|
جبانٌ أنا
وليام حداد
الحوار المتمدن-العدد: 2023 - 2007 / 8 / 30 - 04:13
المحور:
الادب والفن
أخذت القرار بالرحيل بعيداً، لم يكن المال والعمل هما الغاية، حاولت كثيراً أن أقنع نفسي بهذا إلاً أنني فشلت. كان السفر هروب إلى المجهول حيث لا يوجد هناك من أواجهه بفشلي وأكون وحيداً. عند الشيوعيين هناك شيء يسمّونه بالنقد الذاتي، وهو ما أسمّيه جلد الذات من أجل الوصول إلى الحقيقة المرّة والتي في حالتي هذه كانت أشد مرارةً من العلقم نفسه (جبانٌ أنا).
رحلتُ نعم، رحلت ولم أجرؤ حتى على الإلتفات خلفي لأودّع من أحببتهم، لم أكن خائفاً بل كنت أجبن من أفعل لمعرفتي بأنني لن أستطيع. نظرة واحدة كانت كفيلة بجعلي أعيد التفكير في ما أفعل، نظرة واحدة كانت كافية لإعادة الأمل والحياة إلى تلك الروح البائسة، المسافرة إلى المجهول وهي تعلم علم اليقين بأن دوائها ليس في أي مكان آخر، هو هناك وبالرغم من هذا رحلتُ أبحث عنه في زوايا السفر. في طريقي جهدت ألملم شتات نفسي، الدموع كانت أشجع من صاحبها فانهمرت بغزارة رغماً عني ولم أستطع إيقافها. في ذلك المكان البائس حيث يتشردون منه إلى بقاع الأرض شربت فنجان قهوتي الأخير ورحلت، تاركاً ورائي حياة رفضت أن ترافقني في ترحالي وسقطت من ذاكرتي، اختارت أن تبقى هناك لتستقبلني مرحبةً عند عودتي، لم تكن تعلم بل كانت متيقّنة بأنني سأعود، لا أعلم كيف كانت تعرف هذا ولكنها عرفت، ربّما من نظراتي التي راحت تسرح في كل شيء وأنا أسلك طريق الآلام، نعم فهي أشبه ما كانت بالرحلة التي قطعها عيسى عائداً إلى سماء أبيه مع فارق وحيد، عيسى ترك جسده ورحل روحاً بينما أنا تركت روحي ورحلت جسداً.
البارحة استلمت رسالة، كنت أتوقّعها كل يوم في الجحيم الذي أعيشه، كان نصّ الرسالة كلمة واحدة (كفى) وكانت مذيّلة بتوقيع قلبي. لم أقرأ الرسالة في حينها، سقطت قبل أن أعرف ما هي وممّن هي. استيقظت لأجد نفسي في مكانٍ لا أدري ما هو، كان النور يملؤ المكان، لم أستطع تمييز مصدره لشدّته ولكنه أخذ يخفت شيئاً فشيئاً وعندها فقط استطعت أن أميّز مصدره، كان صادراً من تلك الوجوه التي أراها أمامي، لم تكن تلك سوى ذكريات من حياتي السابقة التي تخلّيت عنها حينما رحلت، كنت أشاهدها كمن يشاهد فيلماً سينمائياً، كنت سعيداً تغمرني الفرحة لرؤية كل هذا من جديد وفجأة انقطع كل شيء، أحسست نفسي كمن يعوم في الضياع، كان هذا هو اللاشيء ولكنه لم يدم سوى لأجزاء من الثانية لأرى أمامي نوراً خافتاً يأتي من البعيد وأميّز صوتاً عميقاً يناديني بإسمي. أخذتُ أجاهد للوصول إلى ذلك الضوء، تسلّقت جبالاً كانت كالمرايا تنعكس في كلّ واحدةٍ منها صورة لحياتي السابقة، أحسست نفسي كمن يتسلّق جبال الهمالايا وكان ذلك النور هو قمة إيفرست لي. كان النور الذي رأيته ما هو إلاً ضوء الغرفة الصغيرة وأمامي كانت تقف فتاة بلباس أبيض حسبتها ملاكاً للوهلة الأولى، كنت في المستشفى وكان السبب أزمة قلبية عابرة، هذه هي الرسالة التي وصلتني من قلبي. لأشهر كان جسدي يتهالك تعباً مرهقاً وكان يومياً يبعث إلي بمئات الرسائل التي كنت أتجاهلها حتى أخيراً قرّر أن تكون الرسالة على مستوى التحدّي فإمّا الحياة أو الموت، لن يكون موتاً يغيظ العدى إنّما موتاً يريح النفس التي كانت تموت في اليوم ألف مرة. كان جسدي يعلم بمدى جبني فقرّر الإمساك بزمام الأمور بدلاّ مني ويجبرني على اتخاذ القرار، أهم قرار منذ رحيلي ولا أبالغ إن قلت قد يكون الأهم منذ أن أبصرت نور هذه الحياة، القرار بالعودة لا إلى الحجر إلى البشر إلى الحياة.
أتساءل الآن إن كنت سأجد روحي هناك، تنتظرني في المكان الذي تركتني فيه، هل سترحّب بي كما قالت؟ هل ستحضنني وتعود للغوص في أحشائي فتعيدني للحياة وتُنسيني ما كان من ألم وعذاب الغربة؟ (الإنسان ليس سوى كتلة من الأحاسيس يحرّكها المكان والزمان وتسيّرها الروح كما تشاء ويريها العقل إشارات الحياة)، تحضرني هذه الكلمات الآن وأنا أختبر نوعاً جديداً من المشاعر والأحاسيس المختلفة والمتناقضة منها الفرح للعودة إلى حياةٍ خلّفتها ورائي ومنها الخائف من مشاكل كنت قد تركتها ورائي وأعود الآن لأواجها من جديد. يا ترى هل سأستطيع المواجهة وأكون جدير بهذا القلب وهذه الروح أم أن الجبن قد استحلّني وأعلنني أرضاً له يفعل بها ما يشاء كما فعل رئيس وزراء بني صهيون (بن غوريون) عندما قال بأنهم وجدوا أرضاً بلا شعب. هل سأعود لأعيش على هامش الحياة؟ هل سيعلنني جبني جسداً بلا مشاعر؟ أسئلة كثيرة تقفز إلى ذهني ولا أدري من أين ولكنّني وللمرة الأولى لا أخشى مواجهتها، لا أدري إجابتها ولا يهمّني، هذه المرّة سأخوض حربي وسأعلن جسدي أرضاً محروقة ولتكن البداية أو النهاية إذا شئتم ولكن لن أتنازل من جديد فآخر مرّة تنازلت فيها كدت أن أخسر نفسي، لن أتنازل وأنا أعلم أنّ هناك في هذه الحياة ما زال هناك ما يستحق خوضها لأجله.
#وليام_حداد (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
سمٌ وعسل
-
أين حقي؟!
-
مثقفون ونون
-
وليكن
-
بين المقاومة والتقسيم أين الشيوعيين العراقيين
-
ردا- على مقالة لاتنتقدوا النظام السوري في لبنان حتى لايغتالك
...
المزيد.....
-
أموريم -الشاعر- وقدرته على التواصل مع لاعبي مانشستر يونايتد
...
-
الكتب عنوان معركة جديدة بين شركات الذكاء الاصطناعي والناشرين
...
-
-لي يدان لأكتب-.. باكورة مشروع -غزة تكتب- بأقلام غزية
-
انطلاق النسخة السابعة من معرض الكتاب الفني
-
مهرجان الأفلام الوثائقية لـRT -زمن أبطالنا- ينطلق في صربيا ب
...
-
فوز الشاعر اللبناني شربل داغر بجائزة أبو القاسم الشابي في تو
...
-
الموصل تحتضن مهرجان بابلون للأفلام الوثائقية للمرة الثانية
-
متى وكيف يبدأ تعليم أطفالك فنون الطهي؟
-
فنان أمريكي شهير يكشف عن مثليته الجنسية
-
موسكو.. انطلاق أيام الثقافة البحرينية
المزيد.....
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
المزيد.....
|