المسرح بوصفه فنا ديمقراطيا هو خط الدفاع الأول في مواجهة التحديات التي تواجهنا الآن ، وهي تحديات عويصة تتطلب قدرا كبيرا من الوعي الذي يتيح له القيام بدوره في زمن الأزمات ، ولايماني بأهمية وخطورة هذا الدور ، حرصت علي مشاهدة عدد كبير من عروض المهرجان الدولي للمسرح التجريبي الخامس عشر ، وشعرت منذ الوهلة الأولي ، بأن ثمة أيدي خفيه تدفع حركتنا المسرحية في مصر والمنطقة العربية للدخول في النفق المظلم ، الذي لا يتيح لك الرؤية بشكل واضح ، فتسير وحدك متخبطا ، وحيدا لا تستطيع ، حتى أن تنجو بنفسك ..
منذ اليوم الأول وأن تشاهد عرض الافتتاح ( حلم فنان) الذي يمثل مصر في المسابقة الرسمية من إخراج : وليد عوني .. تجد نفسك مدفوعا للتساؤل : لماذا وليد عوني كل عام؟؟ ولماذا تكون فرقة الرقص المسرحي الحديث هي التي تمثل مصر في هذا المهرجان ، واعمالها لاعلاقة بفن المسرح ، لأن الرقص الحديث كما يقدمه ( وليد عوني ) لم يستطيع الوصول إلى صيغة تجمع بين المضموني والشكلي ، وظل – في أعماله – يحاول إبهارك بالشكل وحده تارة ، وبالتقنية تارة أخري ، لكنه في كل الأحوال لا يقول لك شيئا نافعا، إلا أن يكون الهدف هو دفعك إلى الرقص مثله أو معه ، ( محمود مختار ) ذلك المثال الذي عاصر بعض رموز عصر النهضة في مصر ، وأبدع أعماله : سعد زغلول – هدي شعراوي – نهضة مصر ، واتصل بأنماط إنسانية من مختلف بقاع الوطن ، وحولها إبداعا أصيلا يعد بمثابة ذاكرة للوطن الذي لم يعد وطنا !! تعامل معه وليد عوني – علي الرغم من جمال الإطار الشكلي الذي وضعه فيه باستخفاف شديد ، قدمه دون اهتمام حقيقي بمسألة ارتباط ( مختار ) بمرحلة عكست حسا وطنيا وقوميا وثقافيا عاليا ، نزعه من ذلك السياق ، ليقدمه مجردا ، ليصير هو الآخر مجرد تمثال لا حياة فيه ولا ملامح ، تصدمك حالة التغريب منذ الوهلة الأولي ، وحين تري مخرجي الثقافة الجماهيرية الشباب ، يشاهدون هذا العرض وغيره من العروض ، تتساءل : هل لديهم الحصانة الكافية لحمايتهم من تسلل تلك النزعة التغريبية ، التي تؤكد أن ثمة أيادي خفيه تلعب في كل الاتجاهات ، وتدفعك إلى ذلك النفق المظلم الذي أشرت إليه ، هل لديهم الحصانة ، أم أنهم مستعدون للاستلاب ؟؟ ولماذا تزامنت دورتهم التدريبية مع هذا المهرجان ؟؟ هل هي مصادفة ؟؟ أم أن الأيدي الخفية تعمل بجد ودأب ؟؟ وهل سنسمع مثلا أن عرضا يقدم في ( أبي تشت) يعتمد علي جسد الممثل العاري ، أو رقصاته الحديثة ، أو حواره المفقود في العروض القادمة .. لا تتصور أنني أطرح أمامك نكته لكي تضحك ، بل أطرح تخوفا لما يمكن أن يحدث في الأيام القليلة القادمة .. لماذا ؟؟ لأن عروض هذا المهرجان : العربية والأجنبية والمصرية ، والتي تجاوزت سبعين عرضا ، قدمتها واحد وأربعون دولة بما فيهم مصر ، جاءت - في معظمها - لتؤكد أن المسرح لم يعد قادرا علي مواجهة التحديات ، واحتضان القضايا الآنية ، والتعبير عن الهموم الإنسانية في ضوء المتغيرات الجديدة ، ولم يعد هو خط الدفاع الأول الذي تحدثنا عنه ، بل أصبح عولميا ، أمريكيا ، يسعي إلى الحديث عن الذوات الفردية التي لا علاقة لها بالمجموع ، ولا علاقة لها بالهوية ، يتشابه العربي بالأوربي ، ويتشابه الأوربي بالأسيوي ، متشابهات مشوهة تخدعك بأنها تتحدث عن أزمة الإنسان المعاصر ، وتتساءل : أي إنسان ؟؟ وأنت تري معظم العروض العربية ، تشعر أنك تشاهد عرضا فرنسيا أو ألمانيا !!
من البديهي أنا نقول : إن كل شيء خاضع لعنصري المكان والزمان ، تبعا لاختلاف الظروف السياسية و الاقتصادية والاجتماعية التي تميز مجتمعا عن مجمع آخر ، ودولة عن دولة أخري .. أذن لماذا تسرب إلينا هذا الإحساس ؟؟ السبب إن معظم العروض العربية ، وهذا هو ما يهمنا الآن ، قد خضعت لشروط تلك الأيدي الخفية التي تعبث بهويتنا وتنزعها كما ينزعون ملابسهم فوق خشبة المسرح !! كيف تتصور أن سوريا المهددة في كل لحظة ، يمثلها في المهرجان عرض كتبه (بيكيت) كاتب العبث الفرنسي بعنوان (الأيام الحلوة ) ، ولم يعد هذا النص يقدم في بلاده الآن ، أية أيام حلوة تلك التي يتحدث عنها العرض ؟؟ إنها أزمة امرأة ارتبطت ببعض الذكريات مع رجل عاشرته في الماضي ، ولم يبق في ذاكرتها منه إلا ظله ، الذي تتبعه من خلال استدعاء ذكرياتها معه ، هم يظنون وبعض الظن إثم ( أن الإنسان العربي يشعر باللاجدوي والعبثية والإحباط والفراغ ، كما تشعر به امرأة العرض ، ومن ثم فالنص يعكس كل تلك الحالات ، ويصيح موحيا الآن ) هذا المعني ذكره ممثل العرض حين تحدث عنه ، وليبيا مازالت تري أن المرأة العربية محاصرة بعالم الرجل الغامض الذي لا تستطيع التواصل معه بحريه ، وذلك في العرض الذي قدمته تحت عنوان ( وقع الأحذية الخشبية ) ، وقطر تقدم مونودراما اعتمادا علي بعض الكتابات الصحفية للمخرج العراقي - صاحب مسرح الصورة - د. صلاح القصب ، اسمه ( هذيانات مرة ) وهو بالفعل مجرد هذيانات ، لأنه لا وجود لنص درامي حقيقي ، والمخرج الأردني ( رائد عودة ) حين قدم النص الشهير الذي كتبه ( البير كامي ) بعنوان
( كاليجولا ) وكان فيه بعد سياسي عميق ، قام بنزع هذا البعد ، واكتفي بتناول النزعة الإنسانية التي تركز علي قيمتي : الحرية والسعادة بشكلهما المطلق .. وقدمت قطر أيضا عرضا يعتمد علي نص عبثي آخر كتبه : أربال / يونسكو .. واليمن تقدم عرضا بعنوان ( حوار حوار ) راقص جدا وصامت ،ولا يقول أي شيء ..
باختصار شديد أستطيع أن أقول : إن النص العربي - في معظم عروض المهرجان - كان نصا مستلبا للنصوص الغربية ، رسالته غير واضحة ، وقضايا المنطقة غائبة تماما ، والإنسان فيه تائه ومشتت ، وكأنها كانت تتحدث عن مجتمعات أخري غير مجتمعاتها ، وعن ناس آخرين غبر ناسهم ، وكان هذا واضحا وضوح الشمس في العروض التي قدمتها : السعودية – اليمن – لبنان – البحرين – ليبيا – سوريا – قطر .. وكلها دول مهددة بالوجود الأجنبي علي أرضها .. ومن المفارقة أن تجد عرضا قدمته ( أسبانيا ) بعنوان ( المهرج المتأمل ) - وقدمه ممثل سوري يعيش هناك - يتعرض للمشكلات التي يواجهها العالم الآن في ظل الهيمنة الأمريكية ، حتى أنه أشار إلى القضية الفلسطينية في هذا الإطار ، حيث نري بطل المسرحية يُواجه بطلب عبثي من رؤسائه وهو ( تخيل أن جسدك هذا العالم فكيف تعيد ترتيبه ؟؟) ومن أجل إعادة ترتيبه لابد أن يكتشف العالم أولا ، وفي رحلة الاكتشاف يصطدم بما آل إليه من فقر ودمار ، وحين يحاول القيام بترتيبه يتم القضاء عليه نهائيا ، انه عرض يكشف زيف الديمقراطية التي يتشدقون بها في أوربا وأمريكا ، والعرض ينتقد ماكينة الحرب التي تعد بمثابة لعبة لمن يملكون القدرة علي ممارستها ..
إن العروض العربية التي حاولت انتقاد النموذج الأمريكي ، كما في عرض ( اليوم النموذجي ) الذي قدمته الإمارات ، أو ( آي حواء ) الذي يتعرض للحرب كما قدمته ( المغرب) هذه العروض تتعامل مع تلك الموضوعات علي استحياء وخوف شديدين ، مما أحدث ارتباكا شديدا في الرؤية الفنية ، وكان العرض الفلسطيني الذي قدمته فرقة عناد التي تعمل منذ عام 1987اعتمادا علي النصوص الفلسطينية فقط ( أحلامي لا تعرف حدودا ) عن مأساة جيفارا لمعين بسيسو ومن إخراج : رائدة غزاله ، هو العرض العربي الوحيد الذي يتناول موضوعا حيويا واضحا بتقنية سهلة بسيطة ، يتعرض للفساد الداخلي الذي أصبح عائقا أمام مقاومة الاحتلال ، قدموه بعيدا عن المباشرة والخطابية ، علي عكس ما يمكن أن يتصور البعض من أننا ندعو إلى المباشرة والخطابية ، حين نتكلم عن المسرح ودوره في تبني القضايا الحيوية !! إن هذا العرض فيه الإجابة والرد علي هؤلاء ،لأنه جاء في إطار فني بسيط ، عميق الدلالة ..
إن الأيدي الخفية التي أعطت الفرصة كاملة لأعضاء لجنه التحكيم الدولية لاختيار العروض الفائزة هي التي - بهذا الاختيار - تقدم النموذج المسرحي الذي ينبغي تمثله والاسترشاد به والسير في ركبه ، والاستئناس بظله ، وكانوا من الدول الآتية : أمريكا – فرنسا – ايرلندا – الأرجنتين – روسيا – ألمانيا – إيطاليا – الصين –كندا – المغرب وأخيرا مصر ، وهم ثمانية مخرجين ، وثلاثة متخصصين في البحث الأكاديمي .. وكانت لجنه المشاهدة التي اختارت العروض ، أجنبية أيضا ، وبنفس التشكيل السابق مع اختلاف الأسماء ، فيما عدا اللجنة المصرية التي قامت باختيار العروض المصرية المشاركة في المهرجان .
وفي النهاية أود أن اطرح بعض الأسئلة البريئة :
- ما هي الأرقام الحقيقية التي تم صرفها علي هذا المهرجان ، الذي لم يسفر إلا عن الوجه القبيح لنوعيه من العروض التي تدور في فلك العولمة ، والسجود للنموذج الأمريكي ؟؟
- العروض الثمانية عشر المصرية التي تم إنتاجها خصيصا للمشاركة في المهرجان بميزانيات كبيرة هل سيتم عرضها بعد المهرجان أم لا ؟؟
- هل تستطيع الأيدي الخفية التي تعبث بواقعنا الثقافي : الإبداعي والفني ، وجعلته واقعا منحطا أن تكشف عن نفسها ، أم أن بصمات أصابعها ارتدت إلينا ، فتحملنا الادانه وحدنا ، نتيجة للصمت الطويل الذي ما زال ممتدا ؟؟