حوار عفيف إسماعيل- من القاهرة
د. طــــــــــــــارق الطـــــــيب يقـــــــــــــــــــول:
* الوقت خلفنا والكتابة أمامنا!
* القصيدة الحديثة أتاحت المجال لمن لا يعقل ولا يفهم بدخول المغامرة بسطحية وتوهمات لخبطت الأمور. وأصبح التفريق بين الشاعر والمتشاعر صعبا. وبين الكاتب والكاذب أمرا غير يسير.
* أين هي الساحة الثقافية السودانية حتى أتابعها؟
* لا أحب هؤلاء المتشدقين بكلمة المنفى وهم غير منفيين وكأن المنفى وسام أو حلية أو شيئا متاحا لكل من خرج ولو طواعية.
* هل من المعقول أن يكون شاعرا مصريا وعربيا مهموما بثقافة أمته أن يكون أكثر خطرا ممن يخربون في اقتصاد البلاد ويجعلون مواهبها تفر أو تنتحر.
كتب عنه الروائي السوداني الطيب صالحٍ في مقدمة مجموعته القصصية القصيرة "الجمل لا يقف خلف إشارة حمراء" :
"كونُ طارق الطيب مغترباً فهذه ميزة للكاتب المرهف الحساسية أما أن يكون مغترباً ليس في لندن أو باريس بل في فيينا فهذه في ظني ميزة عظيمة. ذلك أن الأدب العربي قد عرف كُتاباً تأثروا بالثقافة الفرنسية والثقافة الانجلوسكسونية، لكنه لم يعرف إلا نادراً – حسب علمي – كُتاباً تأثروا بالثقافة الألمانية. وهي ثقافة لا تقل ثراء وأهمية.
ومن حسن الحظ هذا الكاتب أنه يستطيع أنه يستطيع أن يقرأ في أصولها الألمانية الأعمال الروائية العظيمة لكتاب مثل توماس مان وهيرمان هسه وقُنتر قراس . ناهيك بالشعراء الكلاسيكيين العمالقة امثال قوته وشلر. ناهيك بالتراث الألماني الضخم في الفكر والفلسفة.
هذه المؤثرات المتعددة المتباينة، من شانها توسيع إدراك الكاتب وتذكي جذوة الإبداع لديه. وعلينا أن نتابع أطوار هذا الكاتب الشاب لنرى كيف ينعكس كل هذا في نتاجه".
د. طارق الطيب مبدع متعدد الإنتاج، فهو شاعر وروائي وتشكيلي وكاتب مسرحي . له حساسيته الخاصة التي تميزه كشاعر في التأمل والتقصي والاستنباط وإستيلاد المعاني لأفق جديد الدلالة ، تشع نصوصه الشعرية جمالاً، وذات مضمونيه عميقة تتأسس علي مشترك إنساني يدعو لخير البشرية ويحمل هموم الإنسان المعاصر وينتمي لكل هواجسه الجديدة. تم هذا الحوار بمناسبة صدور مجموعته الشعرية "تخليصات" الصادرة عن دار ميريت للنشر والمعلومات بالقاهرة.
* يتجلى في نصك حنين دائم إلي الطفولة، حدثنا عن تلك الطفولة وأسئلتها؟ ولأي مدى ساهمت في تشكيل نصك الشعري؟
أنا مواليد القاهرة في آخر عام من الخمسينات. محل الميلاد هو "باب الشعرية" كما هو مسجّل في شهادة ميلادي. الإقامة في منطقة عين شمس، لكنها ليست عين شمس الألفين، بل عين شمس الستينات التي لا يعرفها إلا من هم في مثل عمري أو أكبر، ممن عاشوا أو قضوا فيها شطراً من حياتهم. الأجازات توزعت بين منطقة البيومي الملاصقة للحسينية في القاهرة القديمة حيث عاشت جدتي لأمي وبين منطقة أبي صقل (ينطقونها أبو سَجَل) في العريش، شمال سيناء.
إذن البيئة الخارجية: تتحدد بمنطقة عين شمس شبه الصحراوية، منطقة بدوية زراعية قريبة إلى المدنية في آن، تمثل الطرف المتناهي من شمال شرق القاهرة. ثم بيئة منطقة البيومي والحسينية والجمالية والظاهر بما فيها من طقوس عتيقة تركت علاماتها كندبات ووشم جميل في الذاكرة. وأخيرا البيئة الساحلية البدوية الصحراوية (العسكرية إلى حد ما) في العريش. في عين شمس وفي العريش تواجدت جالية كبيرة للسودانيين وهذا ما فضله والدي في إقامته الطويلة.
ليس هناك شخص لا يحن إلى طفولته لا سيما إن كانت غنية هنية، وهكذا كانت لي. والطفل الذي فيَّ لا يستطيع الكذب، حتى حين يحتال قليلا يمكنك أن تقرأه بشكل مكشوف، وهو يتذكر كثيرا ويذكر ما رآه بعفوية.
لا أدري إلى أي مدى ساهمت طفولتي في تشكيل نصوصي بشكل عام، لكن مخزن الطفولة عظيم وبه حكايات لا تنتهي. وما كتبته حتى الآن عن طفولتي لا يتعدى واحد من الألف. أود أن أضيف أنني نشأت كطفل راديو لا طفل تلفزيون؛ لهذا تدربت أذني جيدا على الإنصات. إهمال ثروات الأذن خسارة كبيرة لأي أديب أو فنان.
* لك جملة في إحدى قصصك القصيرة "طفو فوق الذكريات" تقول فيها: "هويتي ضاعت. حائر أقف في منتصف الطريق، أحمل رأساً مخضباً بالذكريات"- ألامس حرقة حنين وأسئلة مشتعلة داخلك باستمرار عن موقع لك في هذا الوجود المترامي الأحزان؟
أرد مرارا على معظم الأسئلة المشابهة التي تأخذ النص الأدبي الفني على أنه من سيرة وحياة الكاتب بالضرورة، أرد بأنه لا ينبغي دائماً ضبط هذه المطابقة على حياة الكاتب والشاعر. هنا في القصة قول رجل أدركه الشيب في المغترب ولم يجهز نفسه لطريق الكبر هذه، فوقف حائرا في منتصف الطريق. ما أكثر هذه الشخصيات التي ألتقي بها مرارا في كل مكان! ليس فقط في أوروبا بل هنا أيضا، في محل تواجدك أنت في القاهرة. أنظر حولك ستجد عشرات يقفون حيرى في منتصف الطريق يحملون رؤؤسا مخضبة بالهم الحاضر ولا وقت لديهم لاجترار تعويض من الذاكرة.
هناك حنين هذا صحيح وأعترف به ولكن لا حرقة هناك ولا أحزان ولا مُحزِنون ولا أي نوع من أنواع المعاناة، بل على العكس هذا الحنين يخفف وهذا التذكر يطرّي من يبس الحاضر. هذا الحنين يجدد الأسئلة القديمة بشرط أن تبقى أسئلة دائمة ولا يشرع الأديب في الإجابة عليها بشطارة التلميذ، ثم ينعس، بل أسئلة تلد أسئلة وتفتح أبوابا لا نهائية. أن تطرح سؤالا واحدا ذكيا؛ لخير ألف مرة من أن تجيب إجابة مدرسية محفوظة علي مئة سؤال.
أزعم بأنني اعرف أين موقعي. لكن موقعي لا يعرف بالتبعية أين موقعه؛ إذ يتبدل باستمرار مضطراً أن أكون فيه. أحاول المروق منه لكن لا مفر. لا أحد يستطيع الإفلات من وضعية كهذه.
* ألا تعتقد أن الذكريات تشكل جزءا من نصك؟
بالتأكيد تشكل الذكريات جزءا من نصي. تاريخ الكتابة يبدأ من الذاكرة، دونها لا يمكن التأسيس، دونها لا يمكن للخيال أن ينطلق. لكل شيء قاعدة حتى ما يدور في الفضاء. مع أن الكلمة في ألفيتنا الحديثة صارت محملة بمحمولات سياسية غريبة ومعقدة. اقرأ ما يدور في ذهنك الآن حين تقول "قاعدة" وحين تجمعها في "قواعد"!
أعود للسؤال: كل ما مر بي ومررت به يمثل ماضيا وبالقدم ذكريات. لكن أي جزء يمكنني توظيفه في الكتابة ليكون معبرا وشاملا وواصلا بالفكرة. هذا هو الاختيار الصعب السهل في آن، به قد تنجح الكتابة أو قد تصير موضوعا إنشائيا سخيفا يصف تفاصيل لا قيمة أدبية أو فنية لها.
* أنت موزع الهوية سوداني النسب، مصري النشأة، نمساوي الجنسية، هذا الاشتباك الكوني إلى أى مدى ساهم في شحذ الشاعر فيك؟
أرجو ألا يتكئ السؤال على جملة "مشتت الهوية" بشكل ضمني غير مباشر. أنا لا أجد أية مشكلة ولا أيّ حرج في هذا التداخل المذكور. لا أحب كلمة الهوية في هذا المجال. لكني ببساطة ابن لرجل سوداني وأم سودانية مصرية. عاشا عمرهما كله في القاهرة حيث جئت للحياة؛ فعشت ربع قرن سعيدا في هذا المكان ومازلت أتردد عليه باستمرار. حصلت على جواز سفر نمساوي يمثل "هوية سفر وحرية حركة" وعضوية دائمة في عالم وسط أوروبا. ولا حاجة لي لإثبات الانتماء للأصول؛ ولم تصبح عيوني زرقاء بعد ولم يشقر شعري.
مشكلة هذه التركيبة ليست عندي بل عند الآخرين. في النمسا يقول السودانيون: "طارق الطيب سوداني!" فأرد هذا صحيح. ويقول المصريون: "لا، طارق الطيب مصري!" وأقول نعم هذا صحيح. ويخرج عليهم النمساويون بأن طارق الطيب نمساوي فييناوي وأقول هذا أيضا صحيح. لدي ثلاثة لن أقول هويات بل رحاب أعيش فيها فما هي المشكلة. لا أقول هويات لأن الهويات ضيقة تنزع إلى الانفصال والعزلة محدودة الأفق.
قبل عام ذكرت لي صديقة أن أديبة عربية تعيش في مصر احتجت في غضب لأنها لا تعرف هل طارق الطيب سوداني أم مصري. لم تكن في سبيلها لإخراج انطولوجيا أو ما شابه لأريح بالها، بل هي آفة تحديد الأشخاص على حسب بلدانهم لا نصوصهم وكتاباتهم. المصيبة انه أديبة!
ليس عندي مشكلة البتة في هذا الأمر وفي هذه التقسيمات. على العكس فهذا يفتح لي المجال للتعامل مع الأمور من الداخل بشكل متفاعل لا بشكل شخص مشاهد من الخارج. لأنني اعتبر نفسي متواجد في الكل يمكنني أن أفيد واستفيد دون حدة أو حدود أو تحديد. حين يتعلق الأمر بعنت ضد مصر تجدني مصريا أكثر من المصريين (مع الاعتذار لمن يأخذ الموضوع على غير ما أقصد) وأكون سودانيا بالصورة نفسها بل ونمساويا في أحيان كثيرة، خصوصا للسطحيين والمهرجين. الشوفينيون لديهم مشكلة أزلية مع أنفسهم لا يستطيعون حلها بل يسعون دوما لتصديرها تحت بند الهوية.
* تمارس أجناس أبداعية متنوعة، شعر، رواية، قصه قصيرة وتشكيل .. .. الخ. هل سوف تحتمل هذه التعدد طويلاً؟ أم كل المحاولات هي بحث عن قالب يقولك بشكل أفضل؟
الكتابة مثل الولادة لا تأتي من فراغ. أكتب حين يأتي طلق الكتابة وما يخرج مني لا أحدده مسبقا (هذا في البدايات) قد يخرج في شكل قصة أو مقطع من رواية أو قصيدة أو مقالة، بل قد يخرج في شكل رسم. أترك الحرية لهذا الطفل الفطري ليعبث كما يحلو له وأعدل ربما فيما بعد قليلا أو كثيرا حسبما يقتضي الحال.
ولا أري البتة أن هذا التنوع عيبا (لا أسميه تعددا؛ ففي التنوع تباين وثراء وفي التعدد كم متشابه في الغالب) ولا أراه محاولات ساذجة بل الفنون تكمل بعضها بشرط أن تكون واعيا لما يريد أن يخرج منك ولا تغتصب الكتابة في شكل لا تستسيغه ليبدو على شاكلة لم تكن لها.
لا أعرف ما يقولني بشكل أفضل، لكنني أعرف تماما ما أفضّل أن أقول. المتلقي قد لا يستريح لنص لي أو لقصة أو لا يروقه مقطع من رواية بل تروقه لوحة لي. أنا في كل ممارساتي أدخل بهوى كبير وأعشق ما أعمل حد الوله إلى أن انتهي منه فتصير حالة انفصال ضرورية وصحية في آن حتى أستطيع رؤية المكتوب عن بعد وحتى أتفرغ لعمل جديد.
* تخليصات "التي أسميها "تخليصات الطيب"جمعت نصوص مراحل متعددة لك فصارت شبه مختارات شعرية تلخيصية لتجربتك حتى تاريخ صدورها، هل يعني ذلك انتهاء مرحلة كتابية سابقة، وإيذاناً بتجريب جديد؟
نشرت كثيرا من كتاب التخليصات (يخطئ الكثير في تسميتها ونعتها غالبا بالتلخيصات- وإن لم يكن الوصف بعيدا) أقول نشرت الكثير من نصوص هذا الكتاب في مطبوعات ودوريات عديدة في عشر سنوات مضت. جربت عدة محاولات في تخليص النص بطريقة الحذف والإضافة، والتعليق وخض النص، بشف النص وتخفيفه مرة بتركيزه مرة أخرى، برسم النص، بترميز النص .. .. الخ. كانت تجربة ممتعة لي على مدار عقد كامل. وقررت في لحظة رضاء نادرة أن أنشرها. فجاء هذا الكتاب الذي أطلقت عليه هذا المسمّى وهو يبدو ضخما إلى حد ما وقد اقترب من الخمسمائة صفحة ولكن كما ذكرت في المقدمة بأنها ليست بطولة أن يصل الكتاب إلى هذا الحد من الصفحات في عقد كامل، ولو قسمنا صفحات الكتاب على مدار عشر سنوات، لصار الريع السنوي المكتوب أقل من خمسين صفحة في العام. إذن فهو أكثر تواضعا مما يبدو.
ما زلت أجرب في تخليصات جديدة ولا أفكر في النشر سريعا. عندي الآن في العامين الأخيرين مادة يمكن أن تصدر في كتابين مستقلين إن تسرعت.
* هناك كثافة في "تخليصات" وقلق أسلوبي كما أن هناك أنواعا مختلفة من التقنيات المستعملة. في "تخليصات الطيب" نجد كتابة الهايكو، أيضا التي تهتم بالنص المكثف. ما رأيك؟
لقد تعمدت هذه الكثافة وأرجو أن أكون قد وفقت إلى حد ما دون أن يصيب بعض النصوص شيئا من الإبهام. هذا النوع من الكتابة لا يسمح كثيرا بالاسترسال والبطء فهي سمة في رأيي غير محببة في هذا المقصد. أما مسألة القلق الأسلوبي فلا أعتبر أن التراوح داخل النصوص بتغييرات على مستوى البناء والشكل واختلاف مستويات المعمار الدلالي والصعود والهبوط بالنص والنظر من زوايا مختلفة مثل مصور أو "كاميرامان" – لا أعتبر أن هذا يعبر عن قلق أسلوبي بقدر ما هو مقصود لخدمة النص إجمالا، هو تنوع لا تعدد. هذه الكلمة (القلق) تأتي إلى ذهني دائمة مرادفة لعدم الثقة تأتي بشكل سلبي. أقرأها أحيانا لدي البعض على أنها لازمة إيجابية ولا أعتبرها كذلك.
سأكون صريحا فيما يتعلق بموضوع " الهايكو": أنا غير مطلع بشكل كاف على هذا النوع ولا أعتقد أنني استفدت منه في أي شيء. لكن هناك نصوصا مكثفة متميزة في التراث الأقدم والأقرب لي، هناك كتابات على درجة عالية من الفن والكثافة والحكمة لدى محي الدين بن عربي مثلا ولدى النفري ولدى السهروردي ، الجاحظ، اخوان الصفا وغيرهم كثر. من هؤلاء أكون أكثر قربا وفهما. لم أتأثر بالهايكو وإن كانت الحكمة الصينية الغائرة في القدم والتراث- لا اليابانية- أكثر تفضيلا عندي في العالم الأسيوي.
* الحرفية في نصك: المتابعة الواعية للنص منذ تشكله في الذاكرة على المستوى الأول بعد المتابعة الواعية بعد تحقق النص على الورق، المراجعة التي تولد مسودة إلى مبيضة؟
هذا السؤال يعني بمولد النص وسيرته فيما أفهم. النص يولد في أمكنة عديدة. بالطبع في ذهني أولا أينما أكون. النص قد يأتيني في الطريق ماشيا أو في المترو أو الأوتوبيس أو في السيارة راكبا، في البيت جالسا، في السرير مستلقيا أو نائما... الخ. على أن أكون جاهزا دائما بورقة وقلم لتسجيل فكرة الموضوع. وهما معي في كل مكان. قديما كنت أسجل الفكرة في صندوق صغير به بطاقات صغيرة ملونة. لون للقصة لون للقصيدة ولون للمقالة ولون آخر للرواية .. الخ. الآن أسجل ملاحظاتي كما أكتب نصوصي مباشرة على الكمبيوتر. أترك النصوص عادة فترة من الزمن إلى أن يلح النص من جديد فأبدا الكتابة باستمتاع وارتياح. لا أتعسف مع نص. لذا لا أستطيع الالتزام أبدا بكتابة مادة في أوقات سريعة محددة أحتاج لوقت طويل نسبيا للكتابة في أي موضوع. كما أسأل نفسي بصدق هل تروقني الكتابة في هذا الموضوع ولي فيه رأي أو جديد أم لا. حين أرتاح للنص وأفكه من أسري أقوم بالتصحيحات الطفيفة والتعديلات في أقل الحدود وأسعى بإطلاق النص بعيدا عني دافعا به للنشر؛ وإلا أعدت قراءته وأعدته من جديد لأسر ولا خلاص.
* ألاحظ في نصك الشعري المخيال المشهدي يتكرر هل ذاك تكريس لهذا الأسلوب المفضل عندك؟
ربما تقصد المشهد الخيالي في النص الشعري أو خيالية المشهد!
طرح النص الشعري يتحمل وجوها كثيرة أحبَّها لدي هو الاتجاه الحكائي. الحكائية التي أقصدها هي تلك المغلفة بشاعرية ورفق عال في التناول فتقف بين حالين، حال النثر والإخبار المباشر أو شبة المباشر وحال الارتفاع بشاعرية توافقية فيها نوع من الغموض المحبب. والغموض في الشعر ليس عيبا؛ الغموض الذي يبعث بالأسئلة مثير. لا الإبهام الذي يغلق باب كل سؤال وجواب ويجعلك تهيم في جو سحري عجائبي عبثي سلبي. حتى العبث يمكن أن يكون موفقا في جنونه كلما طرح الأسئلة.
وهذه في ظني هي المشكلة التي لا يلتقي الطرفان عندها فيما يسمى في هذه الآونة بقصيدة النثر وما لها وما عليها. هذا الوضع لا يوجد في بلد مثل النمسا، إذ لا يختلف الناس إلى هذا الحد على اسم المولود. لصاحب العمل أن يسميه كما يشاء. ليكتب ألف صفحة ويسميها قصة أو ليكتب خمسين صفحة ويسميها رواية أو مسرحية. لك أن تتقبل النص أو ترفضه- ولك أن تغير من وجه نظرك ضمنيا- مع احترام وجهة نظره ومحاولة فهم هذه الفكرة التي قد تبدو مجنونة. الكثيرون لا يمنحون كتبهم "جنسية" أو " هوية" بل يتركونها ككتاب مكتوب للقراءة ومفتوح للفهم. ألا يكفي هذا؟
* تقنيات السرد الشعري تتقاطع مع سردك القصصي؟
استكمالا للسؤال السابق، أشكرك على هذه الملاحظة. في مراهقتي بدأت كتابتي للشعر إثر قصة حب غير معلنة. ثم اتجهت أثناء دراستي الجامعية لكتابة المقالة ربما تأثرا بمقالات زكي نجيب محمود التي كنت أتابعها بشغف كبير، حيث كان يطرح اختلافات تبعث على التساؤل والسؤال (رغم اختلافي مع كثير من الآراء التي ربما كانت باعثا وحافزا للكتابة والحوار الصامت). وتأثرت بقراءاتي للروايات الكثيرة الموجودة في مكتبة الوالد ثم استقر بي الأمر في إقامتي الأولي في فيينا على الكتابة النثرية القصصية والروائية. التحرك عندي بين هذه الأنواع متقارب وبلا عناء. قد يرى البعض عيبا في هذا ممن يفضلون الحدود والسياج وتحنيط الكتابة في توابيت مجهزة.
* هناك قلق أسلوبي في داخل نصك، هل يعني ذلك تجريب مستمر أم ماذا؟
لا أفهم معنى القلق الأسلوبي لكن سأحاول الاقتراب من السؤال أو من الإجابة إن وفقت.
القلق إن كان المقصود به حيوية النص والمغايرة الشخصية والتنوع وعدم الاستقرار فهذه كلها أشياء حميدة لا عيب فيها بل هي لازمة لكل كتابة جادة. أما إن كان المقصود بها القلق بمعنى عدم القدرة على السيطرة على الطرح الفكري داخل النص أو الاهتزاز وعدم الثقة، فهذا أيضا ليس بعيب كبير شرط أن يكون الكاتب على وعي بما يفعل وبما يحاول ويجرب، دون معاناة. لا أؤمن بمن يقول انه يعاني في الكتابة. أنا شخصيا لا أعاني في الكتابة. ولك أن تتخيل رساما يعاني في الرسم أو عازفا يعاني في العزف، أذن كلاهما تنقصه القدرة والاستطاعة والتمرين والموهبة. الرسام البارع يضرب بريشته ضربات قليلة ويجعلك تكاد تصرخ من البهجة والرسام كذلك والمغني صاحب الصوت الشجي.
الآن سواء هناك قلق أسلوبي أو أسلوب قلقي؛ فالتجريب مستمر مدى الحياة. وأنا شخصيا أجرب وسأجرب حتى ينتهي عمري. العالِم (بكسر اللام) الذي يتوقف عن التجربة لا يقدم علما. المبدع الذي يتوقف عن التجربة لا يقدم إبداعا. لا بد من التجريب حتى يكون هناك جديدا ليستقر زمانا ثم يرحل ليأتي جديد ثم أجد وهكذا.
* هناك من يقول بأن دور الشعر تقلص على مستوى العالم، إلى أي مدى تتفق أو تختلف مع هذه المقولة؟؟
دور الشعر لم يتقلص. هناك مزاحمات نشطة لأنشطة إبداعية مستجدة ومتقدمة وهذا لا يعيب الشعر في شيء. الشعر فن راق (لا أحب مقولة "أرقى الفنون" لأي فن) لكن الرواية مثلا تتقدم في هذه الآونة. والشعر في رأيي لم يتأخر. المنتج الشعري لم يصل إلى هذا الفيضان الرهيب في أي عصر من العصور مثل عصرنا هذا. وفي غياب الأذن السامعة- حيث الشعر يسمع أكثر مما يقرأ؛ فإن الأمر يبدو صعبا والاختيار أصعب والشعر الجاد أكثر صعوبة. في غياب محبي الشعر من النقاد.
في ظني أن العين انحرفت بعيداً عن مجال القراءة إلى مجال "الشوفان والفرجة" أي السطحية دون تعقل الرؤية. أصبح الناس يكتفون بقراءة سيل الصور المتتابع. يتأثرون بالصورة في خارجيتها أكثر من الحرف في عمقه. بالفيلم المصوّر أكثر من الرواية الأصل. بالممثل أكثر من الشخصية في الرواية أو النص.
القصيدة الحديثة أتاحت المجال لمن لا يعقل ولا يفهم بدخول المغامرة بسطحية وتوهمات لخبطت الأمور. وأصبح التفريق بين الشاعر والمتشاعر صعبا. وبين الكاتب والكاذب أمرا غير يسير. ربما هذا هو سبب عزوف القارئ عن الشعر وعن خوض تجربة الجهد الفكري أو التحليلي أو الفهمي.
* تهتم بكتابة المفارقة الشعرية في نصك. هل هي توصيل وجهة نظر إلى العالم أم العبث من الحماقات الكبرى في الدنيا؟
المفارقة في الكتابة عموما هي سخرية. سخرية من الغباء البشري المترهل، وهناك من يقرأ ويفهم وهناك من يقرأ ويضحك وهناك من يتغير وهناك أغلبية جاهلة لا يهمها أي تغيير، ما دامت الأمور تسير في صالح مصالحها الآنية. لا أجازف بالقول توصيل وجهة نظر إلى العالم من طباعة كتاب في ألف نسخة يباع منه عشرة في المئة ويقرأ منه عشرة كتب. أي وجهة نظر يمكنني توصيلها للعالم. أطمع في عدد أكبر من القراء. القراء بشكل عام، ليس فقط من يقرأني فمن يقرأ الآخرين سوف يجدني لديهم أيضا.
أيضا لا أعبث من الحماقات الكبرى في الدنيا في لا مبالاة، بل آخذ الأمر على محمل الجد وأبدأ هكذا صغيرا وأحاول أن أتحاور من أناس يقرؤون. أتعجب أن من يقرأني بالألمانية هو أضعاف أضعاف من يقرؤني بالعربية. أليست هذه وحدها مفارقة عبثية.
* انت شاعر عربي في محيط ثقافي أجنبي، وبيئة لغوية أخرى، كيف استطعت المحافظة على خصوصيتك المميزة في عالم له ذاكرة أخرى للاستجابة والتلقي؟
لم أسع لتقديم عمل مفصل للجمهور، أي عمل جماهيري. الأعمال الأدبية المحترمة في رأيي لا تبدو في بداياتها جماهيرية ولا تسعى لنجومية مفتعلة وإلا انحرف الهدف. كتبت بالعربية اللغة التي أجيدها ولا أستطيع كتابة أي نوع من الأدب بغير هذه اللغة، لست مثل هؤلاء النوابغ الذين يستطيعون في ظرف ثلاثة أعوام أن يكتبوا بلغات أوروبية لم يعرفوا لها من قبل أبا عن جد. ظللت حتى عام 1998 أكتب وأنشر بالعربية. ترجمت لي بعض النصوص وصارت قراءات لاقت استحسان من حضرها وبدأ السؤال عن كتاب أو ديوان، فشجعني ذلك على إرسال نصوص لمجلات نمساوية أدبية جادة أحترمها مثل "مانوسكريبته" فنشرت لي وقدمت لي الدور الأدبية والمهتمون دعوات للقراءة والمناقشة. ثم اتصل بي ناشر نمساوي بالصدفة يوم أحد لا يعمل فيه أحد عارضا نشر كتابي الأول بالألمانية في البرنامج الربيعي بعد أسابيع قليلة، بعد أن أرسلت نصوصي لأربع من دور النشر اثنان في ألمانيا واثنان في النمسا. جاءني من ألمانيا موافقة، ومن النمسا موافقة هذا الناشر الذي فضلت أن أنشر لديه؛ فداره صغيرة لكنها قوية في منشوراتها، ينشر عشرين كتاب أو أكثر قليلا في العام. الآن يتولى نشر كل ما أكتب دون أية شروط. بل بعقود مكتوبة وحقوق مسجلة.
لا أعتقد أن هناك ذاكرة مختلفة للاستجابة فيما تعنيه بسؤالك في الشخصية الأوروبية والنمساوية تحديدا، ربما هناك أحكام مسبقة لدينا ولديهم. ومن يتخلص من هذه الآفة يمكنه أن يتقبل النص ويتفاعل معه سلبا أو إيجابا والنتيجة صحية لكلا الطرفين في النهاية.
ليست لدي خصوصية ميزة. بل لقد قالته لي واحدة من الكاتبات مرة بأنني أكتب مثل النمساويين والألمان. وهذه ليست بسبة ولا بميزة. أنا لا أستطيع كتابة تلك البهارات الشرقية التي تروق لشريحة سطحية في التقبل والقراءة. ولدينا يرحمنا ربك الكريم الكثيرون والكثيرات ممن يتكئون ويتكئن على هذا اللحن الممل.
* المشهد الثقافي الأوربي، والمشهد الثقافي النمسا وي؟ إلى أي مدى اندمجت في هذا الوسط؟
هذا السؤال يجرني لعمل مقارنات. لكني سأوجز من النهاية. الثقافة هنا تعتبر منتجا مطلوبا والطلب يحتاج إلى عرض. والطلب على السلعة الثقافية هنا عظيم وهناك مقابل للسلعة الفنية "الجيدة". الكتاب الجيد له مبيعات كبيرة وعائد محترم وجوائز وله سلطة فنية. أي له تواجد في المقدمة. كما يمكنك أن تقول في أوروبا أنك شاعر أو كاتب أو فيلسوف دون أن يسخر منك ساخر. يمكنك أن تجرب بحرية مجنونة وبأقصى راديكالية في أحد الفنون والجمهور والنقاد هم الحكم إما أن تثبت وجودك أو لا، لا احد يحجر على أحد في الفن. هذه سلعتك والسوق مفتوح. جرب!
ليست وضعية كل الأدباء والشعراء جيدة؛ فهناك شيء من المعاناة في تسويق الأعمال واستكمال دورتها الاقتصادية الطبيعية؛ فالعمل الأدبي والفلسفي عمل مجنون من هؤلاء العقلاء حد الجنون. لذا تقوم الدولة في معظم الأحيان بالدعم المناسب والضروري من مبدأ احترام قيمة هذا العمل الصعب أو هذا الإنتاج الذي قد يبدو للكثيرين غير مرئي.
هذا السؤال يكاد يجرني إلى مقارنات مع أحوالنا العربية لا أفضلها في هذا المقام.
لقد اندمجت كثيرا في هذا المجتمع بحكم إقامتي لعشرين عام في مدينة فيينا. ومن المؤكد صارت لي عادات فييناوية مثلهم وانتقيت ما رأيته مريحا لي وتشربت به. لم أسع من البداية إلى هذه الحلقات الضيقة والاتحادات المنعزلة. بيت النمسا رحب ويسع الكثير . اندماجي كان عاديا وطبيعيا في كل أوجه الحياة سواء العملية بحكم عملي أو الأدبية بعلاقاتي مع الأديبات والفنانات والأدباء والفنانين النمساويين والأوربيين وغيرهم؛ حتى على مستوى الصداقات أو الجيرة. اندماجي صار أقوى وأكثر قدرة على رد الحجة بالحجة بفهم لغتهم، عاداتهم، تقاليدهم، ما يكرهون، ما يحبون. محاولتي الفردية للكشف عن أوجه التقارب ومحاور الاختلاف. لقد جعلوا لي موقعا بينهم وعلي أن أثبت لنفسي أولا أنني موجود.
* كيف تواجه مسئولية المشاركة في المهرجانات الشعرية، وعبء السؤال ثم ماذا بعد ذلك؟
المشاركة في المهرجانات الشعرية وجهت لي بشكل شخصي. صحيح أنني حينما ذهبت في العام الماضي إلى مهرجان الشعر العالمي رقم 41 في مقدونيا. استغربت حين استيقظت في غرفتي بالدور الخامس بالفندق. وكنت قد وصلت ليلا. في الصباح لمحت على ضفة نهر "أوخريد" علم السودان في حجم كبير. ولما نزلت سألت المسئول عن المهرجان إذا ما كان هناك ملتقى سياسي في المدينة. قال: "لا"، قلت: "يبدو أنني رأيت علم السودان على الضفة!". قال: "هذا صحيح، لقد أحضرنا علم بلادك في هذا المكان لأنك انت من يمثل السودان هنا الآن!".
لا أحب الأعلام في شكلها السياسي المستهجن.
منذ أيام قليلة تكرر الأمر في مهرجان الشعر العالمي رقم 42. مع الفارق أن حضر هذا المهرجان رئيس الجمهورية بصحبة زوجته مع رئيس دولة كرواتيا وحشد كبير من المسئولين ليجلسوا ويستمعوا هذه المرة لنا بأصواتنا وبلغاتنا (مع وجود الترجمات بالطبع). هل يمكن لرئيس جمهورية في دولة عربية أن يحضر مهرجانا شعريا بنفسه. باعتباره الدولة لا الشخص؟
رغم أنني لا أرتاح للعلامات والحدود الفارقة والأعلام وما إلى ذلك إلا أنني وجدت أن النية طيبة والهدف أكثر قربا وطبيعية وغير افتعالي أو انفعالي, ليت الأعلام ترفع من أجل الشعر دائما. فربما سنحبها.
المسئولية لم أعتبرها هنا في صميم الوطنية فأنا لم أذهب في حرب. المسئولية تأتي من احترام عملي الأدبي أولا وعرضه بما يليق، بلا مباهاة أو لامبالاة.
لا أخطط لما سيكون بعد ذلك. فقط على الصعيد الشخصي أخطط لقناعة صغيرة قادمة أقوم بها. قد تكون حضور مسرحية أو كونسرت أو زيارة معرض أو متحف أو السير في حديقة أو قراءة كتاب. هذا عمل مثير قد أخطط له إلى حد ما أو قد يأتي عشوائيا. لكنه يمثل متن النص الأدبي عندي.
* الآثار الإيجابية لمثل هذه المشاركات؟
الآثار الإيجابية كثيرة لمثل هذه اللقاءات. التعرف على شعوب ولغات جديدة والخروج بتجارب ثرية ومثيرة. اكتشاف هذا الخيط البشري الإنساني الذي يجمع وفهم الخيط الذي يفرّق. التعرف على تجارب جد قوية حتى وإن بدت كأنها تافهة لصعوبة اللغة. التواضع أمام قامات كبيرة غير معروفة لنا أو غير مشهورة. أن تجلس إلى شعراء كالأنبياء لهم هالة غير مرئية وأن تجلس في آن مع تجار الشعر والأدب أيضا وكلا الفئتين قلة قليلة.
أنك تستطيع أن تضحك بلغتك ويفهمها كل من لم يعرف ما هي لغتك أصلا. أن تشعر بهاجس دائم أنك أصبحت جسرا بين هذا العالم الجديد الذي دخلته وخبرته وبين عالمك وعليك الآن عبء (حتى استعير جملتك من السؤال السابق) التوصيل في الاتجاهين، إن كان هذا عبئاً في عرف البعض.
ثم الشعور بالمسؤولية حين يوجه لك أصحاب المهرجان الدعوة مجددا مع طلب مشورتك وتوصيتك لأدباء من قارتك للحضور والمشاركة. وهذه مسئولية قدر ما أحبها أبغضها. لأنها قد تدخلك في باب المحبة والكراهية دون طواعية.
* هل تتابع الساحة الثقافية السودانية ؟
أين هي الساحة الثقافية السودانية حتى أتابعها؟ قد يغضب كلامي هذا البعض ولكن لنكون صرحاء. أين هي دور النشر السودانية التي تنشر؟ ولو وجدت، ماذا تنشر؟ أين الصروح الفنية والمنتديات الأدبية؟ أين الترجمات و المجلات والدوريات؟ أين هي المنشورات السودانية؟ هل علي أن أبحث عنها بنفسي، أم تكون متوافرة للاقتناء والشراء؟ ماذا تقدم الإذاعة السودانية من ثقافة؟ ماذا يقدم التلفزيون السوداني من ثقافة؟ ماذا تعرض الصحافة السودانية في المشهد الثقافي؟ ما هو عدد المجلات الثقافية التي ينشرها بلد كبير كالسودان؟ كم كتابا يترجم في العام من اللغات الأجنبية؟
كم كتابا يطبع في العام؟ الأسئلة تصيب بالألم لمن يفهم؟ وتثير الضغينة لدى الحمقى! وأنا لا أريد أن افتح فيضان الأسئلة الموجعة.
الأسئلة كثيرة. أنا أحاول من سنوات التواصل وأرسلت كتبي لكل من أراد؟ لم تصلني رسالة واحدة؟ لا أحد يعرفني في السودان ولا أحد يريد!
عن أية ساحة تتحدث يا صديقي؟ وعن أية ثقافية؟
حتى هنا في فيينا لم نسلم من هذا التجاهل الأزلي ممن يعتقدون أنهم يمثلوننا، سأحكي لك قصة سريعة:
قبل عام من الآن وجه لي رئيس قسم الدراسات الأفريقية، وهو صديق أيضا، دعوة مشاركة لي ولآخرين لإقامته يوم عن السودان. هذا الأستاذ ينشر مجلة سنوية تهتم بتراث وتاريخ السودان لم أر ما يشابهها في كل أنحاء العالم. دعا الرجل مجموعة من المهتمين لإلقاء محاضرات قصيرة عن السودان ودعاني لقراءة أدبية وعرض لوحاتي في قسم الجامعة. كان تقديمه التاريخي وتوثيقه بالصورة أكثر من رائع. وغيره أيضا من النمساويين. ولما جاء دور سفير جمهورية السودان والمندوب الدائم لدى الأمم المتحدة، كما يصرون على بقية الفخار. بدأ يتحدث بالإنجليزية كالعادة (وهي ليست لغة أهل البلاد) في موضوع ركيك: أن من الأشياء التي تربط السودان والنمسا مثلا وجود نهر في كل منهما؛ نهر النيل في السودان ونهر الدانوب في فيينا. ثم مر الحديث عن إنتاج السودان من الصمغ والبصل والقطن والفول السوداني .. الخ .هذا الحديث وسط طلاب جامعين وطلاب دراسات عليا وشخصيات يجهلها، مهتمة بالتعامل مع السودان في شكل حضاري. وحين قدمني الأستاذ بكلمات طيبة للقراءة. ما إن وقفت حتى هب السفير السوداني واقفا ثم هرب من القاعة. لم يستمع للقراءة الأدبية التي ارتاح لها الجميع. ولم يتعرف على ما نفعل في هذه البلاد منذ ما يقرب من ربع قرن ولا يريد. هذا وجه يا سيدي من أوجه السودان الرسمي في فيينا. وهناك أحاديث أخرى مخزية لها كتاب خاص بها عن "أحوال أصحاب الدماغ الطوب في بلاد الدانوب".
بعدها بأسابيع قليلة وجهت لي السفارة المصرية في فيينا دعوة لعمل قراءة أدبية أعلنوا عنها بإعلان متميز وقدمها سفير مصر في فيينا بكلمات طيبة وحضرها عدد كبير من النمساويين والنمساويات وعرضت فيها بعضا من لوحاتي بالملحقية المصرية لأكثر من شهر، وكتب عن هذه الأمسية في الجرائد الرسمية .. الخ. وهناك تحضير جاد لقراءة متميزة في برلين من السفارة المصرية أيضا. وغيرها من المؤسسات الثقافية الكبرى في النمسا وألمانيا. ويلومني السودانيون بأنني أقرأ في سفارة مصر. ولا تعليق!
* حراس النوايا وفقهاء الظلام يدسون أنفهم في الوصايا بعشق النساء للشاعر أحمد الشهاوي؟
للأسف لم أقرأ كتاب الشهاوي؛ لذا لن أجيب عن كتابه تحديدا وإنما عن لوثة شاملة تجعل ممن ليس في بيوتهم كتابا ولا مكتبات، ممن لا يقرؤون كتابا وفقط بحكم مناصبهم الرسمية غير الثقافية يؤولون النصوص في غير مواضعها ويؤلبون المعزولين المنعزلين عن القراءة بوهم عن خطر من أهل الكتابة.
إنها كارثة تتكرر كل حين لكنها أصبحت تتكرر على أوقات متقاربة. ويبدو أن الأمر من الألعاب والحيل السياسية لشد وجذب الأنظار عن أشياء أهم. هل من المعقول أن يكون شاعرا مصريا وعربيا مهموما بثقافة أمته أن يكون أكثر خطرا ممن يخربون في اقتصاد البلاد ويجعلون مواهبها تفر أو تنتحر. هل هو أكثر خطرا وبلاء على البلاد ممن يكرهون بلادنا وأهل بلادنا ويعلنونها جهرا ومع ذلك يستقبلون بالأحضان والقبلات.
إن الأمور مقلوبة يا صديقي. لكنها لن تظل هكذا طويلا. أنا متفاءل بحدوث تغيير يؤدي فعلا إلى تغيير ولو طال الزمن!
* منتدى ملتقي النيلين في فيينا؟
منتدى ملتقى النيلين أملت فيه خيرا أن يكون، وقد قام الزميل أيوب مصطفي بالمبادرة مشكورا علي فعلته هذه وأنشأ المنتدى مع آخرين ووجه لي الدعوة الأولى وأملت أن يستمر الأمر. ربما يغيب عنا تقسيم الأدوار. النية وحدها لا تكفي. كفى أيوب أن يأتي بالفكرة ويجاهد في سبيلها لكنه يحتاج إلى دعم الآخرين، وأين هم. حتى بالدعم المعنوي يمكن لأي مشروع أن يحيا لوقت أطول. لكن لا أدري لماذا توقف أو تجمد. قد تكون سبل الحياة المضنية والأعباء التي لا يتحملها أحد. السودانيون يحبون الثقافة بالفعل لكنهم ينسون أنها مثل الكائن الحي تحتاج إلى رعاية لتبقى. ليست فطرا ينمو بنفسه وقتما شاء ويختفي حينما يشاء.
لقد تمنيت من أيوب مصطفى يوما أن يتجه إلى النقد الأدبي لأن لديه ذائقة فنية وأدبية رهيفة. ليته يقرأ كلامي هذا. ربما لاستفدنا منه في هذا المجال ولا يضيع قدراته وحماسته في ثلوج هذه المدينة خلف حمق البلداء.
* حرقة المنفي هل هو شحذ للطاقة الإبداعية أم تثبيط؟
أنا أذكر دوما أنني لم أكن في منفى ولا أعيش في منفى. خرجت طوعا وأعود وقتما أريد. لا أحب هؤلاء المتشدقين بكلمة المنفى وهم غير منفيين وكأن المنفى وسام أو حلية أو شيئا متاحا لكل من خرج ولو طواعية.
أقرأ على طول المجلات وعرضها عن هؤلاء المساكين المنفيين. الكثير منهم يعيشون أفضل منك. يتكئون على بعد الوطن باستجداء المنفى في البقاء لوقت أطول ولو أتيحت لهم الفرصة للعودة لما عادوا.
هناك قدر قليل جدا، أكرر قليل جدا ممن تنطبق عليهم صفة المنفى وفئة منهم تعاني فعلا بلا شك ولي أصدقاء منهم. الصادق فيهم ينجز بقدر الإمكان للتغلب على هذه الكآبة الماحقة ولا ينتظر الشفقة.
الرد باختصار: قد تكون حرقة المنفى شحذا أو شحبا للطاقة الإبداعية!
* مدن في الذاكرة: القاهرة، فيينا، أسوان، أم درمان، تونس، سكوبيا، كولونيا، لندن، براغ، بودابست، نيو يورك، باريس .. .. .. الخ؟ جغرافية المكان والعلاقة البصرية في طارق الطيب؟
المكان في اسمه وظاهره قد يوحي بإيحاءات مخزونة في الذاكرة، سواء من القراءة أو الرؤية التلفزيونية أو السينمائية أو حتى الصورة. ناهيك عن الحكاية الشفاهية. لقد حاولت بداية أن أسجل بعض انطباعاتي الذهنية عن هذه المدن قبل زيارتها. لأن الزيارة ستفقدها هذه البكارة ستصبح المدينة مغزوة مني وسأكون قريبا منه لأقصى حد، في هذا القرب أيضا نوع من البعد الذي أحاول تسجيله فليس معني أنني في المدينة يعني أعرفها أكثر. أحتاج لوقت ومسافة أخرى ومكان للمقارنة، ليس بالضرورة أن يكون مكانا واقعيا. الحديث عن هذه المدن المذكورة كمدن طويل جدا. أما الشكل الشفاهي أو السطحي وأحيانا العميق فقد تجده إن انتبهت بعد قراءة النصوص في تخليصات أو غيرها لاسم المدينة الذي أصر على إدراجه لا للتباهي بأي شيء؛ فأي مغفل هذا الذي يتباهى بمدينة من آلاف المدن, أحاول أن أسجل توثيقا سريا لعلاقتي بهذه المدينة دون تكلف. لا أتحدث عن المدينة كمدينة وإنما عن المكان والبشر والحيوان والتاريخ والجغرافيا. عن الصورة الظاهرة والصورة التي في داخلي.
أقرب المدن إلى نفسي: القاهرة، فيينا، أسوان. أشعر باندماج عميق في هذه المدن الثلاث.
* بعد كل هذه الرفقة المضنية مع الكتابة، هل تبقي لك شيئاً غير أن تكتب؟
مرة أخرى أكرر: لم تكن رفقتي للكتابة مضنية ويوم أن تكون كذلك سأتركها على الفور. لست إنسانا ساديا أو عدميا. الحياة فيها الكثير والكتابة جزء منها. الكتابة أيضا حياة. أنا أفعل كل شيء مثل كل البشر. فقط أكتب أكثر وأقرأ أكثر وأعطي تركيزا جادا لعملي الكتابي أكثر.
وحتى لو تبقى لي فقط أن أكتب، فما أجمل ذلك! سوف تكون أعظم منحة وُهِبت إياها.
* لأي وطن سوف تعود؟
ربما قد أكون أجبت بشكل غير مباشر على هذا السؤال من قبل. من قال أنني أفكر في عودة إلى مكان ما. لست في سفر. أنا مستقر الأحوال في مدينة مستقرة معي زوجة صديقة محبة تفهم وتقدر عملي وجنوني. أعمل وأكتب وأنشر ولي أصدقاء وأستطيع التحرك بحرية وقتما أريد إلى أي مكان أريد. في وضع كهذا أنا في قلب الوطن وطني الصغير الذي اخترته وصنعته بنفسي دون علم ويكبر كل يوم بالأصدقاء مثلي في كل مكان. وفي غير هذا سأكون في جحيم ينتظر يوما أن يجد الوطن القابع تحت القدمين.
لست في منفى. ولا أبحث عن وطن ضائع. والحنين الذي عندي باعث على الإبداع ولا اشعر بضرورة التكلف والمعاناة. وحينما لا أجد راحتي في المكان الذي أنا فيه سأتحرك بالتأكيد إلى مكان آخر. فيه كلأ وماء وندرة أعداء.
* تمت استضافتك في أمسية شعرية بالتنسيق بين كل من ورشة الزيتون ومنتدى شموس الثقافي السوداني بالقاهرة في زيارتك الأخيرة للقاهرة ،هل تبقي الذاكرة شيئا من أصداء تلك الأمسية؟
بالتأكيد بقيت في ذاكرتي مشاعر كثيرة من إناس يعملون بكل هذا الحب والتفاني وبشكل تطوعي دون مساندة أو دعم، وربما هذا هو سبب النجاح. سعدت أن ألتقي بجمهور مصري سوداني وأن أكون وصلة قديمة-جديدة بينهما. فهذا اللقاء الحميم المزدوج جعلني على ثقة بأن هذا المجهود لابد له من نتيجة ولو طال الزمن. كما سعدت بهذا العدد الذي قرأ كتابي بإمعان وبمستوي التحضير من بعض من أسهموا بالنقد أو التعليق. وحتى بمن أضافوا نصوصي لغنائهم.
رغم زياراتي المتكررة لمصر تقريبا كل عام. إلا أن هذه الدعوة الأولى التي توجه لي وتمثل القراءة الأولى من نوعها لي أيضا بهذا الشكل في المدينة التي ولدت وعشت فيها ربع قرن جميل.
* ماذا عن مشاريعك الإبداعية القادمة؟
مشاريعي الإبداعية القادمة كثيرة ومتنوعة. أولها المشاركة مع الصديق الفنان الفلسطيني المقيم في فيينا مروان عبادو بعمل اسطوانة موسيقية تضم أعمالا جمعتنا من قبل لحنها لي وغناها في عواصم عالمية كثيرة، مصاحبة بقراءات لي بالعربية والألمانية وقراءات لأروسولا زوجتي بالألمانية والعربية، وهذا ما تفعله منذ سنوات طويلة في معظم القراءات؛ إذ هي أيضا مترجمة كل أعمالي إلى الألمانية.
مشاركة مع المصور النمساوي يوسف بوليروس والكاتب الناقد الألماني هيرمان شلوسر في كتاب جماعي عن فيينا بالصورة والنقد والنص.
عمل كتاب يتعلق بموضوع الحدود والفواصل والفروق مع الفنان النمساوي "جو كون" صاحب فن القص بالمقص، في عمل جديد.
وهناك مشروعات أخرى صغيرة تسير في الموازاة. ويجب أن أنتهي من روايتي "بيت النخيل" التي طال حملها. وهي الجزء الثاني من سيرة حمزة في "مدن بلا نخيل". والناشر النمساوي والمصري والفرنسي ما زالوا في الانتظار. أمر مفرح ومسئولية أيضا.
* لماذا تأخر موقع د. طارق الطيب المبدع علي شبكة الانترنت؟؟
الموقع حقيقة موجود منذ عامين تقريبا. عنوان الصفحة:
http://web.utanet.at/eltayeb
الآن يبدو في الطور النهائي إذ لم أكن مستقرا على بعض البدايات. من المتوقع بالفعل أن يكون متاحا للتصفح في نهاية هذا العام. ومن لديه العنوان سيجد الصفحة خالية المواد تقريبا لأنها ما زالت في طور الإعداد وأحتاج لحجم أكبر لأن ما سينشر كثير.
فهناك إلى جانب النصوص والنقد لوحات رسم وصور نادرة وصور حديثة وهناك أفكار أخرى لا أحب أن أصرح بها الآن.
بدأت العمل منذ فترة مع صديق نمساوي وهو دكتور تشارلي مورت الذي نقل لي أيضا نصوصا من العربية إلى الألمانية. هو أول من تعرفت عليهم في منتصف الثمانينات في فيينا, له خبرة عالية بالكومبيوتر والبرمجة ولديه علم كبير بالعديد من اللغات على رأسها اللغة العربية وهذا مكسب كبير لي.
الوقت خلفنا والكتابة أمامنا!
فيينا في 10-10-2003
** ** ** ** **