|
تيارات الحركة النسوية ومذاهبها
نادية ليلى عيساوي
الحوار المتمدن-العدد: 85 - 2002 / 3 / 9 - 07:44
المحور:
حقوق المراة ومساواتها الكاملة في كافة المجالات
يثير ذكر حركة التحرر النسائية (أو الحركة النسوية) ردات فعل سلبية عند أكثر الرجال والنساء تجاه ما قد يعتبر مبالغة أو تطرفاً في تفكير وسلوك نسويين يشبهان إعلان الحرب على الرجال وعلى المجتمع ومؤسساته. ولا يمكن النظر الى ردات الفعل هذه دون الإشارة الى أنها تعبّر عن خوف عميق من إمكانية زعزعة دعائم النظام البطركي (الأبوي) الذي جرى بناؤه منذ آلاف السنين: نظام هيمنة ذكورية ظل متماسكاً رغم كل الثورات والتطورات التكنولوجية التي حصلت على مر القرون الماضية. فالتراتبية الناظمة للعلاقات بين الجنسين تحولت الى قناعات راسخة عند كل من النساء والرجال الى حد صارت تبدو فيه السيطرة الذكورية طبيعية وبديهية. ويؤكد الفيلسوف والسوسيولوجي الفرنسي بيار بورديو، في هذا المجال، أن هذه السيطرة مغروسة في اللاوعي الجمعي عند البشر وأنها تحوّلت الى عنصر غير مرئي وغير محسوس في العلاقات ما بين الرجال والنساء. وينبغي بالتالي إخراج هذا اللاوعي، وتحويله الى وعي يعيد كتابة التاريخ. هذا العمل هو بالضبط ما يسعى إلى تحقيقه النسويون من خلال جهدهم الفكري وتحالفهم مع الحركات الاجتماعية الباحثة عن التغيير والحاملة مشاريع بديلة للسائد. وبهذا المعنى، تعتبر الحركة النسوية حركة ثورية تغييرية تهدف الى تحطيم البداهات الخاطئة ووضع المرأة في موقع ((الفاعل)) في المجتمع. ومن هنا التعاطي مع صعودها على أنه تهديد لأسس التنظيم الاجتماعي القائمة. ولكن، ما هي ((النسوية)) التي نتحدث عنها اليوم؟ في ما يلي تعريفان أوليان لهذا المصطلح. يقول القاموس: ((النسوية هي منظومة فكرية، أو مسلكية مدافعة عن مصالح النساء، وداعية الى توسيع حقوقهن)) (Hachette, 3991). أما لويز توبان، النسوية الكندية، التي سنعتمد لاحقاً تصنيفها للتيارات النسوية، فتذهب أبعد من التعريف القاموسي، لتقول ((إن النسوية هي انتزاع وعي (فردي بداية ثم جمعي)، متبوع بثورة ضد موازين القوى الجنسية والتهميش الكامل للنساء في لحظات تاريخية محددة)). نذكر هذا، لنؤكد في نفس الوقت أنه لا يوجد نسوية واحدة يمكن لجيمع المناضلات النسويات تبنيها، بل نسويات تندرج ضمن مدارس عديدة وتتغذى من المعطيات الثقافية والاجتماعية المختلفة، وتحاول كل منها الإضاءة على الأسباب التي أدت الى تهميش المرأة واستضعافها، وبلورة استراتيجيات لمواجهتها. يستفيد الفكر النسوي من تراكم فكري تاريخي ومن توليفات نظرية وتحليلات اغتنت الواحدة من الأخرى ونضجت في القرنين الأخيرين. ولعل النسويين الأنغلو ساكسونيين (وأستخدم هنا صيغة الجمع المذكر للضرورات اللغوية ((الذكورية))، إذ بين النسويين عدد من الرجال) كانوا السباقين الى بلورة قضايا نظرية وتحويلها الى نضال سياسي. ويمكن اعتبار أن الحركات النسوية تمحورت لغاية السبعينيات حول ثلاثة تيارات رئيسية: النسوية الإصلاحية الليبرالية، والنسوية الماركسية، والنسوية الراديكالية. 1 النسوية الإصلاحية الليبرالية: ينتسب هذا التيار الى خط الثورة الفرنسية وامتداداته الفكرية، ويستد الى مبادئ المساواة والحرية للمطالبة بحقوق للمرأة مساوية لحقوق الرجل في مختلف مجالات الحياة السياسية والاجتماعية. ويتميز هذا التيار بإيمانه بقدرة النظام الرأسمالي على ملامسة الكمال والتكيف مع المتغيرات. ويعمل المنتمون إليه من أجل أن يوفر النظام القائم نفس الفرص والحقوق للنساء والرجال، من خلال التركيز على التربية وتغيير القوانين المميزة بين الجنسين وتكوين لوبيات الضغط وتغيير الذهنيات على المدى البعيد. 2 النسوية الماركسية: يعتبر نسويو هذا التيار أن قمع المرأة وقهرها بدآ مع ظهور الملكية الخاصة. فنقل الملكية بالإرث سبّب مأسسة للعلاقات غير المتوازنة وتوزيعاً للمهام والأعمال على أساس من التمييز الجنسي. وقد شيدت الرأسمالية نظاماً للعمل يميز ما بين المجالين الخاص والعام: فللرجل العمل المنتج والمدفوع، وللمرأة الأعمال المنزلية المجانية غير المصنفة ضمن الإنتاج. واستندوا الى اعتبار إنجلز أن قيام الرأسمالية والملكية الخاصة أكبر هزيمة للجنس النسائي. يرى أتباع هذا التيار أن إعادة انخراط النساء في سوق العمل ومشاركتهن في الصراع الطبقي سيؤدي الى قلب النظام الرأسمالي وإزالة الطبقات. لكن اقتصار تحليلهم على البعد الطبقي بدا غير كافٍ لشرح أسباب التهميش والتمييز ضد المرأة. كما أن إصرارهم على عدم اعتبار النضال النسوي قائماً بذاته بحجة عدم تشتيت القوى خارج ميدان الصراع الطبقي، أدى الى ظهور أدبيات نسوية ماركسية تضيف الى التحليل الطبقي تحليلاً مرتبطاً بالتمييز الجنسي، والى الرأسمالية مفهوم البطركية (أو الأبوية). ومع سقوط جدار برلين وانهيار التجربة السوفياتية، تبلور ضمن التيار النسوي الماركسي مذهبان رئيسيان: الأول، مذهب ((النسوية الشعبية)) والثاني مذهب ((الأجر مقابل العمل المنزلي)). ((النسوية الشعبية)) تعتبر أن التمييز الجنسي ليس عنصر القهر الأول أو الرئيسي للنساء، وترى أن النضال من أجل المساواة بين الجنسين يجب أن يترافق مع النضال ضد الفقر والتهميش والعنصرية... ونسوية ((الأجر مقابل العمل المنزلي)) تعمل على تبيان حجم القطاع غير المرئي وغير المحسوب في الاقتصاد، منطلقة من أن العمل المنزلي وعمل الولادة أو ((إنتاج البشر)) هو مكان استغلال النساء لترافقه مع الارتباط الاقتصادي بالرجل (dependence) ومجانية العمل. وبالتالي، يشكل المنزل والحي والمجتمع الصغير بالنسبة لها النصف الآخر من التنظيم الرأسمالي الذي يخدم النصف الأول، أي السوق. 3 النسوية الراديكالية: هدف هذا التيار الى التعويض عن بعض النواقص في النسوية الليبرالية والماركسية من خلال التأكيد على الطابع العام والعابر للمناطق والثقافات، المستقل عن الطبقات، للتمييز ضد النساء. ويعتبر أنصاره أن البطركية بحد ذاتها هي أساس هذا التمييز ضد النساء والسيطرة عليهن التي تنسحب على ميادين الحياة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والجنسية، وتخلق نظام تنميط للجنسين من خلال ثقافتين: واحدة ذكورية مسيطرة وأخرى نسائية مسيطر عليها. ومن بين استراتيجيات هذا التيار الهادفة الى تغيير المعادلة الراسية، استعادة النساء لأجسامهن وكيانهن وإعادة الاعتبار الى ثقافة خاصة بهن الى حد الانفصال عن الرجال والعيش في مجتمعات نسائية مستقلة. وانطلاقاً من عمل هذا التيار، ولدت مذاهب فكرية ونقدية أضاف كل منها نواحي جديدة الى التحليل السيكولوجي وفهم الحالة النسوية. وتأسس مذهب متمحور حول عالمة النفس لوس إيريغاراي التي طورت التفكير حول مفهوم الاختلاف، وخلقت نقاشات حول الطابع البيولوجي والاجتماعي لهذا الاختلاف. واستعاد هذا المذهب قول المفكرة والنسوية الفرنسية سيمون دو بوفوار ((لا نخلق نساء، بل نصير نساء)) جاعلاً منه أبرز شعاراته. نضال المثليات والسوداوات والبيئيات في السبعينيات، نما تياران جديدان وراحا يوسعان حقول التفكير والنشاط النسويين. فظهر تيار النسويين المثليين الذي اخترق جميع التيارات والمذاهب النسوية منظراً لكون منطلق التمييز كامنا في العلاقات بين الجنسين، ومحاربته تتم بالتالي من خلال الانسحاب من هذه العلاقات نحو علاقات إنسانية جديدة مثلية تتساوى أطرافها جميعاً... أما التيار الثاني الذي ظهر، والذي أغنى الحركة النسوية الى أبعد الحدود، فكان ((حركة النسويات السوداوات)) (Black Feminists)، الذي صب لمصلحة المدرسة النسوية الراديكالية. والجدة في هذا التيار نشوؤه في أوساط المناضلين السود، مما أضاف البعد العنصري الى معادلة الجنسي والطبقي، ووضع التشابهات بين آليات التمييز العنصري وآليات التمييز الجنسي أمام المجهر. فبالنسبة الى النسويات السوداوات، وصل التمييز الجنسي الى ذروته مع دخول النساء الحيز العام ومشاركتهن الرجل في العمل. فقد انتقلن عندها من نظام سيطرة ذكورية واستغلال تقليدي الى كائنات لها حقوقها ومسؤولياتها المدنية، تنافس الرجال وتولد عندهم العدائية والتمييز الجنسي العنيف، على نحو يشبه تماماً التمييز العنصري الذي تعرض له السود بعيد تحررهم. وفي الثمانينيات، ومع تصاعد الكوارث البيئية، داخل النسويون في الموضوع البيئي. وتصدرت النسوية الهندية فاندانا شيفا تياراً نسوياً بيئياً ارتفعت شعبيته في دول العالم الثالث، ومفاد مقولته ان المرأة (المشبهة بالطبيعة في معظم المعتقدات والخرافات الدينية) تتعرض لنفس أنماط الاستغلال التي تتعرض لها الموارد الطبيعية على يد النظام الرأسمالي ورجاله. وبالتالي، لا يمكن لغير ثقافة سلمية، معادية للرأسمالية ومحترمة للشعوب والطبيعة، أن تلغي الاستغلال والتمييز اللذين تتعرض لهما نساء الكون... خلاصة إذا كنّا نأخذ على الحركة النسوية هيمنة النساء على عضويتها واستبعاد الرجال، فتبريرها يأتي من قرارها الابتعاد في المرحلة الأولى عن المجتمع وأخذ المسافة عن آلياته التي همشت النساء والتفكير بواقعهن قبل مواجته في المرحلة الثانية والانخراط في الصراع ضد مظالمه. واليوم، عادت الحركة النسوية الى قلب المجتمع للعمل مع جميع القوى التقدمية والنضالية التي تحاول مواجهة مؤسساته الاستغلالية. وهي تقترح، كما معظم الحركات الاجتماعية، تحولات وتغييرات تطال بنيته ككل، وتقاوم عولمة مساوئه. ولعل تجربة ((المسيرة العالمية للمرأة)) ضد العنف والفقر ومشاركة النسويين الفاعلة في اللقاءات المواطنية مثل ((منتدى بورتو أليغري)) تشيران الى خروج الحركة النسوية من ((انعزاليتها)) الأولى. ويرجى أن تؤدي بلورة الوعي في سبيل التغيير الى استقطاب المزيد من الرجال، مع العلم أن مهمة من هذا النوع ستكون ثورة فعلية وستؤدي الى إزالة أكثر المظالم عن المرأة والى تحرير الرجال بدورهم من أدوار القمع والهيمنة التي يمارسونها بهدف بناء مجتمعات عادلة يعيش فيها الجميع أحراراً ومتساوين...
باحثة جزائرية، ومنسقة برامج المرأة في ((المؤسسة من أجل تقدم الإنسان)). ©2002 جريدة السفير
#نادية_ليلى_عيساوي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
وزارة المالية : تعديل سن التقاعد للنساء في الجزائر 2024.. تع
...
-
المرأة السعودية في سوق العمل.. تطور كبير ولكن
-
#لا_عذر: كيف يبدو وضع المرأة العربية في اليوم العالمي للقضاء
...
-
المؤتمر الختامي لمكاتب مساندة المرأة الجديدة “فرص وتحديات تف
...
-
جز رؤوس واغتصاب وتعذيب.. خبير أممي يتهم سلطات ميانمار باقترا
...
-
في ظل حادثة مروعة.. مئات الجمعيات بفرنسا تدعو للتظاهر ضد تعن
...
-
الوكالة الوطنية بالجزائر توضح شروط منحة المرأة الماكثة في ال
...
-
فرحة عارمة.. هل سيتم زيادة منحة المرأة الماكثة في البيت الى
...
-
مركز حقوقي: نسبة العنف الأسري على الفتيات 73 % والذكور 27 %
...
-
نيويورك تلغي تجريم الخيانة الزوجية
المزيد.....
-
الحركة النسوية الإسلامية: المناهج والتحديات
/ ريتا فرج
-
واقع المرأة في إفريقيا جنوب الصحراء
/ ابراهيم محمد جبريل
-
الساحرات، القابلات والممرضات: تاريخ المعالِجات
/ بربارة أيرينريش
-
المرأة الإفريقية والآسيوية وتحديات العصر الرقمي
/ ابراهيم محمد جبريل
-
بعد عقدين من التغيير.. المرأة أسيرة السلطة ألذكورية
/ حنان سالم
-
قرنٌ على ميلاد النسوية في العراق: وكأننا في أول الطريق
/ بلسم مصطفى
-
مشاركة النساء والفتيات في الشأن العام دراسة إستطلاعية
/ رابطة المرأة العراقية
-
اضطهاد النساء مقاربة نقدية
/ رضا الظاهر
-
تأثير جائحة كورونا في الواقع الاقتصادي والاجتماعي والنفسي لل
...
/ رابطة المرأة العراقية
-
وضع النساء في منطقتنا وآفاق التحرر، المنظور الماركسي ضد المن
...
/ أنس رحيمي
المزيد.....
|