مقدمة:
في الفترة ما بين 1 إلى 6 سبتمبر 2003، انعقد المخيم السنوي المناهض للإمبريالية ( The Anti- Imperialist Camp) في مدينة اسيزي الإيطالية، وقد وجهت هذه الرسالة أساسا إلى المنظمات والنشطاء المناهضين للإمبريالية الذين شاركوا في هذا المخيم، لكن الأصدقاء الأسبان في لجنة التضامن مع القضية العربية، لفتوا نظرنا إلى بعض الاختراقات التي تتم في حركة مناهضة العولمة من قبل منظمات "إسرائيلية" تحمل نفس العنوان، وتعمل في المحصلة النهائية على جمع "الأطراف" العربية والعالمية مع "الإسرائيليين"، وهذا عمليا فعل تطبيعي يقوم بترسيخ الصهيونية والعولمة ... فكان هذا المقال بشكله النهائي حيث نشر بالإنجليزية والأسبانية وتعتبر صيغته العربية هذه مطورة إلى حد ما عن الأصل خصوصا فيما يتعلق بالإضافات في الهامش.
تحولت الحركة العالمية المناهضة للعولمة إلى "لاعب" مهم من اجل مصلحة الشعوب في الفترة التي تلت انهيار الاتحاد السوفيتي والكتلة الاشتراكية، ذلك الانهيار الذي سحب معه كذبة دولة "الرفاه" الرأسمالية وديمقراطيتها ولبراليتها المزورة(1).
منذ ذلك الحين ، تسارع "النمط" العدواني للرأسمالية بشكل مذهل، وأصبح واضحا للجميع أن الطريقة الوحيدة التي ستمكنها من تحقيق أهدافها المتمثلة ب "الربح" الذي يصب في جيوب "النخبة المختارة" من مدراء ومالكي الشركات المتعدية للحدود، هي سحق ليس فقط المقاومة الشعبية المادية والمنظمة، بل حتى الأحلام والآمال بتغيير هذا العالم إلى الأفضل(2). إن العقائد "الجديدة" للإمبريالية بعد هجمات 11 سبتمبر على البنتاغون ومركز التجارة العالمي: "الحرب الوقائية" و"الحرب الدائمة" و"التدخل الثقافي"، هي أمثلة قليلة لما ينتظرنا في المستقبل.
وبين " نقاط ساخنة " كثيرة في العالم، فان الوطن العربي وصراعه ضد الإمبريالية يشكل نموذجا بارزا لاستقاء العبر وتجذير المواجهة. فلم تكتف الإمبريالية بمصادرة قطعة منه لإنشاء قاعدة أمامية متعددة الأغراض اسمها "إسرائيل" في قلب ارض الحضارات والنفط، بل انتقلت مباشرة لاحتلال العراق، مطلقة عهدا من النيوكولونيالية المباشرة بعد العدوان على أفغانستان(3).
الآن تناقش الولايات المتحدة مع "شركائها" ما سماه كولن باول سابقا (قبل العدوان على العراق): "إعادة تشكيل المنطقة" لتتوافق مع المصالح الأمريكية. ففي الدورة الاستثنائية للمنتدى الاقتصادي العالمي (قمة المصالحة العالمية، 21-23/6/2003) والمنعقدة في البحر الميت/الأردن، وبمشاركة بول بريمر حاكم العراق المعين من قبل الاحتلال(4)، تمت مناقشة نظرية لدبليو بوش حول تحويل الشرق العربي إلى "منطقة حرة أمريكية/شرق أوسطية" من قبل الشركات المتعدية الحدود والدول الإمبريالية والخاضعة على حد سواء(5).
طبعا سيكون الكيان الصهيوني هو "المركز الرأسمالي" في هذه المعادلة الجديدة، بصفته بؤرة إقليمية لتراكم "الاستثمار" وبتحوله إلى منفذ سلعي "تسويقي" والى متعاقد عمال استغلالي للكتل الاجتماعية العربية في محيطه. وكمثال قائم فعليا، تقوم شركة دلتا جليل (Delta Galil)، إحدى اكبر الشركات في مجال المحيكات في الكيان الصهيوني، بتنفيذ تعاقدات تصنيعية لماركات عالمية مثل غاب (Gap)، فيكتورياز سيكريت، بوس (Boss)، رالف لورين وغيرها(6)، من خلال استغلال العمالة النسوية الأردنية مقابل 80 دينار أردني شهريا (ما يعادل 112 دولار). هذه المنتجات يتم تصنيعها في المناطق الصناعية المؤهلة، وهي مناطق حرة خاصة يمكن من خلالها أن تقوم بالتصدير إلى الأسواق الأمريكية بدون جمارك وبدون التزام بالحصص، ولكن بشرط واحد: ان تكون 8-20% من مدخلات الإنتاج كحد أدنى من منشأ "إسرائيلي"(7).
هذه هي "صفقة" المنطقة العربية التي ستتحول إلى النموذج الأساسي لميكانزمات العولمة بعد تجربة الأرجنتين، خاصة إذا نجح الصهاينة والأمريكان بإعادة فتح خط نفط كركوك – حيفا(8).
من المهم جدا في هذه اللحظات من التاريخ، أن يتم تبني موقف مباشر وحاسم من الإمبريالية، وخاصة فيما يتعلق بالكيان الصهيوني: لا يوجد هناك أي خيار سوى مقاومة الإمبريالية بمقاربات أممية، فيتم تشكيل تضامن سياسي فاعل بدلا من توزيع الشفقة الإنسانية(9). ومن الضروري أيضا بلورة موقف من المشروع الإمبريالي/الصهيوني في المنطقة العربية، حيث يجب دعم المقاومة الهادفة إلى إزالة الاحتلال الأمريكي للعراق بكل الوسائل، ونفس الشيء ينطبق على النضال ضد الكيان الصهيوني إلى أن تتم هزيمة المشروع الصهيوني وتصفية كيانه واقامة فلسطين حرة عربية كخطوة أولى نحو توحيد الوطن العربي وتحوله نحو التنمية المستقلة والاشتراكية، لا يوجد أي حلول جذرية أخرى للقضية العربية بخلاف هذه.
على رفاقنا "الدوليين" أن يعوا أن أنصاف الحلول ستقوي البنى الإمبريالية/الصهيونية وآلياتها. إن حل "الدولتين" أو "الدولة الثنائية القومية" أو حتى " الدولة الديمقراطية الواحدة" خارج البعد العربي، لن تتمكن من إزالة التناقض بين الجماهير العربية والمشروع الصهيوني/الإمبريالي في المنطقة العربية.
مسألة أخرى يجب على الحركة العالمية أن تحسمها وتتخذ منها موقفا حازما: لا يوجد هناك "إسرائيليين تقدميين". إن أي شخص يكون جزءا من المشروع الإمبريالي/الصهيوني، حتى ولو كان "يعارض" السياسات الصهيونية، هو جزء من بنية "إسرائيل" وميكانزماتها، سواء علم بذلك أم لم يعلم. لا يمكن أن يكون شخص ما تقدميا وبنفس الوقت جزء من الكيان/ المشروع الصهيوني. إن "الإسرائيلي" التقدمي الوحيد هو ذلك الذي -بناءا على فهمه لوظيفة وميكانزمات المشروع/الكيان الصهيوني- يقرر قطع كل العلاقات مع هذا الكيان، ويقاومه، وقبل كل شيء، يغادر البُقعة المحتلة التي يسكن عليها بدلا من شعب مطرود.
على الحركة أن تعي هذه المسألة وعليها أن لا تقع في فخ "المنظمات غير الحكومية" (NOGs) القاضي بجمع "كافة الأطراف للجلوس والتحدث بعضهم مع الآخر"، وكأن المسألة الأساسية: مسألة وجود "إسرائيل"، هي مسألة محسومة. "إسرائيل" دولة غير شرعية، وهذا الوصف ينطبق على المنظمات والأفراد الذين يمثلونها أو يعترفون بها. لهذا، وللتأكيد على عدم الشرعية هذا، يجب إلغاء جميع الروابط والعلاقات مع "الإسرائيليين"، بعبارة أخرى: التطبيع مع الصهاينة يجب مقاومته عالميا وليس فقط في الوطن العربي.
لقد حان الوقت لأن تتبنى الحركة العالمية لمناهضة العولمة تحليلا اكثر جذرية بدلا من التمسك بمنطق "نمطي" تشجعه الإمبريالية. لا يوجد هناك خيار سوى تصفية المشروع الإمبريالي/الصهيوني، خلاف ذلك، ستكون عملية المواجهة "المفترضة" هي مجرد حالة بطيئة من استهلاك الذات، بينما يقوى العدو اكثر فأكثر. يجب أن يكون معلوما أن مقاومة "إسرائيل" تعني مقاومة العولمة، والعكس صحيح: لتناهض العولمة يجب أن تقاوم إسرائيل، ليس على مستوى السياسات، بل على مستوى الوظيفة والميكانزمات: أي على مستوى الوجود.
(1) أناقش دائما أن 11 سبتمبر لا يمثل انقلابا في التاريخ، بل حدثا فارقا فيه، فالإمبريالية الأمريكية (وبالتطور الموضوعي) كان لابد لها أن تصل إلى هذه الدرجة من الصفاقة والوحشية إن عاجلا أم آجلا، لكن 11 سبتمبر كان بمثابة "المسرع" الذي وفر على شعوب الأرض سنوات قد تطول أو تقصر لاستيعاب تناقضها مع الإمبريالية، إن ما قد اعتبره انقلابا مهما في التاريخ هو انهيار المنظومة الاشتراكية، أو بشكل اصح: اختفائها عن الوجود والتأثير السياسي الدولي، وهو ما شكل فاتحة للعصر الهمجي الإمبريالي.
(2) مثال ذلك الواضح هو الاهتمام الأمريكي الشديد بالمناهج التعليمية، وصرفها الملايين لإنشاء وسائل إعلام "شعبية" للتأثير على الشباب مثل إذاعة "سوا" المعروفة، ومجلة "هاي"، وكلتاهما تخرجان بإشراف رسمي أمريكي، إضافة إلى أسلوبها القديم المتمثل بشراء المثقفين عن طريق التمويل والندوات والمؤتمرات والبعثات ورحلات التعرف على "الديمقراطية" الأمريكية.
(3) تشكل حالة العراق لا أفغانستان فاتحة العهد النيوكولونيالي. ففي مسألة أفغانستان، تم التدخل بغطاء (لنقل " بقناع" افضل!) دولي واستنادا إلى "الشرعية الدولية" (المتشكلة طبعا بحسب الإرادة الأمريكية) واعتمادا على حالة "اللاحسم" (أي عدم استقرار نظام الحكم) الداخلي الأفغاني مع وجود مناطق نفوذ على الأرض للمعارضة الشمالية واستمرار القتال. في العراق تمت الإطاحة بنظام حكم مستقر، بدون قناع دولي وبخروج سافر على "الشرعية الدولية" المفصلة أصلا على مقاس الأمريكان. وتقول الولايات المتحدة عن نفسها الآن أنها " سلطة احتلال" وهو التعريف الرسمي لها في أروقة الأمم المتحدة.
(4) تعتبر هذه هي المشاركة "الدولية " الأولى لرجل الاحتلال الأول في العراق، وهي تكتسب أبعادا خطيرة عندما يتم ذلك الفتح من خلال المنتدى الاقتصادي العالمي (مطبخ الدول الإمبريالية مع الشركات المتعدية الحدود)، وفي الأردن (الدولة الواقعة على الخط الواصل بين الاحتلالين)، وبمشاركة "الإسرائيليين".
(5) لمزيد من التفاصيل ، اقرأ مقالي المعنون ب "دافوس الأردن: إسرائيل كمحور لمنطقة حرة أمريكية متوسطية" المنشور في الحوار المتمدن على الرابط http://www.rezgar.com/debat/show.art.asp?aid=8146
(6) للتفاصيل انظر : http://www.inminds.co.uk/boycott-delta-galil.html
(7) للاطلاع على اتفاقية المناطق الصناعية المؤهلة، اذهب الى:
http://www.agreements.jedco.gov.jo/qiz.html#agreement
(8) يمثل افتتاح هذا الخط إضافة نوعية إلى إسرائيل من الناحية الوظيفية، بحيث تصبح "ممرا نفطيا" وتكون المنفذ الوحيد للنفط الخليجي على البحر المتوسط، فتتعاظم بذلك أهميتها الاستراتيجية أضعافا مضاعفة، وسيشكل ذلك عاملا إضافيا للتمركز الرأسمالي المتعدي للحدود فيها وتعزيز "التفوق العسكري" لحماية الممر والمنفذ والرأسمال.
(9) يدور جدل كبير عالميا، على غرار الجدل الدائر عربيا حول التمويل الأجنبي المشبوه، بحيث ترفض العديد من الجهات المتضامنة مع القضايا العربية و/أو المناهضة للعولمة أي تمويل رسمي أو حكومي أو "مؤسسي"، وتعتبره اختراقا لعملها، كما ترفض العديد من الجهات أن تصف نفسها بأنها "منظمة غير حكومية" (NGO) وتشدد على أنها منظمات للتضامن السياسي لا للتنفيس الاجتماعي والإنساني (مثال ذلك لجنة التضامن مع القضية العربية في إسبانيا (www.nodo50.or/csca .