|
زهْرُ الصَبّار
دلور ميقري
الحوار المتمدن-العدد: 2022 - 2007 / 8 / 29 - 11:23
المحور:
الادب والفن
1 يترجّع القلبُ سطراً سطراً خطط الطفولة ، المُستلة من مجلد العمر ؛ ثمة ، أينَ كانت خفقاته الأشدّ ألقا والأقلّ قلقا . زمنٌ مضى ، بأحلامه وآماله ، بأتراحه وإحباطاته ؛ زمنٌ ، لايكفّ العمرُ عن مناجاته ، عبْرَ الذاكرة المتشظية حجارتها ـ كأسوار حصن ٍ مَرهون ٍ للإستباحَة . الأعرابيّ ، كان يقول : " حصني حصاني " ؛ وها أنذا أرددُ ، أنْ أعيدوا لي حصان ذاكرتي ! .. كيما أستعيد عبْره العمرَ الأول ، في ذروة زهرته ـ كأوان الصبّار الشاميّ ، المُنصاح بمشامه ورخائه .
2 رجوعاً ، رجوعاً أيهذا القرن الآفل ! كيما أجدني في منتصفك ، المُفتقد ، المتبوّج هلالاً أو فلقة قمر. خمسة عقودٍ من العُمر ، مضَتْ مذاك سُدىً ، هباءً ؛ ثمة ، أينَ كان على الزمن السعيد ، المتلأليء ، أن يبقى واقفاً متشامخاً ، لا يتزحزح ـ كشجرة الزيتون في منزلنا الأول .
3 " عثرنا عليكَ ، يوماً ، في أفياء هذه الشجرة ! " ، تقولُ الأمّ لطفلها ، الأثير ، في كل آونة يشتط فيها عبثه أو يتمادى بمطالبه . لا غروَ ، إذاً ، أن تمحض الطفولة مقتها للزيتونة ؛ هيَ التي كانت ، علاوة على ذلك ، ذات ثمار مرّة . لم يَعنِكَ آنئذٍ تلك الهالة من القداسة ، المحوّطة شجرتنا ؛ وأنها أمّ حديقة الدار ، ومن غرس جدتنا لأبينا ، التي لا بدّ ومنحت الثمار بعضاً من زرقة عينيها : وما فتئت الزيتونة ، أيها الطفلُ الخمسينيّ ! ، الملاك الحارس لمنزلنا القديم .
4 الثمار المرّة للزيتونة ، غدَت وعلى حين فجأة حلوة المذاق ـ كالعسل . هذا ما تراءى مرة ً للطفل ، في منام ليلة ما ، لن ينساه قط : كان بالقرب من ذلك القدر الهائل ، النحاسيّ ، المنذور خصوصاً لجَني فاكهة الحديقة ، والمضروب بنطاق من أفراد العائلة الآخرين ، المنشغلين بتمحيص غلته الوفيرة ، حينما أومأت إليه إحدى ثمار الزيتون ، أن إقترب أيها الولد ! يالله ، ما كان أشدّ دهشته ، وغبطته ، لما تناول الثمرة تلك ، فوجدها قد إستحالت بين أصابعه ، الرقيقة ، إلى بلحة شهية . وما لبث إثر قضمها ، أن مدّ كلا ذراعيه نحو القدر ، غائصاً رويداً في لجة ثماره ، هاتفاً بنشوة سكرى : " لستُ في حلم ، لست في حلم ! " .
5 هلا أفقتَ من غفوتك ، المنقطة بشهد المنام ، يا طفل الدار ، المدلل ! هيَ ذي الشجرة ، بإنتظار إطلالتك المصافحة ، ما برحتْ في ركنها ، المكين ، عندَ كتف الحديقة ؛ وكأنما هيَ جنحها الأيسر . ليكن بينكما صلح ، هذه المرة ، بعلامة الحلم ذاك ، ولتنسَ ما تضمره لها من ضغينة ؛ أنتَ من كنت دوماً تتساءل : " لمَ لمْ نحظ بشجرة نخيل ، بدلاً عن هذه الزيتونة الملعونة ؟ " .
6 النخلة ليست من نصيب دارنا ، وإن كانت نصبَ بصركَ الطفوليّ ، على أيّ حال . ثمة ، في منتصف الزقاق تماماً ، إنتهضت تلك الشجرة السامقة ، الغريبة الشكل ، في حديقة منزل المرأة الأكثر شهرة بين نسائنا . آنذاك ، ما كنا لنعرف أنّ " دلال " ، بدورها ، متغربة ـ كنخلتها . لتكن ما إتفق لها من أصل وفصل ، فما يهمنا هوَ نيل بلح شجرتها ، الأصفر ، المائل نوعاً إلى البنيّ في ذروة النضج . فليكن العزم في أفئدتنا بقدر ما برجل الدار من عجز ؛ هوَ نصفُ المشلول ، ومن لا تأبه عصبة سطونا بتلويحة عصاه ولا بشتائمه ، المقذعة ، فيما هيَ من سطح لآخر مشغولة بالإغارة على النخلة وهز سعفها بقوة ، كيما تتساقط الثمار الرطبة جهة الدخلة الخلفية ، ليتلقفها لداتنا بأذرعهم الصغيرة ، الدقيقة .
7 لتكن تأريخاً ، أيّها المكانُ السفحُ ، وليكن طفلنا من يَصفكَ . على الجبل عرشُك ، والبيوتُ الأعشاشُ ، رعيّة . ها أدركَ وليدنا لغزَ توسّطه المحفل العائليّ ، فلم ترتفع عبثا في وجه السماء ، غضاضة يده : أمْ أنه لغز برجه ، " العذراء " ، المنذور للنزق والنقد ، والنقاء أيضاً ؛ برج وليدنا ، المختصرُ مشهدَ ذلك النهار ، الخريفيّ ، من الثاني من أيلول ، البليل ، وصيفاً ملولاً مغادراً للتوّ ، وفي جيب بنطاله القصير ، حبلٌ سريّ ـ كوديعة .
8 لتكن راوية ً ، إذاً ، يا طفل الخريف . لترو لنا حكاية " يزيد " في رحلته ، الدائبة ، من " الصالحية " إلى " البدوي " ، يروي بمياهه المخضرة بساتيننا الطفلة ، المشرعة نحو الأم ، " الغوطة " ، أنامل حَورها الفضيّ : إنه إبن " قاسيون " ، أيضاً ؛ هذا المشغول عنه وعنها بمصائد يشغلها بقنب الأرباب لغيماتٍ تتيه فوقَ سفح ٍ ، لا ربّ له سوى النهب .
9 ليكن نهبٌ . لتمض ِ طفلاً رقيقا ، خفيفا ـ كريشة ، إلى بستان عمّك ؛ " بستان المَلك " ، منتهباً وشقيقك الأكبر ، العتيّ ، شجرَ المشمش الكلابيّ والبلديّ وخوخ الدبّ والبلديّ والتوت الشاميّ والبلديّ والجوز الأخضر والزعرور والزعبوب والميس والتين والرمان والدراق والدرابزين والكمثرى والكرز والتفاح . لا يأبه وقع خطوكما على ممرات " الغيضة " ، السحرية ، لقريصها المبثوث ـ كألغام غادرة ؛ ولا لإشارات " حَرْحَش " ، الناطور الأصمّ ، المتهددة ، والمثيرة مرحَ العمّ في جلسته الرخيّة ورفقته ، الأثيرة ، حول " المصطبة " ؛ جنة البستان ، المُطوَقة بحرته المربّعة ، المتسعة ، بأشجارها المثمرة وصبّارها وخمائلها وعارشاتها وزهورها وطيورها وحضورنا .
10 لنكن حضوراً ، مدمّراً . بعيداً عن العين اليقظى للناطور الآخر ، المرعب ، " حسينو دقوري " ، الواقف على شؤون وقف آل " شمدين آغا " ، سيمضي تجوالنا ثمة ، في بساتين " الدايرة " ؛ الأشبه بجزيرةٍ متشكلة من دوران الجدول ، المتفرع عن النهر ، عند مروره بـ " الجوزة " ، وحتى مصبّه على مشارف " الباب الصغير " . هناك ، بين الصبح والعصر غالباً ، تمرّ عاصفة عصبتنا ، محيلة ً إلى مناهب وإستباحاتٍ وخرابات ، أرزاقَ الضمّانين ، الصوالحة ؛ من مزارع وبايكات واهراءات . فلا يأتي المساء ، إلا ونحنحة العمّ ، الغاضب ، في دهليز الدار ، تستنفرُ الأخَ الأكبر ، المتهيئ للواقعة سلفاً ، إلى قفزة فرار شاهقة خللَ الفتحة المفضية إلى منزل جارنا " حمّوكي " ، مسبوقة بصرخة الأمّ ، المرتاعة . " لقد مرّ " جينكو " من هنا تواً ، ولم ينسَ أن يحيينا ! " ، تقول الجارة الطيبة ، متضاحكة ، مطمئنة ً عمّنا ، المصفرّ ، المتسائل قلقا .
11 لا هاوية أسحَقُ من جسارتكَ ، يا شقيقي ، ولا خرافة . فلتقدنا قدُماً ، حيث شاءتْ أهواؤك وغاراتكَ ، من مساكب الحقول إلى مغر الجبل ، وعبرَ جادّات " الأكابر " التي محضتَ دوماً أبناءها أحتقاركَ وإزدراءك ؛ أولئكَ الذين ، بالمقابل ، لفظوا إسمك " جنّو " ، توهماً من كون صاحبه إبناً للجان ! وما كان ، بطبيعة الحال ، ليدور في ذهنهم وقتئذٍ أنّ المفردة الأخيرة تلك ، إنما هيَ إحدى إشتقاقات مصدر " الجنون " ؛ أنكَ ستوغل في متاهة العقل ولم تجاوز العشرين من عمرك ؛ أنتَ من إنهالت على دماغه ضربات الجلاد ، هناك في مسلخ " تدمر " ، الصحراويّ ، منذ ثلاثة وثلاثين عاماَ عاراً .
* مفتتح لصفحات في السيرة ، بعنوان " مَراجعٌ من مُجلد العمر " ، قيدَ التحقق
[email protected]
#دلور_ميقري (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
وداعاً ، إسكندرية كافافيس
-
الأرمن والعنصرية اللبنانية
-
الختم السابع : بيرغمان وشعريّة السينما
-
قاض سوري للمحكمة الدولية
-
رحلة إلى الجنة المؤنفلة / 3
-
زنّار الجنرال
-
موت إنغمار بيرغمان ، آخر رواد السينما العالمية
-
أمير الشعر
-
لحية أتاتورك
-
السادي والسويدي
-
حكاية باموك : إسمٌ بينَ الوردةِ والأحمَر / 5
-
ويحدثونك عن العدالة السويدية
-
حكاية باموك : إسمٌ بينَ الوردةِ والأحمَر / 4
-
محاكمة الكاتب
-
التنكيل بالكاتب
-
رحلة إلى الجنة المؤنفلة / 2
-
سندريلا السينما : فنها وعشقها الضائع
-
كركوك ، قلبُ تركستان
-
سندريلا السينما : حكاية ُ حياةٍ ورحيل
-
في مديح الخالة السويدية
المزيد.....
-
طالبان تحظر هذه الأعمال الأدبية..وتلاحق صور الكائنات الحية
-
ظاهرة الدروس الخصوصية.. ترسيخ للفوارق الاجتماعية والثقافية ف
...
-
24ساعه افلام.. تردد روتانا سينما الجديد 2024 على النايل سات
...
-
معجب يفاجئ نجما مصريا بطلب غريب في الشارع (فيديو)
-
بيع لوحة -إمبراطورية الضوء- السريالية بمبلغ قياسي!
-
بشعار -العالم في كتاب-.. انطلاق معرض الكويت الدولي للكتاب في
...
-
-الشتاء الأبدي- الروسي يعرض في القاهرة (فيديو)
-
حفل إطلاق كتاب -رَحِم العالم.. أمومة عابرة للحدود- للناقدة ش
...
-
انطلاق فعاليات معرض الكويت الدولي للكتاب 2024
-
-سرقة قلادة أم كلثوم الذهبية في مصر-.. حفيدة كوكب الشرق تكشف
...
المزيد.....
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
-
ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو
...
/ السيد حافظ
المزيد.....
|