في العـام 1936 كتب ( كلاوس مـان )، ابن الكاتب الألماني الشهير ( توماس مـان )، روايـة
بعنوان ( مفيسـتو ). وهي رواية تتحـدث عن حيـاة ممثـل موهوب، عاش إبـان مرحـلة الصعود
النـازي في ألمانيا. وكـان هـذا الممثـل قـد بـدأ حيـاته الفنيـة كعضو في فـرقة فنيـة متواضعــة
في مـدينة صغيرة، وكـان قـد سـاهم في العشرينيات بنشاطات القـوى اليسارية، وتأثـر بهـا ،
وحقـق شـهرته من خـلالها، لا سيما في المسارح العمـالية، والفرق القريبـة مـن الشيوعيين،
فـذاع صيتـه كممثـل مـوهـوب جـدا، ولـم تعـد المدينة الصغيـرة تكفـي لأحـلامـه ومشاريعـه،
لكنه كـان يدرك بأن القـوى اليسارية هي جسره للوصـول الى ضفـة الحـلم الأخرى، فأقترب
منهم أكثر، مستخدما إياهـم لنشر إسمه وتحقيـق الشهرة له، وصار اسمه يتداول في أدبياتهم
وإجتماعاتهم، ثم طلب دعمهـم لـه إذا ما أنتقل الى برليـن، وفعلا إنتقل الى العاصمـة، فتألق
نجمـه في سمائها أكثر، وهناك تـزوج من فنـانة يسـارية، كانت زميلة له، لكن الصراع السياسي
والنزاعات الحزبية داخل معسكر اليسار، وشراسة رأس المال، الى جانب تناقضات سياسية
وطبقيـة أخرى، وتدخل ستالين والأتحاد السوفيتي بعدم التحالف بين الشيوعيين والأشتراكيين
الديمقراطيين جاءت بهتــلر الى سـدة الحـكم.
شـعر بطلنا في البداية بالخوف، فقـد بدأ التنكيل باليسار، وتم إجلاء اليهـود الى معسكرات الموت
والمحارق البشرية، وأختفى معظم الفنانين الذين يعرفهـم، وهاجر الآلاف الى المنفى الإختياري،
بمـا فيهم زوجتـه اليسارية الملتزمة حزبيا والمطـاردة، إلا انه رفض السفر بحجة أنه غير حزبي
وانه لا ينتمي لأي تنظيم أولا، وانه يمكن ان يساعد اليساريين إذا ما بقي في ألمانيا ثانيا، وأنه
يضل الجحيم في وطنه على الجنة في المنفي ثالثا..!
ولم تكن هذه الإدعاءات إلا القناع لوجهه الداخلي، فنزعته الذاتية، وشهوة النجاح وبريق الشهرة،
دفعتـه للمساومة مع السلطة، مبررا لنفسه كل شيء؛ فـارتقى بسرعة فـائقة في عمـله؛ حتى
صار مديرا لمسرح برليـن.!!
لقـد كـان يعرف جيدا مـاذا يفعل، وماذا يريد، لذا كان دائما يفبرك الأفكـار الآيديولوجية لنفسه،
ويفسرها بما يلائم وضعه، ليس ليبرر ما يفعـله فحسب، وانما ليطرح نفسه كمدافع عن القـيم
الإنسانية، منتقدا الآخرين، أصدقـاء الأمس، بأنهم هاجروا الى المنـافي الآمنة بينما هو يواجـه
النظام النازي يوميا، ويشارك الشعب آلامه في ظل الإرهاب والقمع والحرب، حتى أنـه كـان
يتحـدث معبرا عن إستيائه لما يجري، لكن كل ذلك في دائرة صغيرة يعرف جيدا إنها لا تود
هتلر لكنها لا تفصح، وكان هذا الإحتجاج الأنيق جزءا من لعبته المسرحية في الحياة .
إنه لأمـر طبيعي أن يسعى الإنسـان الى تأمين حياته وضمان سلامتها، وانه مما يبعـث على
الفرح والسعادة أن يكون المـرء محبوبا ومعروفـا، لكن أن ينال المـرء حـب الجميـع، ودعم
الجميع، وان ينال رضى كـل الأطراف السياسية، وكل الطبقات الإجتماعية، وكل أصناف
المثقفين والفنانين، فهذا يعني ان على المرء ان يكون مثل الورقة التي تميل مع الريح انى
أجهـت..! أو ان يكون عبقريا في التلون وتقمص الأدوارفي المواقف المختلفة..؛ وبالنسبة له
كان الأمر مقـدورا عليه، فهو أولا وأخيرا ممثل..ممثل ليس أكثر..!!
لقـد كـان صاحبنا واحـدا من أولئك النـاس الذين لا يحاولون الإختلاف مع الآخرين، فقـد
كان يتجنب الإصطدم مع أي شخص، بل وكان يتملـق كل شخص، لأنه كان يريد التجـول
على الجانب المشرق من الحياة فقط، لذا فقد جنـد موهبته الحقيقية في خدمة متعـه الشيطانية.
لقـد كان مهـزوزا من الداخل، خـاو، ضعيف، لا يستطيع ان يواجه الشر الذي يتحكم
بشخصيته..؛ لذا لم تكن صدفة حينمـا اطلق ( كلاوس مـان) عليه أسم ( مفيسـتو )، وهو
إسـم البطل الشيطان في الرواية الشعرية لشاعر ألمانيا الأكبر( غوتـه )، كما وليس صدفة
حينما بنى الأحداث بحيث يقـدم بطلنا شخصية رواية ( غوته ) أعلاه، ويقوم هو نفسه
بتمثيل دور ( مفستوفل ) على مسرح برلين..!!
( مفيستو ) هذا كان يعيش في شك دائم، وغالبا ما كان يحتقر نفسه، لأنه الوحيد الذي كان
يعرف تفاهتها وقذارتها ووضاعتها الأخلاقية، لكن شكوكه وإزدرائه لنفسه، وحنينه النادر
الى الخير، والذي ورثه من رفقته لليساريين، لم يكن من القوة الكافية بحيث تهـزم رغبتـه
الدائمـة والعنيفة الى الشهرة والمجد والأضواء، لذا فقد كان دائما مهيئا لأن يجـد آيديولوجية
تغفر له أخطائه وتبرر إنقلاباته السلوكية.
هـذه الرواية حولها المخرج الهنغاري ( ستيفان سابا ) قبل سنوات الى فيلم سينمائي، شاركت
في إنتاجه دول أوربية عديدة ، وقام بدور(مفيستو) فيه الممثل النمساوي (كلاوس ماريا برانداور)
وصوره الفنان الهنغاري (لايوش كولتاي ). ورغم ان ( سابا ) معروف بانه من رواد سينما
المؤلف، إلا أنه شارك الكاتب (بيتر دوباي) في كتابة السيناريو.
في حينها نفى ( ستيفان سابا ) كون الفيلم يناقش مسالة الفن والسلطة، بل أكد، في لقائاته،
بانه ركز على الشخصيات، وعلى الشخصيات السلبية والرديئة بالتحديد، أو بدقة أكبر،
على الجوانب السيئة لدى العديد من الناس، الذين من أجل أن يحتفظوا بالشهرة والأضواء
والمكانة الأجتماعية، يقترفون الدناءات، ويدفعون الثمن مهما كان غاليا، وبأي طريقة، ومهما
كانت الظروف، مبررين لأنفسهم ما يفعلون، متقمصين دور الضحية والشهيد، متهمين الآخرين
بشتى التهم، بدءا من الجبن، والهروب، وإنتهاءا بالخيانة والإرتماء في احضان الأعداء..!!.
هذه الرواية، ذكرتني بحالة المثقفين العراقيين في هذه الأيام، لا سيما فيما يجري داخل العراق،
بين الصحافيين والأدباء والفنانين الذين غفوا كل هذه السنوات تحت جناح الحزب الواحد،
وسبحوا بحمد القائد الأوحد، وتنعموا بمدائح وجوائز السلطة، وبين هؤلاء الذين غادروا العراق
الى منافيهم الإختيارية.
لا نريد هنا ان نعمم، ولا نميل الى الإطلاق، ولسنا في موضع الحكم ولا في مقام القضاة، فنحن
نعرف العديد من المبدعين العراقيين الذين لم تستطع الدكتاتورية بكل جبروتها أن تلوثهم، رغم
الإغراء والتهديد فكانوا النماذج الحقيقية للمثقف العراقي المبدع، الصبور، والمتوهج فكرا ،
فموفق محمد، وعبد الرحمن طهمازي، ومحمد خضير، ومهدي عيسى الصقر، محمود
عبد الوهاب و مالك المطلبي، الفريد سمعان وسلوى زكو، جليل القيسي، ومحي الدين زنكنة،
فهد الأسدي وصلاح زنكنة، وغيرهم ، كانوا أمل الذاكرة العراقية المغتربة، وبالمقابل ضاعت
نفوس مبدعة في غياهب المنفى، وانطفأت شموع لم تستطع أن تواجه الرياح في ليل المنفي
الطويل !!.
لكننا ونحن نكتب هذه الأسطر تطل علينا من عليائها أرواح زكية لمفكرين وشعراء وادباء
عراقيين رقدت اجسادهم في المنافي أو قبرها ليل الدكتاتورية المقيتة في أرض الوطن،
وهي تناشدنا بأن لا نسكت، وان نحتكم لضمير المثقف الحقيقي الذي، مهما أشتدت منعطفات
المتاهة، فهو يمسك دائما بالخيط الفاصل بين العفو والغفران، وبين الاتهام والعقاب،
وبين التسامح والنسيان، فقد نعفو لكن لن نغفر، ونتهم لكن لن نعاقب، ونسامح لكن لن ننسى.
إن الجواهري وهادي العلوي، البياتي وبلند الحيدري، مصطفى جمال الدين وزاهد محمد،
شريف الربيعي وخالد العراقي، مصطفى عبدالله وعزيز السماوي، قاسم جبارة وأمير الناصري،
كمال السيد وزينب، جعفر علي وقتيبة الشيخ نوري، مهدي المخزومي وإبراهيم السامرائي،
خليل المعاضيدي وحميد ناصر الجيلاوي ،مصطفى عبود وسامي محمد، رشدي العامل ومحمود
جنداري، محمود البريكان ومحمد كريم فتح الله، جان دمو وهاشم الطعان وأرواح زكية أخرى،
كلها تطالبنا بأن لا ننسى.. تطالبنا بان نكشف القناع عن وجه ( مفستوفل)، عن وجه الشيطان
البشع، عن وجه المثقف الأنتهازي، والوصولي، الذي كان يسبح باسم الحزب القائد، والقائد
الضرورة، بينما يلعب اليوم دور الضحية، بل ويرفع عقيرته بالصياح مسبحا باسم السادة الجدد،
من الأمريكيين والعراقيين، منتهزا الفوضى السياسية، وحاجة الأحزاب الى الأتباع، وحاجة
الفضائيات العربية الى محللين سياسيين، لكن على وزن طبالين ومداحين وشتامين وابناء طوائف.
يجب ان لا ننسى...وإلا سيضيع العراق ثانية..وعندها سيواصل المنفي منفاه، ومن عاد أو هو
هناك اصل وصرخ، عند سقوط الأصنام، باعلى صوته ضد القتلة، فلربما سيقتل بطريقة اخرى.!!
يجب ان لا ننسى الشهداء، وأن لا ننسى المقابر الجماعية..لا ننسى الأنفال وحلبجة..!
يجب أن لا ننسى المسامير التي ثقبت جمجمة الأمام الصدر.. ولا كاتمات الصوت التي كانت تلاحق
المثقفين العراقيين المعارضين في دروب المنفى.!
لستُ متشائما.. لكنني أخاف منك يامفستوفل..أيها القنــاع !!
ألمانيا - تشرين الثاني 2003