محمد بن سعيد الفطيسي
الحوار المتمدن-العدد: 2001 - 2007 / 8 / 8 - 06:20
المحور:
العولمة وتطورات العالم المعاصر
إن للأمم دورات حياتية تشبه كثيرا دورة الطبيعة للكائنات الحية , فهي تولد من بذور أفكار أبناءها , ومعتقدات عظماءها وطموح قادتها وزعماءها – أي - أولئك الذين يصنعون الحياة لها وبها , ويبنون الآمال والأحلام من خلالها , فيروونها بأنفاسهم ودماءهم وأفكارهم , حتى تكبر وتنهض على أقدامها , لتمتد كدورة الكائن البشري ما بين قوة وشموخ ووهن وضعف وتململ , وذلك حتى ساعة الانهيار والسقوط , أو الاختفاء وراء ستار المجهول و جدران النسيان , مع فرق بسيط جدا , ولكنه جذري وحاسم , آلا وهو أن لبعض تلك الأمم القدرة على ضخ دماء الحياة من جديد إلى شرايينها الميتة , وإعادة الأنفاس إلى رئة خنقتها التحولات الحتمية والتقلبات التاريخية في مسيرة الصراع الأزلي بين الأمم , فتعود من جديد بفضل الشرفاء من أبناءها إلى الواجهة , لتصنع لها مكان آخر بين أطياف الأمم الحاضرة , ولتختار مكانها بنفسها في هذا المرحلة الجديدة , فإما أن تميز نفسها كأمة حقيقية تدرك مكانتها التاريخية السابقة , وحاضرها المأمول ودورها الجيواستراتيجي الذي تطمح إلى تحقيقه في المستقبل, فتسعى بذلك لترسيخ جذورها في الأعماق , وإما أن ترضى بان تظل امة وليدة أو مستولدة أو هجينة , ينتظر تلاشي دورها مع الأيام , ومن ثم موتها التدريجي فانهيارها الأبدي , لتبقى مجرد ذكريات تستذكر بين الحين و الآخر , وربما تنسى إلى الأبد 0
وهكذا تعيش الأمم في حياتها , حتمية الأزل الذي لا يؤمن بالخلود الجسدي والأبدية المكانية , ما بين ولادة وموت , وصعود وسقوط , وذلك بحسب نوعية الأفكار التي نهضت من خلالها , والمعتقدات التي تبنتها , والعقول التي أرست قواعدها وأسست بنيانها , ونهضت بها من العدم إلى الوجود , ومن الوجود إلى الخلود , هذا من جهة , أما من جهة أخرى فهناك عامل آخر تعتمد عليه الأمم كأساس لتجديد دورتها التاريخية , أو لتقوية مكانتها الأممية ودورها الاستراتيجي , أو لإعادة بناءها أو ولادتها بعد حتمية الموت والفناء , آلا وهو نوع البذور والجذور التي ستتركها للجيل القادم , ونوعية الأرض التي حرثتها وغرستها فيها , أهي خصبة وقابلة للحياة مرة أخرى , أم هي متشبعة بالأعشاب السامة والطفيليات الوبائية , حينها فقط سندرك نوعية الجيل الذي ستنتجه تلك الأفكار والمعتقدات , اهو مجرد نبات ظل لا تصلح إلى للزينة والاستغلال , أم جيل سندياني يستطيع تحمل المكوث تحت وهج الشمس الحارق لمدة زمنية طويلة , ويقدر على تحمل متغيرات الزمن وتقلباته التاريخية والحتمية , وله القدرة على التخلق من جديد 0
يبقى فقط أن التنبؤ بسقوط الأمم وصعودها بشكل محسوب ودقيق صعب للغاية , ولكنه غير مستحيل , وذلك وفق بعض المعطيات التي سلف وذكرناها , وهنا لا نؤكد أن لأحد القدرة على المعرفة الجازمة بفترة معينة لذلك , ولكن من خلال القدرة على استشراف المستقبل الممكن والمتوقع , ووفق بعض الأسس المدروسة والمتعارف عليها في هذا النوع من نظريات انهيار الأمم وفناءها , ومن ابرز تلك الأمثلة الحاضرة على ذلك النوع الذي عايش التحولات التاريخية للأمم والشعوب من خلال تلك النظرية التاريخية لسقوط الأمم وصعودها , هو الإمبراطورية الروسية , وقد اخترناها هنا بسبب تكرار نموذجها التاريخي إلى يومنا هذا , كقوة إستراتيجية نوعية لها مكانتها وقوتها وهيمنتها التي امتدت لأكثر من خمسة قرون , وذلك تحت عدة بذور وفروع , كان أخرها الاتحاد السوفيتي , أو الامتداد التاريخي الأخير للإمبراطورية الروسية التي كانت نقطة بدايتها العام 1480 م , وذلك بإعلان ايفان الثالث أمير دوقية موسكو التمرد على حكم التتر, الذين كانت جحافلهم قد انطلقت من صحراء جوبي , قبل ذلك التاريخ بأكثر من قرنين ونصف , ولتؤسس الإمبراطورية الروسية من خلال تكوين ما عرف في التاريخ بعملية " تجميع الأراضي الروسية "0
حيث امتد نفوذها الجيواستراتيجي بعيدا نحو البحار المفتوحة , ودامت قوتها بشكل أوحى للجميع بأنها قوة لا نهاية لها , ولكن ظهرت الحقيقة الحتمية مع أواسط القرن التاسع عشر , حيث أخذت التناقضات الخارجية بين مصالح الإمبراطورية الروسية والإمبراطوريات الأخرى كالإمبراطورية العثمانية والألمانية والفرنسية والصينية واليابانية على سبيل المثال لا الحصر تنمو وتتزايد على نحو مطرد , مما اضطرها إلى الدخول معها في حروب خاسرة استنزفت جل طاقتها ومدخراتها وثرواتها البشرية والمادية , كحرب القرم في عام 1856 م , والحرب الروسية اليابانية عام 1904م , والتي أدت بدورها إلى انهيارها بشكل تدريجي , هذا بالإضافة إلى التناقضات الداخلية التي ساهمت بشكل كبير في انهيارها , كنظام الحكم البوليسي الاستبدادي والعلاقات الاجتماعية المتخلفة , وجاءت النهاية مع الحرب العالمية الأولى , بتفجر الثورة البلشفية في عام 1917 م , و التي أسقطت القيصر , وأعلنت قيام الوريث الجديد – أي – جمهورية روسيا السوفيتية الاشتراكية , والتي عرفت بعد ذلك بالاتحاد السوفيتي 0
ومنذ ذلك التاريخ والاتحاد السوفيتي هو احد ابرز اللاعبين المؤثرين في بناء التاريخ السياسي الحديث , والذي نظر إليه الجميع على انه القوة القادمة لمعادلة القوى الوليدة , وعلى رأسها الإمبراطورية الاميريكة الحديثة , وبالفعل فقد اثبت المارد الروسي قدرة لا يستهان بها في ذلك الشأن , ولكنه كغيره من الإمبراطوريات لم يستطع تجاوز عقدة الهيمنة والسيطرة , وحب التوسع والاحتلال وتعميق قبضته الحديدية وعرض عضلاته على العالم , فمنذ قيامه على أنقاض الإمبراطورية الروسية الاستعمارية بتاريخ 30 / ديسمبر / 1922 م , وهو يعيش تلك الأهداف الامبريالية كغيره من الإمبراطوريات , ففي الشمال احتل فنلندا واستونيا ولاتفيا وليتوانيا , كما احتلت في الجنوب الممالك الإسلامية ومناطق شاسعة من منغوليا , كما عاد للتوسع بعد الحرب العالمية الثانية ليحتل عدد آخر من الدول وليستعمر شعوبها , كمولدافيا وكاريليا , ( وبذلك أصبح عدد الجمهوريات التي تشكل الاتحاد السوفيتي 16 جمهورية معظمها تضم شعوبا ليس لها علاقة عرقية أو لغوية بروسيا 000 – إلا أن الاتحاد السوفيتي – لم يكن يستطيع اتخاذ المزيد من الخطوات للتوسع بسبب خوفه من الردع النووي الذي تملكه الولايات المتحدة الاميريكة , وجاءت المفاجأة الكبرى أن دولة بمثل هذه الإمكانيات الهائلة تنهار في أسابيع قلائل وتختفي السلطة المركزية فيها ) 0
وهكذا انهار الاتحاد السوفيتي , وأعلن سقوطه بشكل رسمي في 31 / كانون الأول من العام 1991 م , ونلاحظ هنا أن هناك نفس العوامل التاريخية المشتركة التي تجمع جميع الأمم والإمبراطوريات وتسرع من انهيارها , وعلى رأسها القمع والظلم وسياسة التجويع والتركيع والاستبداد , والتفسخ الأخلاقي والانحلال الاجتماعي , وسوء استغلالها لقوتها العسكرية والسياسية , وبالطبع فإننا لا يمكن أن نتجاهل الدور الاميريكي في ذلك , فقد كان للولايات المتحدة الاميريكة دور كبير في جر الاتحاد السوفيتي إلى الوحل الأفغاني , وهذا ما يثبته لنا التاريخ , فعندما سئل بريجينيسكي عما إذا كان نادما على فعلته أجاب : - أندم على ماذا؟ على فكرة رائعة كفلت استجلاب الدب الروسي إلى المستنقع الأفغاني , وتريدني أن اندم ؟! ففي اليوم الذي اجتاح فيه الجيش السوفيتي الحدود الأفغانية أبرقت إلى الرئيس كارتر قائلا : - ألان لدينا فرصة إهداء الاتحاد السوفيتي فيتنامه الخاصة , وبالفعل فقد تكبدت موسكو طوال عشر سنوات عناء حرب لا طاقة لها على احتمالها , فتداعيت معنويات جيشها في البدء , ثم انهارت الإمبـــراطورية السـوفيتية بـرمتها بعد ذلك 0
ومنذ ذلك التاريخ وحتى مطلع القرن الحادي والعشرون وروسيا تنتظر اشتعال الرماد من جديد , وبالفعل فقد جاء ذلك سريعا – بحسب تصور العديد من الباحثين والمراقبين السياسيين الدوليين – وها هي روسيا الحديثة , تعود إلى الواجهة كامتداد لابد أن يحسب له ألف حساب , وقوة عظمى لا يمكن تغافلها مطلقا خلال السنوات القادمة , وقد برز ذلك من خلال العديد من الإرهاصات والمعطيات السياسية والعسكرية والاقتصادية والاجتماعية , فعلى سبيل المثال لا الحصر نشير إلى الردة الفعل الروسية تجاه الصواريخ الدفاعية التي نشرتها الولايات المتحدة الاميريكة في أوربا , والتي كان لها اثر بالغ في توتير العلاقة ما بين الإمبراطوريتان , في وقت تصور فيه الجميع بان روسيا ستظل صامته حيال ذلك , كون الظاهر في الأمر يغلب عليه التبعية الروسية للمارد الاميريكي , وفي هذا السياق يقول :- فياشسلاف نيكونوف، وهو اختصاصي في العلوم السياسية ومستشار دائم لدى الكرملين، متحدثا عن إعادة النظر في السياسات بعد الثورات الملونة بان أوهام بوتين قد تبددت عن أمريكا , فمهما بلغ حجم الدعم الروسي للولايات المتحدة ، كانت واشنطن وستظل على الموقف العدائي نفسه لروسيا , ومنذ ذلك الوقت ، تزايدت المخاوف من التطويق الغربي مع فتح حلف شمال الأطلسي (ناتو) أبوابه أمام عضوية جورجيا وأوكرانيا، وسعيه إلى وضع درع دفاعي مضاد للصواريخ في بولندا وجمهورية التشيك 0
كما يأتي تعليق الحكومة الروسية بتاريخ 1 / يوليو / 2007 م , لمعاهدة الحد من انتشار القوات التقليدية في أوربا أمر أخر , حيث يعتبر في حد ذاته تمرد غير متوقع من قبل الإمبراطورية الروسية , ونموذج مستحدث لسياسة استثنائية قادمة تواكب التغيرات التي حدثت على الصعيد الدولي بشكل عام , وتجاه الإمبراطورية الاميريكة على وجه الخصوص , ووصف بيان أصدره الكرملين الأسباب التي دعت لاتخاذ هذه الخطوة بـ"ظروف غير عادية ... تهدد أمن الاتحاد الروسي وتستوجب إجراءات فورية تجاهه , في وقت أضاف فيه الزعيم الروسي الأخير للاتحاد السوفيتي جورباتشوف , والذي وقع هذه المعاهدة باسم الاتحاد السوفييتي عام 1990 في تصريح له قائلا :إنه من غير المفهوم أن تبقى روسيا البلد الوحيد الذي ينفذ هذه المعاهدة بينما لم تقم الأطراف الأخرى بمجرد التوقيع عليها مؤكداً أن معاهدة القوات التقليدية في أوروبا كانت معاهدة مهمة جدا للقارة الأوربية ولذلك فانه وقعها في حينه , وأوضح جورباتشوف انه مما يزيد من حدة المسألة الإصرار على نشر عناصر للدرع الصاروخية الأمريكية في أوروبا الشرقية وهذا ما ينتقص من حقوق روسيا مؤكدا أن قرار الرئيس بوتين مبرر تماما وهو ليس قرار انفعاليا , مما يؤكد بان هناك صحوة روسية شعبية وقيادية , تهدف إلى ترسيخ مكانة هذه الإمبراطورية , وإعادة مكانتها وهيبتها التي افتقدتها بسقوط الاتحاد السوفيتي من جديد 0
هذا بالإضافة إلى انتعاش الاقتصاد الروسي بفعل ارتفاع أسعار النفط , والذي أدى بدوره إلى دوران عجلة التنمية والاقتصاد الروسي بشكل سريع وقوي , الأمر الذي جعلها تلحق بأقوى الاقتصاديات الأسيوية , وهو الاقتصاد الصيني بفارق بعض النقاط , وهو ما أكدته اسوشيت برس عن بيان لوكالة الإحصاء الروسية , وأخيرا وليس آخر القوة العسكرية الروسية المتنامية وعلى مختلف الأصعدة والمجالات , ونمو التعليم وتطوره بشكل غير مسبوق , وغيره الكثير من تلك الدلائل التي تشير إلى عودة الدب الروسي كقوة عظمى مرة أخرى , وهو ما يؤكد نظرتنا التاريخية تجاه تلك التحولات التي تطرأ على حياة الأمم والشعوب , والتي نستخلصها في إمكانية العودة بعد الموت التاريخي والتراجع الحضاري والضعف السياسي والاقتصادي , بشرط أن تتوفر في ذلك شروط النهوض والصعود سالفة الذكر0
[email protected]
محمد بن سعيد الفطيسي
كاتب وباحث في الشؤون السياسية والعلاقات الدولية
سلطنة عمان
#محمد_بن_سعيد_الفطيسي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟