5/10/2003
تصادف غدًا الاثنين ذكرى مرور ثلاثين سنة على حرب اكتوبر- تشرين- 1973 التي تطلق عليها اسرائيل "حرب الغفران" وبعض العرب "حرب رمضان"، لانها انفجرت في مناسبات دينية، الصيام اليهودي والصيام الاسلامي.
ورغم مرور ثلاثة عقود على هذه الحرب الا انها لا تزال تثير اهتمام البحّاثة والسياسيين والعسكريين والمؤرخين لانها، حسب رأينا، بمعطياتها ونتائجها ومدلولاتها العسكرية والسياسية، تعتبر بداية مرحلة نوعية، منعطفًا تاريخيًا نوعيًا على ساحة الصراع والتطور في المنطقة، تحتاج الى ابحاث كثيرة معمقة لاستخلاص كل النتائج والعبر الصحيحة، خاصة وان نزيف دم الصراع الاسرائيلي- الفلسطيني- العربي لم يتوقف بعد.
لقد تفجرت حرب تشرين على خلفية حالة اللاحرب واللاسلم غير الطبيعية في ظل مواصلة سياسة الاحتلال والاستيطان الاسرائيلية العدوانية في المناطق المحتلة، المصرية والسورية والفلسطينية والتنكر للقرارات الشرعية الدولية وخاصة قراري مجلس الامن (242) و(338) واغتيال كل محاولة للتسوية السياسية- رفض مشروع روجرز وغيره.
وتعتبر الحرب واللجوء الى السلاح وسيلة سياسية، سلاحًا لتحقيق اهداف سياسية، قد تقود الى انجاز هذه الاهداف او بعضها، او تقود الى تعقيد صارخ لقضايا الصراع. ولكوني لست خبيرًا عسكريًا ولا مؤرخًا مختصًا فسأركز على بعض النواحي السياسية التي لا تزال مدلولاتها السياسية حيوية جدًا في الظرف الراهن من الصراع المصيري المخضب بالدماء في منطقتنا.
** العبرة المخصية: الّفت هذه الحرب بمعطياتها اول ضربة موجعة للعُنجهية الاستعلائية العسكرية العدوانية الاسرائيلية، وللمقولة البلطجية العربيدة "لجيش لا يقهر" من ناحية عسكرية، وللمخاطر الجدية التي تنطوي عليها سياسة العدوان الاسرائيلية في حالة إذا ما الميزان العسكري مال بالنسبة لمصير ومستقبل اسرائيل، من ناحية اخرى. فالجيش المصري والجيش السوري اللذان تم تجهيزهما عسكريًا ومهنيًا من قبل السوفييت والدعم السوفييتي استطاعا أن يدحرا جيش سياسة العدوان والاحتلال الاسرائيلي وقام الجيش المصري بملحمة العبور الاسطورية محررًا قناة السويس وناسفًا خط بارليف "الامني" وتقدم الجيش السوري محررًا غالبية الهضبة السورية المحتلة. وانهارت وتراجعت الجبهات وقوات الاحتلال الاسرائيلية مندحرة. وأصاب الذعر الحكومة الاسرائيلية في عهد رئيسة الحكومة غولدا مئير وانهيار أعصاب القيادة العسكرية الاسرائيلية وراجت في الاوساط الاسرائيلية الحاكمة مقولة طالما عملت على تسويقها خاصة في الرأي العام العالمي "ان كيان دولة اسرائيل ووجودها في خطر" وذلك بهدف طمس دافع وجوهر وهدف الصراع والحرب وكأنه لا يوجد احتلال اسرائيلي غاصب وتجنيد الدعم الدبلوماسي السياسي والعسكري لآلة العدوان الاسرائيلي.
ومن يتابع اليوم وبمناسبة مرور ثلاثين سنة على هذه الحرب يلاحظ انه لا يزال المسؤولون السياسيون والعسكريون يركزون على الناحية العسكرية لهذه الحرب وفي غربة عن الناحية السياسية التي لولا وجود الاحتلال لما انفجرت الحرب التي كلفت اسرائيل ايضًا الثمن الباهظ جدًا من حيث الخسائر البشرية والمادية. فحرب جنرالات الحرب لا تزال مستمرة حتى اليوم، وتوجيه الاتهامات المباشرة بين الجنرالات عن من يتحمل المسؤولية عن الهزيمة في الايام الاولى من الحرب. ويكشف نفتالي ليفي "انظر: "يديعوت احرونوت" 1/10/2003) الناطق الرسمي باسم وزير الامن في حرب اكتوبر، موشيه ديان، عن الحالة النفسية الصعبة لديان من جراء الهزيمة العسكرية التي كادت تقود الى ارتكاب مغامرة كارثية باللجوء الى الخيار الذري واستعمال اسلحة الدمار الشامل لصد الجيوش المصرية والسورية. يقول لافي "كان ذلك في الثامن من اكتوبر. جلسنا في غرفة حاييم يسرائيلي، نائب المدير العام في وزارة الامن، دخل ديان فجأة، قرأت على صفحة وجهه صعوبة الوضع. حدّث بأنه يجري اعداد هجوم في الجولان ضد السوريين وعلى الجبهة المصرية وقال، الظاهر انه لا مفر من تفعيل الوسيلة المؤلمة جدًا حتى نستطيع صدهم" وحسب ليفي ان ديان قال "انّ الوضع في الجنوب مقلق ومصيري، اذا لم يجر تحول في الهجوم المضاد، نضطر الى التفكير برد موجع جدًا، ويبدو لي- يقول ليفي، ان ديان ذكر اسم علامة سرية على نوع سلاح مدمر لا مثيل له".
وهذه الحقائق تؤكد امرين أساسيين: الاول، ان من يهدد امن وكيان دولة اسرائيل هي سياسة العدوان والاحتلال الاسرائيلية والتوسع الاقليمي الصهيوني على حساب ارض وحقوق الغير من الفلسطينيين والعرب، وان السلام العادل المبني على زوال الاحتلال والاقرار بالحقوق الشرعية للغير هو السبيل الوحيد لضمان امن واستقرار اسرائيل والمنطقة. والثاني: ان اوساط الجنراليزمو صاحبة النفوذ الكبير في السياسة الرسمية الاسرائيلية لا تتورع عن اللجوء الى جريمة ضد الانسانية وحتى استعمال اسلحة الدمار الشامل للدفاع عن سياسة العدوان والاحتلال. وهذا ما نحذر منه اليوم ايضًا في ظل حكومة قوى اليمين المتطرف برئاسة جنرال المجازر والاستيطان اريئيل شارون. ولهذا لا مفر من شن معركة قوى السلام اليهودية والعربية لتنظيف اراضي اسرائيل من اسلحة الدمار الشامل وجعل كل منطقة الشرق الاوسط خالية من هذه الاسلحة غير التقليدية.
ان تجنيب المنطقة في حرب اكتوبر من استخلاص العبر الصحيحة باخماد بؤرة الحرب، والقنبلة الموقوتة المعدة للاشتعال في اي وقت، والاستفادة من معطيات ونتائج الحرب العسكرية لبناء قواعد السلام العادل، الشامل والثابت في المنطقة، قد جرى بشكل مخطط ومنهجيًا وتآمريًا كانت نتيجة الحرب العسكرية احد مؤشراته. فقطار الامدادات الجوية العسكرية الامريكية السريعة لاسرائيل و"اختراق" قوات شارون لمنطقة الدفرسوار المصرية ومحاصرة الجيش الثالث المصري، والمداولات السرية التي أضحت مكشوفة فيما بعد بين الادارة الامريكية ونظام السادات التي ادت الى بلورة "موازنة قوى جديدة"، موازنة لا غالب ولا مغلوب، او ما يسمى بالعربي الدارج "سلطيحة" ادت الى وقف الحرب ومحادثات الخيمة (101)التي كانت بمثابة مؤشر لبداية سافرة للردة الساداتية وارتمائه في احضان الامريكان.
لقد ادت حرب اكتوبر الى زيادة الضغط الدولي لاخماد بؤرة التوتر في الشرق الاوسط وانجاز سلام عادل وشامل وذلك في مناخ الانفراج الدولي الذي ساد الساحة الدولية في اواسط السبعينيات وتوقيع سالت "1" للحد من سباق التسلح النووي بين الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة الامريكية. وقد تمخض عن هذا الضغط، وخاصة من الاتحاد السوفييتي في حينه، الى عقد مؤتمر جنيف في العام 1978 بمشاركة جميع اطراف الصراع، اسرائيل وسوريا ومصر والفلسطينيين وتحت رعاية القطبين الاعظمين، السوفييتي والامريكي للتداول حول السلام الشامل وفق قرارات الشرعية الدولية. ولكن موقف الرفض الاسرائيلي للتسوية العادلة والتخاذل التآمري لنظام السادات قد نسف المؤتمر الدولي واحتمالات التوصل الى سلام شامل وعادل وثابت. فزيارة السادات الى اسرائيل تحت المظلة الامريكية كانت بداية المنعطف الخطير لتضييع الفرصة التاريخية بانجاز السلام العادل والى قطف "عبرة مخصية" من حرب اكتوبر تجسدت باللجوء الى نهج الحلول الانفرادية وتمزيق وحدة الصف العربي. وقد بدأت الردة الساداتية عن نهج الرئيس الخالد جمال عبد الناصر بطرد السوفييت من مصر وتوثيق العلاقة مع الامبريالية الامريكية. وبعد زيارة اسرائيل وقّع السادات مع اسرائيل بيغن الصلح الانفرادي، الذي اخرج اكبر دولة عربية من دائرة الصراع الاسرائيلي- العربي وفي وقت لا تزال فيه القضية المحورية للصراع- القضية الفلسطينية بدون حل ولا تزال الهضبة السورية محتلة.
صحيح ان اتفاقات "كامب ديفيد" المصرية- الاسرائيلية تحت المظلة الامريكية قد اعادت الى مصر كل شبه جزيرة سيناء المحتلة، ولكنها أدت الى بداية تعزيز الوجود العسكري الامريكي في المنطقة- القواعد العسكرية الامريكية في شبه جزيرة سيناء وفي "راس بناس" واقامة قوات التدخل السريعة الامريكية- العربية، كما أدت الى تصعيد العربدة العدوانية البلطجية الاسرائيلية، فإثر توقيع اتفاقات "كامب ديفيد" اعلنت اسرائيل ضمها للجولان السوري المحتل تحت السيادة السياسية- الاقليمية الاسرائيلية، وبعد عام شنت الحرب العدوانية في العام 1982 ضد لبنان والفلسطينيين واحتلت بيروت وارتكبت مجازر صبرا وشاتيلا وتمترس احتلالها في الجنوب اللبناني، وصعّدت من عمليات الاستيطان الكولونيالي من الهضبة السورية والمناطق الفلسطينية المحتلة، والى حرب الخليج الاولى في العام 1991 الذي عزز اكثر الوجود العسكري الامريكي المباشر في ارض ومياه واجواء منطقة الخليج.
لقد ادى نهج الحلول الانفرادية وعقد رايات الصلح المنفرد الى مواصلة نزيف دم الصراع حتى يومنا هذا، لان هذا النهج جاء لتجاوز قرارات الشرعية الدولية ولاجهاض انجاز السلام العادل. ولعل اتفاقات اوسلو ومحاولة الاستفراد الاسرائيلي- الامريكي بالشعب الفلسطيني اكبر مثل على ذلك.
ولهذا، فبرأينا، ان العبر الاساسية التي يمكن استخلاصها وبعد ثلاثين سنة من حرب اكتوبر، وفي ظل الهجمة الامريكية على المنطقة واحتلال العراق وما يشبه حرب الابادة التي يشنها المحتل الاسرائيلي في المناطق الفلسطينية المحتلة، تؤكد اولا انه لا يمكن بواسطة الحروب والبلطجة العدوانية حل قضايا الصراع المعقدة بواسطة الحسم العسكري، وانه لا يمكن انجاز الامن والاستقرار في المنطقة الا بانجاز السلام العادل والشامل والثابت المبني على احترام الحقوق الشرعية لجميع شعوب وبلدان المنطقة، احترام حق الشعب الفلسطيني بالحرية والاستقلال الوطني، انجاز سلام عادل وشامل وفقًا لقرارات الشرعية الدولية، فهل تستخلص حكومة الاحتلال والجرائم اليمينية العبر الصحيحة.
نقلا عن موقع الجبهة الديمقراطية للسلام والمساواة
http://www.aljabha.org/