الغابَةُ،
القَطيعُ سَينامُ، البِيوتُ الّتي ضَجَّتْ بِحيواناتِ البَرِّ يَرسُمُها مُشَرّدونَ على سَهَرِ الأرصِفَة.
القَصيدِةُ بَدَأَتْ ، بَدَأَ الرَّكْضُ إلى ما حَفَلتْ بهِ حَياتي، ما حَفَلَ الخَطَأُ بالخَطَأِ، وما حَفَلتْ فَضائلي بهزائِمِها. ربَّما سَأَتَكَرَّرُ، ربَّما محنيَّ الظَّهْرِ ـ ولثِقْلِ ما حَفَلتْ بهِ حَياتي ـ أقولُ: تَعِبْتُ كَيْ يُصَدّقَني مُعمَّرون. ربَّما البُطولةُ ـ تلكَ التي أَدْمَنْتُها عَزْلاءَ ـ لن تكونَ بَيْتَ الذِّئْب.
لكنَّهُ أَمَلٌ سَأَتَخفّى بهِ. فَليَسْتَتِرْ كلُّ ماضٍ ببَلاغَةِ قَبيلتِهِ، وليَتَعرَّ ماضيَّ في مَعناهُ شريداً على الأرصِفَةِ.
أَتقَدَّمُ، لا باسمِ عِلمِ النُّحاةِ، لا باسمِ قُوّةِ التَّفْسيِر، لا بالنَّهْجِ ـ وما عندي نهجٌ ـ إنَّما بجُنونِ سُلالةٍ طَرَدَتْها الدَّوْلَةُ، بحِكمةٍ مَنْهوبةٍ وبُعكّازِ أَمَلٍ. أُسْمِعُ آبائي نَشيدَ دَمِهم، وأُمنّي كلَّ قَبْرٍ بنسيانِ خَيْبتِهِ.. في حَضْرةِ إلهٍ يَتيم..
ذلكَ ما كنتُهُ منذُ تعثََّرْتُ بميناءِ ذلكَ البَحْرِ، أَشْبَهَ بجَريحِ المعْركَةِ. أَتَشَجَّعُ بقِصَصِ البَحّارةِ التي تَنتهي بِيابِسةٍ، وبِرقصاتِ زُنوجِ أفْريقيا المُتوَسِّلينَ أَسَداً. أَتَشَجَّعُ بي وكَأَنَّني كمال سبتي حَقاً فأقرِّبُ كلَّ شَعْبٍ تائهٍ مني، أكونُ دليلَه ونَشيدَه ويكونُ خائِني في أَوّلِ الَّليل..
ذلكَ ما كنتُهُ منذُ تَعثَّرتُ بنفسي في بيتِ الجَرّاحينَ، أُصغي إلى سَرير مُدمّىً تَحرُسُه أَقْنِعَةُ الحَديدِ، لأعرِفَ أنَّ مَيِّتاً قد كنتُهُ سوفَ يُهرَّبُ إلى قبْر..
ستُعادُ الحكايةُ، إذ يَتَسمَّعُني رجلٌ في البارِ يُسمّى صَديقَ الصّدفةِ، يَقُصُ عليَّ نَهارَهُ بِبُخْلِ الزُّجاجَةِ، فأتَشبَّهُ بالنَّومِ، فلا أقولُ لَيلاً ما تَعنيهُ الأفعى.
هِيَ عادةُ التَّفسيرِ أَنْ أَتَسمَّعَهُ، فَأْعرِفَ أنَّ لي في الحِكايةِ سَريراً مُدمَىً تَحرُسهُ أقنعةُ الحَديد.
خَذَلتْ نَفْسَها هذهِ القَصيدةُ، خَذَلَتْني مَعَها. تَتَشبَّهُ بالصَّيّادينَ فينفِرُ الكلامُ، وتُغازلُ أعمى الرِّيفِ فَتَنْهَرُها الطَّبيعةُ…
أَستعينُ بِنفسي. أُرمِّمُ بيتاً منَ الخَشَبِ فوقَ هَضْبةٍ وأَرْكُنُ بكرسيٍّ إلى النافذةِ. لي ريفٌ أيضاً.. وكتابٌ أَتَصَفَّحُهُ بنظّارَتَينِ وكوبِ قَهْوَةٍ مُرّةٍ، وَجُنونِ سُلالةٍ مَطْرودة..
لم أَصِلْ بعدُ إلى ما كانَ لُغْزاً. كانَ لا بدَّ لي وأَنا أَتَحَيَّرُ في الميِّتِ الذي كنتُهُ أَنْ أُسمّي البلادَ التي هُرِّبتُ إليها.. أَنجدْني أَيُّها المعنى.. صَرَخْتُ، ما كان ثَمَّةَ أَحَدٌ تحتَ النّافِذةِ يُلوّحُ لي بيدِه، أو يَرْفَعُ القُبَّعة.َفَطِنْتُ إلى الكِتابِ، إلى اسمٍ يَتَغيَّرُ كلَّ حينٍ: رَجُلاً، بلاداً، مَقْبَرة..
رأيتُ أني قد عَرَفْتُهُ وخَلَوْتُ بنفسي، كَيْ أُسمّي مَيِّتي..فرأيتُ أني أَتَشَبَّه بالُّلغْزِ كي أَقْوى على الكلامِ، ورأيتُ أنَّ الكلامَ مَحْضُ صِدْفَةٍ نخرُجُ من قَدِرِها كما تَشاءُ لا كما نَشاءُ، فلماذا أقوى على الكلام؟
واسْتَعَنْتُ بأُمّي:
ما كانَ البيتُ يَتَهدَّمُ، تَخْرُجُ سَحابةُ المَوْتى من النّافذةِ، يَقِفُ سادةُ المدينةِ صَفّاً أمامَ البَيْتِ. كنتُ ابنَ عاشِرةٍ بكَفَنٍ مُدَمىً وعَيْنينِ حائِرَتَيْنِ. يَتَلقَّفُنا قَطيعُ مُهلِّلينَ، هاتِفينَ لطِفلِ الكَفَنِ المُدمّى: أنْ بوركتَ، ما كنتُ اسعى إلى شَيءٍ، لكنني رَأَيَتُ أّنني كنتُ أسعى.. مُتَشَبِّهاً بالُّلغْزِ.. وكانَ النَّومُ..
كانَ النَّوم. كانَتْ أُبَّهَةُ المعنى تَقيسُ جُنوني بالأَوْراقِ الصَّفْراءِ في الكتابِ، وبِنَظّارتيَّ. ضَحِكْتُ واختَلْفَتُ إلى بارِ رجلٍ يُسّمى اليَهوديَّ. سَألتُهُ عن اسمِهِ، فكانَ يُشْبِهُ في مَعْناهُ النَّهرَ، وسَألتُ صَديقَ الصّدفةِ عن النَّهرِ، فقالَ ذاكَ الذي سَتغْرَقُ فيه. كانت أُبّهةُ المعنى تُشْبِهُ بِنطالي القديمَ الذي تَرَكْتُهُ في فندقِ الصَّيّادِ في ساحةِ المَيْدانِ. لَم أُسْعِفْها بموتي، فشَهَرتْ عليَّ قاموسَها..
وأسْتَعَنْتُ بأُمّي:
ما كانَ البَيْتُ يَتَهَدَّمُ. يَخرُجونَ من الكُتِبِ الهاويةِ من رُفوفِها. ملءُ عُيونِهم سَرابٌ.. وبخواتمَ عتيقةٍ، سَيُشيرونَ إلى البابِ الكبيرِ، إلى وجوهِهِ النُّحاسيّةِ. يومئونَ أَنْ ادخُلَ، ماشياً على سَجّادةٍ فارسيّةِ وبيدي ناثِرَةُ الطِّيب. سأراهُ جالساً على كُرْسيٍّ خَشَبيٍّ ، أُقبّلُ يَدَهُ حينَ يأخُذُ برأسي إلى صَدْرهِ. سَيُناديني: حَفيدي، وسَأَغْرَقُ في ذلكَ النَّهرِ بُرهَةً، حتى أَتَمنّى أَنْ أرى صاحبَ البارِ لأُحَدّثَهُ عن الملِكِ سُليمانَ، عن الباطلِ وقَبْضِ الرِّيحِ. سيَنتَظرُ أَنْ أَقولَ شيئاً. وما كنتُ أَعْرِفُ أَنْ أقوَلَ شيئاً. سيَقولُ: حَفيدي، ويُهديني خاتماً من بِلادِ الهِنْدِ، وقُبلةً على الجَبينِ وآيةً من الكتاب.
ما كانَ البَيْتُ يَتَهَدَّمُ. يَتَكَوَّمونَ لَيلاً كَعبَاءةٍ. سأُحَدّثُهم بالنَّجمِ وبآخِرِ الآلامِ عن مَصائِرَ مَلْعونَةٍ. سَيُصْغونَ إليَّ جَميعاً إلاّ هُوَ، بعَينينِ دامِعَتينِ يُغْلِقُ البابَ فلا أَرى شَيئاً فيقولُ قد حَلَّتْ ساعةُ الحكمةِ.. ما الظَّلامُ؟ أقولُ الظَّلامُ أَلاّ تُغمِضَ عينيكَ فلا تَرى شَيئاً. والضَّوءُ؟ الضَّوءُ ما يَخْفى على الظَّلامِ. وما بَينَهما؟ لا أنا ولا أنتَ. وأينَ نكونُ؟ خارجَ الضَّوءِ والظَّلام..
تُمْطِرُنا سَحابةُ الموتى بِشِتائِها، لا أَسْتدُلُّ عليَّ، أَراني كاتِماً هِذه القَصيدةَ عَنّي.. تَبخَلُ عَليَّ بنَشيدِ البَهْجَةِ فَأَتَسوَّرُ برِثائِها، ماشياً إلى حَتْفِ من ضَيَّعَ كلَّ شَيءٍ من أَجْلِ لا شيء.
واستَعَنْتُ بأبي:
ما كانَ البَيْتُ يَتَهَدَّمُ. كانَ جُنودٌ أَرْبَعَةٌ يَخرُجونَ من المَضيقِ إلى المَضيقِِ. وكانَ سَحَرةٌ جَوَّالونَ يَتَرصَّدونَ مِيتاتِهم.
قالَ أبي:
سَيَرحَلُ الشِّتاءُ والصَّيْفُ عن العالمِ، والأرضُ تُدْفَعُ إلى قَدَمِ كاهنٍ، تَسْجُدُ فيَنْهرُها وتَغيب. لَبِثْنا وَقتَها حيارى فلم نَسألْ عن قدم الكاهنِ، ثم نِمنا بينَ يَدَيْهِ، كلٌّ يَرى قَلبَهُ يبكي، وكلٌّ لا يَموت.
والسَّحَرَةُ ـ نِياماً في القَناني ـ نَظروا إلى باردِ الكَفِّ فَقَطَعوا بِنْصراً، فَحِرْنا في الذي فعلوا، وما كانْ الوقتُ صَيْفاً وما كانَ شِتاءً..
قال أبي: نَجْمَتانِ اِثْنَتانِ تَخرُجانِ لَكُمْ في الشَّتاتِ، اشْهروا الكفَّ عالياً.. تَبْكيا، واسألوهُما عَنْ كلِّ مَضيقٍ.. تَخْرُجا بِكُمْ من مَكيدَةِ المصائرِ، قلنا فلتُشِرْ إلى النَّوم كَيْ يكونَ كَلاماً لنا، قال: قد أَشَرتُ، واندَفَعْنا خارجَ البيتِ في طرقٍ شتى، كلٌّ يرى قَلبَهُ يبكي، وكلٌّ لا يَموت.
والسَّحَرةُ، مثلَ رَبيعٍ غابَ طَويلاً تنَكَّروا بثيابِ عِرْسانٍ، وبَدأَوا الغِناءَ في مَدينةٍ مَهْجورَةٍ، مَرّتْ عليها سَحابةُ الموتى ذاتَ مَرَّةٍ، فَتَكَوَّمتْ مثلَ عَباءة.
رَأَيْنا مُهَرِّجينَ يَهْبِطونَ التُّلولَ كي يَنْعَموا بِفَرائسِ السَّحَرةِ، قالَ باقي الجنودِ: لَنْ نَهبِطَ إلى السَّحرةِ، وليَمْضِ كلُّ واحدٍ منا إلى طَريقِهِ. ورأيتُني وحدي، أشْهَرُ الكفَّ عالياً، فأنعمُ بِسُكوتِ النَّومِ عن الكَلامِ. ورأيتُني أقولُ لقبرٍ:
المدينةُ لا شَكْلَ لها. أنا شَكْلُها..
واِنْدَفعْتُ وَحْدي، عابراً تُلولَ القُبورِ ودُخانَ السَّحَرَة. لي نَجْمتانِ تَدْفَعانَني بَعيداً، والسَّحَرةُ لا يَقْوونَ على شَيء..
رأيتُ سَيِّداً بِقِناعِ أفعىً، وجَبلاً بِقناعِ طريقٍ. أَلقَيْتُ التَّحيَّةَ فَاسْتَدارا بوَجْهيْهِما عَنّي، وانتَهيْتُ إلى عابرٍ مِثْلي. سَأَلتُهُ عَنْ أَرْضٍ سَتَسجُدُ عندَ قَدمِ كاهنٍ، فأشارَ إلى شاحب وَجَهٍ، في بَيْتٍ، على بُعِد نَجْمَتَينِ، كنتُ رأيتُ قَبْلاً بابَهُ ووجوهَهُ النُّحاسيّةَ. ما دَلَّني على جَوابٍ، فسَألتُهُ عن الصَّيفِ والشِّتاءِ، فانهارَ السَّقْفُ، قالوا سنُطمَرُ.. فَتَرَكنا البَيْتَ مَذْعورينَ إلا شاحبَ الوجهِ، فاحترتُ في مآلهِ .. قالَ العابرُ: سَتَراهُ في مدينةٍ أخرى.
زهورٌ بريّةٌ، قَبْر.
لا أنا، لا القَصيدةُ كنا عَرَفْنا شاحبَ الوَجْهِ قَبْلاً. كيفَ اِنْجرَرْنا إليهِ؟ كيفَ قادَنا إلى حِكْمتِه؟ كيفَ لي أَنْ أراهُ بعدَ خاتمةِ القصيدةِ؟ من يَدُلُّني على كُرسيِّهُ الخَشَبيِّ في بَيْتِهِ المُتَهدّمِ؟..
اختلي بما بقيَ لي من ذِكرى في القَصيدةِ. نامَ القَطيعُ أيتُها الغابَةُ، واكتَمَلتْ رحلةُ القَبْرِ. ما صَدَّني أحَدٌ عن مَوْتي في السَّريرِ المدمّى. والسَّحَرةُ الجوّالونَ هَلَّلوا لحفلِ ليلِهِم بشُرْبِ النَّبيذِ وسماعِ أَناشيدَ مُهرِّجين..
وميناءُ ذلكَ البَحْرِ، يومَ تَشَجَّعتُ بي، ما كانَ باباً إلى فضائلي.
كانَ ذكرى عَثْرةٍ غابتْ عن صَديقِ الصّدفةِ ويَهوديِّ البارِ. إذنْ.. فليَسكتِ النَّومُ عن الكَلام.
زهورٌ بريّةٌ، قَبرْ، وأنا وسُؤالي الذي أودَعَهُ أبي عَينيَّ: شَعْبٌ بلا إلهٍ.. يَمضي إلى حَتْفِ من ضَيَّعَ كلَّ شيءٍ من أَجْلِ لا شيء..
ها أنا إذن، يا الكتابَ الذي أَجْهَلُ، أخرُجُ من هذه المدينةِ، أو أَدخُلُ أخرى، وحيداً. فقد تَنكَّرَ لي كلُّ من عَرَفْتُ. كلٌّ قال للسَّحَرةِ: أهلاً، وغنّى مَعَهم بثيابِ العِرْسانِ، وكلٌّ ارتدى قِناعَ الحَديدِ ليَحْرُسَ جثّتي..
مَنْ مَرَّ في لَيِلي بِناي؟
مَنْ بَكى لِجُثَّتي في بَيْتِ الجرّاحين؟
لا أَحَد.
والنص لم يكن قد أكتمل بعد، بلغني نبأ رحيل أوكتابيو باث، لذلك ستهدي هذه القصيدة نفسها ـ خجلةً _ إلى ذكراه.
www.kamalsabti.com
صيف 1997/ صيف 1998