم
الساهر ) ؟ قلت قد غنت ألحان فريد الأطرش. قال وهل كان فريد شاعرا؟
كلاّ، كان مغنيا وملحنا ناجحا. قال وهل غنى فريد برفقة أحد من هؤلاء الشعراء - المرتزقة الذين أفلسوا في الوقت المناسب؟ قلت كلا. قال وهل أفلس الرجل ولم يحل مثلهم نفسه على التقاعد؟ كلاّ، لم يفلس ولم يبلغ أوان التقاعد. ظل يغني ويغني حتى لفظ آخر أنفاسه وهو يغني ويتحف الناس بجميل ألحانه ولواعج صدره. قال وأين دُفن بعد موته؟ في مصر. قال سنزور قبره يوما. هذا فنان حقيقي يحترم نفسه وفنه وجمهوره. على مصر أن تحتفظ بجسده محنّطا كي يبقى خالدا هرما رابعا أو خامسا كأي فرعون من الفراعنة الكبار وأحد عجائب الدنيا.
ونحن نغادر مكاننا قلت له كذلك لم يفعلها الشاعر " محمود درويش " ولم يفعلها “ سميح القاسم “. قال ويستنكف حتى المتنبيء منها ... المتنبيء الذي كان متهما بالبخل وحب الجاه والمال. إيه يا زمن.
كيف سنمضي بقية نهارنا يا صديقي المتقاعد والمفلس؟ سأل المتنبيء وكأن في نفسه بقية لُبابة للبقاء حيث كنا. لا يلام الرجل فالنقاش بيننا دافيء ومُغرٍ وجموع البشر فرحين مسرورين وكامراتهم معلّقة في رقابهم لا يكفون عن إلتقاط الصور لكل متحرك وساكن. سأل المتنبيء ما هذا الشيء المعلق في رقاب هؤلاء الناس؟ قلت وما تظن ؟ قال إنه يذكّرني بعليقة حصاني حين كنت أعلفه بالشعير وسواه من الحبوب. قلت هذه آلات للتصويروليست للعلف. قال أَهو أَهو أَهو. ظنننتها (عليجة). قلت له متى تكف عن التفكير بالأحصنة وعدة الحرب واللُجُم والشكائم والسروج. قال وكيف أكف وأنا القائل
وما في طبّهِ أني جوادٌ
أضرَّ بجسمهِ طولُ الجمامِ

تعوّدَ أنْ يُغبّرَ في السرايا
ويدخلُ من قَتامٍ في قَتامِ

فأُمسِكَ لا يُطالُ له فيرعى
ولا هو في العليقِ ولا اللجامِ

ركبنا أحد قطارات تحت الأرض من " ماريين بلاتس " متجهين نحو مكتبة بافاريا الحكومية. فقد رغب الشاعر أن يقرأ شيئا باللغة العربية. وصلنا المكتبة في منطقة جامعة ميونيخ الضاجة أبدا بالطلبة من مختلف الأجناس والجنسيات وبالمقاهي ومكتبات بيع الكتب الحديثة والقديمة ومخازن الألبسة ودكاكين الإستنساخ. إنتبه المتنبيء إلى عنصر الشباب والحركة الدؤوبة وحيوية مرتادي هذه المنطقة فسأل أين نحن؟ قلت في منطقة الجامعة حيث المكتبة الحكومية وفيها كتب وجرائد ومجلات بالعربية. أفلم تطلب أنت أن تقرأ شيئا بلغتك التي لا تعرف سواها ؟ قال بلى قد والله طلبت. لكن أجد هذه اللحظة في نفسي رغبة عارمة للجلوس في أحد هذه المقاهي بين الشباب والشابات من طلبة الجامعة. ما رأيت سابقا في حياتي مثل هذا الجو الذي يضع أمامي ذكريات الشباب بكل ما فيه من فتوة وعنفوان وإنجراف مع سلطان الطبيعة في الحياة. هيا خذني ولا تترد.
دخلنا أحد المقاهي وإتخذنا مجلسنا وسط مجموعة من الشباب كانوا يدخنون ويشربون أقداح القهوة والشاي ويأكلون قطع الكيك ويقرأون الصحف، ثم لا يكفون عن الكلام والنقاشات والضحك. طلبنا كالعادة قهوة وقطعتي كيك ثم قلت لصاحبي الشاعر مازحا ألا تريد كأس ماء ؟ قال أعوذ بالله. لا يُلدغ المؤمن من جحر مرتين. فعلتها مرة كما تتذكر فأكلتُ "العسل" مرّا زُعافا. كلا، لا أريد. أتحمل ظمأ جدي الحسين ولا أطلب الماء القُراح في هذا البلد حتى لو كان ماء دجلة والفرات وما بين النهرين. حين لاحظ المتنبي أن رواد المقهى يدخنون قال ألف الحمد لله، التدخين هنا غير ممنوع. قلت له هذه مقاهي للشباب، وليس من شيء أوأحد يقف في وجوه الشباب. دخّن ولا تكثرمن الأسئلة فإنَّ وراءنا جولة أخرى في مكتبة بافاريا. ثم ألا ترى أن الأبواب والشبابك مفتوحة على الآخر؟ الجو دافيء. أخذ صاحبي يدخن ويرتشف قهوته ببطء شديد. لا يريد أن يغادر المقهى. قال ألا تترجم لي فحوى كلام هؤلاء الصبايا والشباب؟ أريد أن أعرف إهتماماتهم وبم يفكرون وكيف يقتربون من حلول مشاكلهم وقضاياهم اليومية وما يخص دراساتهم. أريد أن أعرف ما هي الجامعة وما معناها، ذاك لأني ما كنت يوما طالبا جامعيا. درست في كتاتيب الكوفة ثم إعتمدت على نفسي في تثقيف نفسي. قلت ذاك موضوع يطول وما أتينا لهذه الغاية. أمامنا اليومَ مشروع آخر هو زيارة المكتبة وهي قريبة منا. ما علينا إلا أنْ نعبرَ الشارع الرئيس فنجد أنفسنا في داخل المكتبة. قال فلنؤجل زيارة المكتبة، أود المكوث في المقهى أطول وقت ممكن. لا أدري، شيءٌ ما شديد القوة يجذبني كالمغناطيس السحري إليها. شيء لا أستطيع وصفه. شيء أُعانيه لأول مرة في حياتي. أرجوك … فلنمكث هنا حتى موعد الإغلاق ليلاً. قلت تغلق المقهى في الحادية عشرة ليلا. وأنا ما عوّدتُ نفسي أن أظل في المقاهي حتى هذا الوقت المتأخر. قال إذن سنبقى حتى السابعة مساء على أن نزور المكتبة غدا أو بعد غد … كما تحب وتأمر. تضايقت من إلحاح صديقي البدوي الذي عاف دنيا البداوة وجاء إلى أوربا. لكني وجدت بعض السلوان والكثير من التصبرعلى إحتمال فجاجتة ولجاجتة حين وضعت نصب العيون كثرة إلحاحه على كافور في مصر في أن يوفي بوعوده في إيلائه ضيعة أو ولاية بل وحتى تنصيبه أميراً على العراق (( وغيركثير أن يزورك راجلٌ / فيرجعَ ملْكاً للعراقين واليا )) أو (( إذا لم تُنِطْ بي ضيعةً أو ولايةً / فجودك يكسوني وشغلك يسلبُ )). هكذا كان الرجل يلح على كافور في مطالبه. ومن جهته كان كافور يمعن في التسويف والمطل وعدم تنفيذ الوعود. لقد وطّنت النفس على تحمل الرجل لأنه كان يوما وحيد زمانه، وما زال. وافقت على مضض أن نبقى في المقهى حتى السابعة مساء لكني قلت له نحن في أوربا، وعليه إذا ما قررنا البقاء في المقهى طويلا فلسوف يكلفنا ذلك كثيرا. قال لماذا ؟ قلت لأن فتيات المقهى من العاملات سوف يأتين كما هي العادة بعد حين ليرفعن الكؤوس الفارغة ويمسحن الطاولة وصحون رماد السجائر ثم يسألن عما نريد أن نشرب ثانيةً أو أن نأكل. قال لكنا شربنا وأكلنا. قلت جلوسنا هنا يكلف المقهى مالا يدفعونه إيجاراً وأجوراً للعمال والعاملات والطباخين فضلا عن الماء والكهرباء وتعويض ما يتلف من صحون وكؤوس وكراسٍ وموائد وسواها،
فضلاً عن ضريبة الدولة. الوقت هنا عامل هام. الوقت نقود. ألسنا القائلين إنَّ الوقت من ذهب ؟ قال أفهم من كلامك إذن إننا يجب أن نظل نأكل أو نشرب ما دمنا جالسين هنا. بالضبط، بالضبط يا أبا الطيب. المقهى هنا ليست مضيفا شرقيا وليست بيت صديق يعرض عليك الطعام والشراب ما دمت ضيفا لديه. قال معك حق. إذن فلنختصر مكوثنا هنا إلى الساعة الخامسة بدل السابعة وسأدفع أنا قيمة ما سنأكل وما سنشرب. موافق؟ قلت موافق.
كان الرجل مأخوذا بما حوله مصعوقا بالأجواء التي لم ير مثيلا لها في حياته سواء في العراق أو بلاد الشام أو في مصر. قلت له أتحب أن تسجل في الجامعة طالبا لدراسة الأدب العربي أو الألماني أو حتى اللغة والأدب الإنجليزي ؟ قال فاتني كما تعلم القطار. كبرت وأحلت نفسي على التقاعد شاعرا وشخصاً. لم أعُدْ أصلح لشيء يذكرأو ذي بال. فات القطار. ثم كيف يقبلون طالبا في مثل سني. قلت تلك ليست مشكلة. هنا يدرس الناس مهما كانت أعمارهم. فُرص كثيرة متاحة لمن يروم الدراسة. دراسة منتظمة ودراسة بالمراسلة وأخرى مسائية على نفقة الدولة، ثم الدراسات الخاصة لمن يستطيع دفع الأجور. كان الرجل غارقا في خيال لا يعرف حدوده. يريد أن يتمتع بحياة سن الشباب والطلبة التي فاتته لكنه يشعر بالعجز والخوف من مغامرة خوض التجربة المجهولة النتائج. كان يخشى من إحتمال الفشل في الدراسة، وكانت تلك على رأس مشكلاته. الخوف من الفشل !.
قبل الساعة الخامسة وقد مللنا من تكرار طلب المزيد من الشاي والقهوة إقترح الرجل أن نغادر المقهى. رحّبت بالفكرة قائلا وسنتمشى في شارع الجامعة الواسع البهيج لأريك المزيد من المقاهي والمطاعم والبشر. سنتمشى حتى محطة قطار الأنفاق المسماة "Muenchener Freiheit " نركب منها حتى ساحة " ماريين بلاتس " حيث كنا صباح هذا اليوم. فبعد الخامسة تبدأ فعاليات فرق الغناء والرقص ولاعبي السرك والبهلوانيات وستكون في الساحة مسرورا أكثر من مسرتك في المقاهي. قال فكرة جيدة ولكن لكل مقام مقال. المقهى شيء وساحة البهلوانية وأهل الطرب شيء آخر. هؤلاء يذكرونني بجماعتك شعراء الهز والطنبور والمزمور.
تمشينا فعلا في الشارع الجميل فبهرته مقاهيه وكثرة روادها الجالسين على الأرصفة وتنوع أسمائها وأجناس الفتيات العاملات فيها وإختلاف ما يرتدين من ملابس فقال هنا أيضا أود أن أجلس يوما. هنا في مقاهي هذا الشارع. ما أسم هذا الشارع ؟ " ليوبولد "، شارع ليوبولد. قال سأحفظ هذا الإسم إذ ربما يروق لي يوما أن أرتاد أحد مقاهيه لوحدي بعيداً عنك وعن رقابتك الصارمة وعن نقنقاتك التي لا أول لها ولا آخر. الله كان في عون من كنتَ تدرّس في حياتك، وكان الله في عون عائلتك. أجدك أشد صرامة من أبي الهول المصري. قلت له أنت كنت قد زرت أبا الهول في مصر، أما أنا فلم أزره بعد وما كنت يوما في قاهرة المعز لدين الله. قال ستزورالإثنين قريباً. هكذا يقول لي حدسي وحاستي الخامسة عشر. قلت ألله يسمع كلامك ولعل دعوتك مستجابة. قال تستجاب دعوتي فقط إذا توقفتَ عن مراقبتي والحد من حريتي. وإذا أقنعت أصدقاءك شعراء الردح والهزأن يرفضوا هذا النهج المخزي وأن يعودوا إلى شعرهم وإلى صوابهم وإلى مواضيهم النظيفة. قلت لا أتدخل في شؤونهم، تلك مشكلتهم وهم المسؤولون عن نتائجها لا أنت ولا أنا، مفهوم ؟ قال مفهوم، حسبيَ ألله ونعمَ الوكيل. وإذا أصابت أحدكم مصيبةٌ قولوا لا حول ولا قوة إلا بالله .
وصلنا ساحة " ماريين بلاتس " فكانت شديدة الزحام عاجّة بالناس شديدة الحيوية والحركة. ما كان أبو الطيب مرتاحا من هذا الجو فقد كنا صباح هذا اليوم هنا في هذه الساحة. ثم كان ما زال واقعا تحت تأثير المفعول السحري لما رأى من مقاهٍ في منطقة الجامعة وما تسرّب إليه من روح الشباب وغضارة الصبا والرغبة الخائفة - الخجولة في مواصلة الدراسة بعد سن الخمسين. قلت له أنجلسُ كما فعلنا هنا صباح هذا اليوم؟ قال كلا، أحب الرجوع إلى البيت. أنهكني هذا اليوم بِشراً ومسرةً وضخ في عروقي بعض دم الشباب وحرارته التي لا تتحملها هذه العروق التي صلبتها الشحوم والزبدة وسمن النعاج الذي كنا نتناوله مع الدبس فطوراً. قد تنفجر في الرأس أو القلب فمن لك بعدي صديقا؟ قلتُ صعبة هي الحياة بدونك، قضيتها معك ولم أفارقك، لم أفارق شعرك ولا ديوانك. وهذه صورتك على طاولة القراءة منتصبة أمامي كصورة أمي وأبي وأشقائي. قال الأوفياء قليل في الحياة.
رافقته حتى بيته وأخذت طريقي إلى بيتي. لديَّ ما أكتبه. مذكراتي الطويلة. قررت أن أقرأ بعضا منها على أبي الطيب لعله يفيدني فيضيف إليها شيئا هاما أو أن يذكرني بأمور فاتتني سهوا أو نسيانا أوغفلة أوإهمالاً. الأنسان وحيداً ضعيف. لكن ما سأقرأ له ؟ من أين أبدأ جولاتي مع هذا الرجل ؟ فلأفكر مليا في الأمر. أريد أن أفيد من تجارب الرجل ومن خبراته في الحياة. متى سأنتهي من كتابة مذكراتي، متى؟ أين سأنشرها، أين؟ البدايات أبدا غاية في الصعوبة. مع ذلك، سأبدأ.



#عدنان_الظاهر (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- قصيدة [ مرحىً غيلان ] لبدر شاكر السياب
- [ المسيح بعد الصلب ] / قصيدة لبدر شاكر السياب
- المتنبي وفاتك المجنون
- المتنبي بين البدويات وحَضَريات ميونيخ
- المتنبي أمام إله الماء - نبتون -
- المتنبي في أوربا / بعد اللجوء
- المتنبي يبقى في لندن / الشاعر سعدي شيرازي يُرثي بغداد
- المتنبي في لندن / إبن طاووس وإبن خلدون
- المتنبي في متحف الشمع في لندن
- المتنبي يزور المتحف البريطاني في لندن
- المتنبي يُقيم ويعمل في لندن
- المتنبي في لندن / مع الشاعر عزيز السماوي
- المتنبي في أوربا / مع كارمن ودولة الخروف الأسود
- حوارات مع المتنبي / المتنبي في أوربا
- تصحيح معلومة خاطئة / إلى الأستاذ سلام عبود ... حول قصص جلال ...
- مقبرة الغرباء / رثاء الجواهري
- آليات الإبداع في الشعر / المتنبي نموذجاً
- الأوزون ... درع الأرض الهش
- رسالة لعدنان الظاهر من محمد علي محيي الدين
- التلوث والبيئة / الزئبق


المزيد.....




- الكوفية: حكاية قماش نسجت الهوية الفلسطينية منذ الثورة الكبرى ...
- رحيل الكوميدي المصري عادل الفار بعد صراع مع المرض
- -ثقوب-.. الفكرة وحدها لا تكفي لصنع فيلم سينمائي
- -قصتنا من دون تشفير-.. رحلة رونالدو في فيلم وثائقي
- مصر.. وفاة الفنان عادل الفار والكشف عن لحظات حياته الأخيرة
- فيلم -سلمى- يوجه تحية للراحل عبداللطيف عبدالحميد من القاهرة ...
- جيل -زد- والأدب.. كاتب مغربي يتحدث عن تجربته في تيك توك وفيس ...
- أدبه ما زال حاضرا.. 51 عاما على رحيل تيسير السبول
- طالبان تحظر هذه الأعمال الأدبية..وتلاحق صور الكائنات الحية
- ظاهرة الدروس الخصوصية.. ترسيخ للفوارق الاجتماعية والثقافية ف ...


المزيد.....

- مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة / د. أمل درويش
- التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب ... / حسين علوان حسين
- التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا ... / نواف يونس وآخرون
- دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و ... / نادية سعدوني
- المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين / د. راندا حلمى السعيد
- سراب مختلف ألوانه / خالد علي سليفاني
- جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد ... / أمال قندوز - فاطنة بوكركب
- السيد حافظ أيقونة دراما الطفل / د. أحمد محمود أحمد سعيد
- اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ / صبرينة نصري نجود نصري
- ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو ... / السيد حافظ


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عدنان الظاهر - المتنبي لا يقرأ الشعر مع الموسيقى