يعتبر (مؤتمر) كانكون أكثر من مجرد معركة جيو سياسية عابرة. فهو يمثل حفل تشييع الهجوم النيو ليبرالي الذي بدأ في سبعينيات القرن الماضي. من أجل فهم أهمية هذا الحدث، علينا العودة إلى البداية.
شهدت سبعينيات القرن الماضي نقطتي تحول في الإيقاع الدوري للاقتصاد الرأسمالي العالمي. كانت بداية ركود طويل للاقتصاد العالمي، مرحلة، لم نخرج منها بعد، تعرف باسم <<كوندراتييف بي>>. كما شكلت اللحظة التي بدأت تأفل فيها هيمنة الولايات المتحدة على النظام العالمي. يعني الركود في الاقتصاد العالمي أن قيمة الأرباح انخفضت بدرجة كبيرة، وذلك نتيجة للمنافسة المتزايدة في الصناعات الموجهة، وللإفراط في الإنتاج. يؤدي ذلك إلى نوعين من المعارك الجيو اقتصادية: صراع بين مراكز تراكم رأس المال (الولايات المتحدة وأوروبا الغربية واليابان شرقي آسيا)، وذلك بهدف نقل عبء نسب الأرباح المخفضة إلى بعضها البعض. أدعو ذلك <<تصدير البطالة>>، وهي عملية تجري منذ ثلاثين عاما، أجاد كل من المراكز الثلاثة استخدامها في أوقات مختلفة (أوروبا في السبعينات واليابان في الثمانينات والولايات المتحدة في أواخر التسعينات).
أما المعركة الجيو اقتصادية الثانية فهي تلك الدائرة بين المركز والأطراف، الشمال والجنوب، والتي يسعى فيها الشمال إلى استعادة كل ما استطاع من الأرباح القليلة التي فاز بها الجنوب خلال مرحلة التوسع السابقة المعروفة باسم <<كوندراتييف ايه>> (1945 1970). وحسبما يعلم الجميع، تم إفقار كل من أميركا اللاتينية وشرقي أوروبا وجنوبي آسيا، في معظم أجزائها، بعد العام 1970. كانت شرقي وجنوبي شرقي آسيا المنطقة الوحيدة التي أجادت العمل نسبيا، على الأقل حتى الأزمة المالية في نهاية التسعينيات. لكن هناك دوما منطقة <<واحدة>> من الأطراف تكون أحوالها جيدة في مرحلة انكماش لأنه لا بد من أن تكون هناك بعض المناطق التي تنتقل إليها الصناعات التي تشهد أزمة.
في هذه المرحلة الصعبة، عندما كان الرأسماليون يقاتلون للحفاظ على إيراداتهم، جزئيا عبر نقل الإنتاج إلى مكان آخر، لكن غالبا عبر التوقع المالي، باشروا ما لا يمكن تسميته سوى هجوم مضاد ضد أرباح الجنوب وأرباح الطبقة العاملة في الشمال في المرحلة <<ايه>> السابقة. هذا ما سمي بالنيو ليبرالية (أو الليبرالية الجديدة). تم التعبير عن أولى الوجوه السياسية لهذا الهجوم المضاد في تحول حزب المحافظين البريطاني والحزب الجمهوري الأميركي من حزب معتدل كينازياني (1) إلى حزب مؤلف من مؤمنين بشدة بوصفات ميلتون فريدمان السحرية. مثلت سنوات حكم السيدة تاتشر في بريطانيا كرئيسة للوزراء ورونالد ريغان كرئيس للولايات المتحدة انحرافا واضح المعالم إلى اليمين في السياستين الداخلية والخارجية، لكن أيضا، وبشكل أكثر أهمية، تحولا في بنى كلا الحزبين كأساس لدفع نقطة التوازن في السياسات الداخلية من الوسط إلى أقصى يمين الوسط. شكلت السياسة الجديدة للمحافظين دفعة إلى الوراء على صعيد المصادر الثلاثة لتزايد التكلفة على المنتجين: الأجور ودمج التكاليف لتخفيف الأضرار البيئية، وضرائب الدولة لتمويل دولة الرفاهية.
كانت هناك محاولة لتنسيق هذه السياسة عبر دول الشمال عن طريق إنشاء سلسلة من المؤسسات الجديدة مثل المفوضية الثلاثية ومجموعة السبع والمنتدى الاقتصادي العالمي (دافوس). عرفت السياسة الاقتصادية التي اقترحت باسم <<إجماع واشنطن>>. علينا أولا الإشارة إلى أن إجماع واشنطن حل مكان شيء يعرف بالتنمية التي كانت السياسة الاقتصادية العالمية المسيطرة خلال المرحلة السابقة (في نهاية الستينيات، نادت حتى الولايات المتحدة بأن السبعينيات يجب أن يكون <<عقد التنمية>>). كانت الفكرة الأساسية للتنمية أن كل بلد قادر على <<النمو>>، فقط في حال طبقت الدولة السياسات الملائمة ما سيؤدي في نهاية المطاف إلى عالم من دول متشابهة ومتساوية الثروات بشكل أو بآخر. لم تنجح التنمية، بالطبع، ولا يمكن أن تنجح، وقد أدرك الجميع هذه الحقيقة المحزنة في السبعينيات.
حل مكانها <<إجماع واشنطن>> الذي ادعى أن العالم كان في عصر <<عولمة>> قيل أنها نصر للسوق الحرة والتخفيض الجذري لدور الدولة الاقتصادي، وفوق كل ذلك، إلغاء جميع العوائق والحواجز التي أقامتها الدولة للسماح بحركة عابرة للحدود للبضائع ورؤوس الأموال.
اعتبر إجماع واشنطن أن الدور الأساسي للحكومات، خاصة حكومات الجنوب، كان وضع حد لوهم التنمية، والقبول بفتح حدودها بشكل كامل ومن دون أية قيود. اعتبرت السيدة تاتشر أن لا خيار أمام هذه الحكومات. قالت: <<ل ه ا ب، ليس هناك أي بديل، ل ه ا ب تعني أنه ستتم معاقبة كل حكومة لا تذعن، أولا بواسطة السوق العالمية وثانيا بواسطة المؤسسات الدولية>>.
لم يكن هناك انتباه كاف لحقيقة أن المؤسسات الدولية لم تبدأ بلعب دور مهم في هذه الصراعات الجيو اقتصادية إلا في بداية السبعينيات. تحول البنك الدولي وصندوق النقد الدولي إلى منفذين نشطين جدا ل<<إجماع واشنطن>>. تمكنا من لعب هذا الدور لأن دول الجنوب، التي ألحق بها ركود الاقتصاد العالمي أضرارا ضخمة، كانت تنقصها الأموال وكانت بحاجة بشكل مستمر للجوء إلى الدائنين الخارجيين لسد العجز في ميزان المدفوعات. فرض صندوق النقد، بشكل خاص، شروطا قاسية على قروض كهذه، تقضي بصورة عامة بإجراء تخفيضات هامة على الخدمات الاجتماعية ضمن البلد وتعطي الأولوية لسداد القروض الخارجية على كل شيء آخر.
في الثمانينيات، تقرر المضي أبعد من ذلك. كانت منظمة التجارة العالمية عبارة عن فكرة نوقشت أولا في أربعينيات القرن الماضي. لكنها انهارت بسبب الخلافات المهمة بين مراكز تراكم رأس المال. ما جعلها تنطلق في الثمانينيات، كان الاتفاق المشترك بين دول الشمال بأنها يمكن أن تكون أداة مفيدة جدا لتعزيز إجماع واشنطن. تقاتل منظمة التجارة، نظريا، من أجل فتح الحدود وتوسيع السوق العالمية الحرة إلى حدها الأقصى. المشكلة الكبرى هي في أن دول الشمال لم تعن أبدا ذلك. أرادت أن تفتح دول الجنوب حدودها لكنها لم ترد حقا مبادلتها بالمثل.
بعدما نجحت الولايات المتحدة في خلق رابطة شمالي أميركا للتجارة الحرة (نافتا) ومضت أوروبا قدما في وحدتها الاقتصادية، قررت دول الشمال أن الوقت قد حان لتطبيق برنامجها في منظمة التجارة العالمية. الموعد الذي اختير كان اجتماع سياتل للعام 1999. ومع ذلك، فقد انتظر الشمال لفترة طويلة جدا. أدى الخراب الذي تسبب به إجماع واشنطن تزايد البطالة والأضرار البيئية والقضاء على الاستقلالية الغذائية إلى حركة احتجاج قوية وغير متوقعة تمكنت من جمع مجموعة كثيرة ومختلفة من الفوضويين إلى البيئيين والنقابيين. تمكنت تظاهراتهم المشتركة من أن تجعل الاجتماع واهنا. إضافة إلى ذلك، كانت الولايات المتحدة وأوروبا الغربية، في سياتل، على خلاف بسبب سياسات الحماية المتبادلة التي تعتمدها كل منهما ضد الأخرى. لذلك انتهى اجتماع سياتل من دون أن يحقق أي شيء.
عند هذه النقطة، حصل حدثين مهمين. الأول كان تأسيس المنتدى الاجتماعي العالمي الذي عقد أول اجتماعاته في بورتو الليغري والذي شكل <<حركة الحركات>> ضد النيو ليبرالية واجماع واشنطن ومنتدى دافوس. كان ناجحا على نحو رائع حتى الآن. أما الحدث الثاني فكان 11 أيلول الذي أدى إلى إعلان بوش مذهب التصرف الوقائي الأحادي ضد كل من تعتبر الولايات المتحدة أنه <<إرهابي>>.
كان التأثير الأولي ل11 ايلول حصول الولايات المتحدة على دعم عالمي للحرب التي أعلنتها على <<الإرهاب>>. جاء اجتماع منظمة التجارة في الدوحة بعد ذلك بوقت قريب. في هذا الاجتماع، تمكن الشمال من الفرض على الجنوب المرعوب، في هذه اللحظة، قبول اتفاق لمناقشة معاهدات جديدة تزيد كثيرا من فتح الحدود الاقتصادية العالمية. كان يجب تكريس هذه المعاهدات في كانكون في العام 2003.
مرة جديدة، جاء كانكون متأخرا جدا. فبين الدوحة وبينه كان هناك غزو العراق، وما تلاه من تداعيات قلبت بقوة الشعور العالمي ضد الولايات المتحدة وكشفت الحدود الجدية لقوة الجيش الأميركي. في هذا الوقت، زادت حركات السلام العالمية، وبشكل كبير، من قوة بورتو الليغري الذي تمكن بدوره من ممارسة ضغوط ضخمة على دول الجنوب لتقوية عزيمتها.
في كانكون، دفعت قوى الشمال، الموحدة بشكل أو بآخر، ببرامجها الرامية إلى فتح حدود دول الجنوب أمام بضائعها ورساميلها والمحافظة على ملكيتها الفكرية (براءات الامتياز). واجهت دول الجنوب (هذه المشاريع) بشكل منظم. قادت البرازيل عملية تشكيل تكتل من 21 دولة (بينها الصين والهند وجنوب إفريقيا) قالت في الجوهر أن الجنوب يصر، في المقابل، على أن يفتح الشمال حدوده للمنتجات الزراعية والصناعية الجنوبية. حظيت مجموعة ال21، التي كانت من <<القوى المتوسطة>>، في هذه المعركة، بدعم الدول الأكثر فقرا، وخاصة الإفريقية منها. وبما أن الشمال لم يكن راغبا، لأسبابه السياسية الداخلية، في القيام بتنازلات جدية، فإن الجنوب لم يتزحزح (عن موقفه). كانت النتيجة مأزقا.
يرى الجميع ما حصل أنه نصر سياسي لدول الجنوب. يجب أن يكون واضحا أن هذا النصر كان ممكنا نظرا لضعف الولايات المتحدة الجيوبوليتيكي وقوة قوى بورتو الليغري. باتت منظمة التجارة العالمية الآن ميتة عمليا. ستبقى حية على الورق، كما هو الحال بالنسبة للعديد من المؤسسات الدولية، لكن الأمر لن يبقى مهما لفترة طويلة.
تأمل الولايات المتحدة بأن تلملم الوضع عبر العمل بصورة أحادية. ستجد أنها لن تتمكن بسهولة من استدراج دول ذات شأن في الجنوب لتوقع معها على اتفاقيات تجارية أحادية الجانب. سيتحرك الجنوب الآن باتجاه تحدي البنك الدولي وصندوق النقد الدولي. بالأحرى، لقد بدأ هذا الهجوم بالفعل، وقد أظهر التمرد القوي لرئيس الأرجنتين كيرشنير بأن تحدياً كهذا يمكن أن ينجح. لن يمض وقت طويل قبل أن يصبح تعبير <<نيو ليبرالية>> يمثل أفكار الأمس الحمقاء والمنسية.
ترجمة ايلي شلهوب
() استاذ دراسات متقدمة في جامعة يال تنشر <<السفير>> النص بالاتفاق مع الكاتب.
©2003 جريدة السفير