|
تموز العراقي أمريكياً: قتلى أقل، نيرانٌ معاديةٌ أكثر!
عبد الرحيم الوالي
الحوار المتمدن-العدد: 2001 - 2007 / 8 / 8 - 05:27
المحور:
الارهاب, الحرب والسلام
في الأيام الأخيرة تناقلت وسائل إعلام عديدة خبراً يقول بأن الخسائر البشرية للجيش الأمريكي في العراق، خلال الشهر الماضي، لم تتخط حاجز المائة قتيل. و معنى ذلك أنه خلال شهر يوليوز/تموز المنصرم قُتل في العراق أقل من مائة جندي أمريكي حيث تراوحت الحصيلة التي أقر بها الجيش الأمريكي بين 76 قتيلاً و 82. هذا الخبر، الذي قُدِّمَ على أنه "تقدم" من طرف بعض الجهات، تزامن مع خبر آخر حيث أعلن الجيش الأمريكي عن اختفاء 190 ألف قطعة سلاح كانت قد سُلِّمَتْ للأمن العراقي. سقوط ما بين 76 و 82 قتيلا خلال شهر واحد، في صفوف أي جيش في العالم، معناه أن الجيش المذكور لا يحقق نجاحات بقدر ما هو يتلقى خسائر. و في الصيف الماضي رأينا كيف تراجع الجيش الإسرائيلي أمام مقاتلي حزب الله بعد أن سقط عشرات من جنوده في كل محاولات الاختراق التي قام بها برا في جنوب لبنان. و لو كان سقوط عشرات القتلى إنجازا من الناحية العسكرية لما تراجع الجيش الإسرائيلي. كان بإمكان الجيش الإسرائيلي ، بعد عشرات القتلى و المعطوبين في صفوفه، أن يتراجع نحو أرض يتحكم فيها فتراجع بالفعل. فجبهة القتال كانت واضحة و الأرض التي يمكن التراجع إليها واضحة أيضا. أما في حالة الجيش الأمريكي في العراق فليست هناك أرض يتحكم فيها داخل العراق إذا ما استثنينا المنطقة الخضراء و التي تتعرض بدورها للقصف. و ليست هناك جبهة قتال واضحة لأنه يواجه حرب عصابات تقوم بها مجموعات كثيرة و متفرقة و بأساليب و وسائل هجومية مختلفة. و خلافا للجيش الإسرائيلي الذي كان بإمكانه التراجع نحو أرض يقيم عليها إسرائيليون فالجيش الأمريكي ليس بإمكانه، في العراق، أن يتراجع نحو أراض أمريكية. و معنى ذلك أن عليه الاستمرار في القتال وسط مجتمع لا ينتمي إليه في شيء، في الوقت الذي تنتمي فيه المجموعات المسلحة إلى المجتمع العراقي و يجد فيه حتى المقاتلون القادمون من خارج العراق وشائج و روابط الدين و اللغة قائمةً مع السكان المحليين. معنى هذا أن الوازع المجتمعي، في كل أبعاده السوسيولوجية و الثقافية و العلائقية، يبقى لفائدة المجموعات المسلحة على اختلاف دوافعها و توجهاتها داخل العراق. و في غفلة من الجيش الأمريكي، الذي يعلن عن سقوط 76 أو 82 قتيلا في صفوفه خلال شهر واحد و يقدم ذلك على أنه "إنجاز"، تفعل العوامل المجتمعية فعلها و تُنسَج علاقات، و تتحقق اختراقات كبيرة، تؤدي إلى اختفاء 190 ألف قطعة سلاح كان قد تسلمها الأمن العراقي. و مرة أخرى يكون الجيش الأمريكي نفسه هو من يعلن عن ذلك. إذا كنت تملك 190 ألف قطعة من السلاح، و الذخيرة اللازمة، فمعنى ذلك أنك تستطيع تعبئة 190 ألف مسلح من الناحية النظرية. و حتى إذا ما قلصنا العدد إلى النصف، اعتمادا على مبدإ عدم إهدار الذخيرة و السلاح، فسنصبح أمام إمكانية تجنيد 95 ألف مسلح بغض النظر عن الجهة التي استولت على الأسلحة. و هذا يعني ازديادا في العمليات المسلحة و في أعداد المسلحين مستقبلاً في العراق، أي مزيدا من القتلى في صفوف العراقيين و الجيش الأمريكي بالعراق على حد سواء. و من المؤكد أن الجيش الأمريكي لن يبقى فقط شهرا واحدا في العراق، كما أن حصيلة شهر واحد ضمن سنوات، من حيث الخسائر البشرية، تبقى حالة نادرة و "النادر لا حكم له و لا يقاس عليه". اختفاء هذه الكمية الكبيرة من الأسلحة يعني أيضا أن الأمن العراقي عاجز حتى عن تأمين أسلحته و أنه جهاز مخترق من طرف جهات عديدة داخل العراق، و ربما خارجه. و ذلك في الوقت الذي يعلن فيه رئيس الوزراء العراقي عن استعداد حكومته لتسلم الملف الأمني قبل أن يظهر أن الأمن العراقي في حاجة إلى مَنْ يحرس أسلحته. ف 190 ألف قطعة من السلاح ليست قنينة عطر يمكن أن يخفيها المرء تحت قميصه و يتسلل دون أن يراه أحد. 190 ألف قطعة من السلاح معناها صناديق من الأسلحة مرصوصة داخل حاويات و يحتاج نقلها إلى شاحنات و إمكانيات آلية و بشرية لا يستهان بها. و رغم ضخامتها فكل هذه الكمية سُرِقَت من الأمن العراقي بعد أن كان قد تسلمها من الأمريكيين أنفسهم. نقل كل هذه الكمية من الأسلحة الأمريكية داخل التراب العراقي، و من مخازن الأمن العراقي فوق ذلك، يعني أن لا أحد يتحكم في الأرض سواء تعلق الأمر بالجيش الأمريكي أو بالجيش العراقي الجديد و الأمن العراقي الجديد. فأن تتحرك كل هذه الكمية من الأسلحة على الأرض يعني، ببساطة، أنه ليست هناك نقط تفتيش فعالة على الطرق سواء داخل المدن أو خارجها، و ليس هناك عمل استخباري جيد، أي باختصار، ليست هناك سيطرة على الأرض. و هذا أمر يؤكده ارتفاع وتيرة قصف الطيران الأمريكي لمناطق عديدة في العراق. فاستعمال سلاح الجو لقصف أراضٍ ما يعني، تلقائيا، أنها أراضٍ يسيطر عليها العدو. و نحن حتى الآن لم نسمع عن جيش يقصف أرضا يسيطر عليها و يوجد عليها جنوده. لم يقل الجيش الأمريكي شيئا عن نوعية الأسلحة التي اختفت و لا أين يُحتمَلُ أن تكون قد ذهبت. لكنْ، و بما أنها أسلحة كانت مسلمة للأمن العراقي، فالافتراض هو أن تتكون أساسا من مسدسات و مسدسات رشاشة و بنادق اقتحامية و قنابل يدوية و بعض أنواع القاذفات الصغيرة. و بحكم كونها أسلحة خفيفة فهي، بالضبط، ما تحتاجه المجموعات المسلحة لتنفيذ عمليات خاطفة سواء ضد الجيش الأمريكي أو الجيش و الشرطة العراقيين أو المدنيين المستهدفين من ناشطين سياسيين و غيرهم. و بما أن الحاجة إليها قائمة داخل العراق فمن المستبعد أن تكون قد غادرته إلى دولة أخرى. لم يقل الجيش الأمريكي شيئا أيضا عن المدة التي اختفت خلالها الأسلحة و هل اختفت دفعة واحدة أم بالتدريج. و اختفاؤها تدريجيا أدهى من اختفائها دفعة واحدة لأنه يعني أن هناك حالة من السبات العميق، أو التغاضي، أو حتى التواطؤ. إن بلدا تسرب فيه كل هذه الكمية من الأسلحة هو بلد مرشح لمزيد من العنف و انعدام الأمن. و بصرف النظر عن الجهة التي استولت على الأسلحة المذكورة فالأكيد أن قسماً منها سوف يستعمل في عمليات ضد الجيش الأمريكي في العراق و سيسقط قتلى أمريكيون بأسلحة أمريكية الصنع. فالجيش الأمريكي، في يوليوز/تموز الماضي، حقق عددا أقل من القتلى في صفوفه لكنه، بالمقابل، و أمام كمية السلاح التي تسربت، يجد نفسه أمام نيران معادية أكثر. و تصبح مهمته أكثر تعقيدا حين لا تكون أمامه جبهة قتال واضحة يواجه عليها جيشا نظاميا يقاتل بطريقة نظامية، بل هو يواجه حرب عصابات في زوايا الأزقة و الدروب، و العبوات الناسفة المزروعة في الأرض، و القناصة، و الكمائن على الطرق، و غير ذلك من أساليب حرب الاستنزاف. و كل هذا وسط بيئة اجتماعية معادية تعتبره دخيلاً و محتلاًّ و لا ترى أي شرعية لوجوده على الأرض، و حتى إن وُجِدَ متعاونون معه فعددهم يظل دائما قليلا و تصبح حياتهم مهددة تماما مثل عناصر الجيش العراقي الجديد و الشرطة العراقية الجديدة و الحرس الوطني العراقي الجديد هو الآخر. هذا واقع قائم في العراق منذ احتلاله قبل ما يزيد عن أربع سنوات و لا شيء حتى الآن يستطيع وقف العنف و سفك الدماء في هذا البلد. فالإطاحة بصدام لم تجلب الديموقراطية و الحرية، و اعتقال صدام لم يوقف العنف، و إعدام صدام هو الآخر لم يوقف العنف، و قتل الزرقاوي بدوره لم يوقف العنف، و الخطة الأمنية الجديدة لم توقف العنف. و في كل مرة كانت الإدارة الأمريكية تقول ـ على لسان رئيسها جورج بوش ـ بأن اعتقال فلان أو قتل فلان لن يوقف العنف في العراق. و معنى ذلك أنها موقنة تماما بأن مفتاح وقف حمام الدم في العراق ليس مرتبطا بشخص بعينه سواء كان صداما أو زرقاوياً أو غيرهما. و ربما في هذه النقطة فقط تكون الإدارة الأمريكية محقة و مصيبة في تقديرها. فالعراق ليس قضية أشخاص أو أحزاب أو تنظيمات أو طوائف. العراق قضية شعب عراقي، قُتل أبناؤه و اغتصبت بناته و خربت دياره و هُتِكَت أعراض رجاله في أبو غريب و غيره، و قضية شعوب عربية و إسلامية خرج معظمها من الاحتلال الأوروبي في بدايات أو أواسط القرن الماضي و لا تزال حساسيتها كبيرة تجاه تجربة الاحتلال و المقاومة. و كل مواطن في بلد عربي أو إسلامي يحمل قناعة راسخة، سواء شعورياً أو لا شعورياً، بأن الانتهاء من العراق يعني المرور إلى احتلال بلد عربي أو إسلامي آخر و هكذا دواليك. و بالنتيجة فكل مشروع أمريكي يقوم على الاحتلال لن يفعل أكثر من إيقاظ ذات التجربة التي خاضتها شعوب العالم العربي و الإسلامي في عهد الاستعمار الأوروبي، أي تجربة التحرر و الاستقلال. و مع كل يوم جديد من أيام الاحتلال في العراق، و تناقل يوميات العنف الدموي فيه على شاشات الفضائيات و عبر الأنترنت و مختلف وسائل الإعلام الأخرى، تزداد درجة النفور من الأمريكيين بشكل عام في العالم العربي و الإسلامي. و قد رأينا كيف رفض النسيج الجمعوي المغربي، الذي سيساهم في تتبع الانتخابات المقبلة بالمغرب، الدعم المالي الأمريكي و فضل عليه الدعم المالي الأوروبي و رأينا كيف شنت بعض وسائل الإعلام المغربية حملة حتى على ما يقوم به المجتمع المدني الأمريكي من مبادرات تجاه المغرب بدعوى أن تلك المبادرات تقف وراءها أجهزة الاستخبارات الأمريكية. و رأينا قبل هذا كيف شنت النقابة الوطنية للصحافة المغربية حملة ضد مبادرة دعم الصحافة المستقلة بالمغرب من طرف الخارجية الأمريكية. و الأمثلة لا تعد. و إذا كان هذا يحصل في المجتمع المغربي، المنفتح، و الذي تربطه رسميا علاقات تاريخية مع الولايات المتحدة الأمريكية، فلنا أن نتصور الوضع في مجتمعات عربية و إسلامية أقل انفتاحاً و ليست لها تاريخيا نفس العلاقات مع الأمريكيين. كل هذا التراكم السلبي للصورة الأمريكية عربياً و إسلامياً يرجع إلى السياسة الرسمية الأمريكية نفسها حيال الشعوب العربية و الإسلامية، السياسة التي تقوم على الاستصغار، و الانحياز السافر لإسرائيل، و عدم وضوح معايير السياسة الخارجية الأمريكية تجاه العرب و المسلمين. فبينما يتم احتلال العراق بدعوى القضاء على نظام شمولي و إقامة الديموقراطية يحمي الأمريكيون أنظمة أخرى لا علاقة لها بالديموقراطية في العالم العربي و الإسلامي، و بينما يزعم الأمريكيون القضاء على أنظمة معينة بدعوى أنها "شمولية"، ينتهون في آخر المطاف إلى محاولة بناء نظام شمولي عالمي باسم الديموقراطية، و بينما ينصبون محاكمة لرموز النظام العراقي بسبب قتل 148 شخصا في الدجيل يتسببون في قتل حوالي 700 ألف عراقي دون أن يحاكمهم أحد أو يحاسبهم أحد. و أكثر من ذلك يضعون جيشهم وسط شعب و يتصورون أن جيشا سينتصر على شعب أو شعوب بينما العكس هو ما أثبته التاريخ دائما و سيثبته أبداً: لا حربٌ دائمة و لا احتلالٌ دائم. و الخيار اليوم هو بين أمرين لا ثالث لهما: إما الانصياع لقانون التاريخ و البحث عن بديل حضاري و سلمي للعلاقات بين العرب و المسلمين من جهة و الأمريكيين من جهة أخرى، أو السير نحو مزيد من دماء الطرفين دون أي نتيجة سوى الجثث و التوابيت و الدمار.
#عبد_الرحيم_الوالي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
ما قبل جورج بوش و ما بعده: عالمٌ يوشك أن ينهار
-
من الحزام الكبير إلى الأحزمة الناسفة
-
انخراط شعبي تلقائي يفشل المخطط الإرهابي بالمغرب
-
انتخابات 2007 أو معركة الأسلحة الصدئة: المغرب بين المراهنة ع
...
-
أميركا والإسلام والعرب: من أجل العودة إلى الأصول
-
تحسين صورة أميركا في العالم العربي: أسباب الفشل وفرص النجاح
-
الحركة الأمازيغية بالمغرب: وليدة الديموقراطية أم بذرة الطائف
...
-
التجربة -الليبرالية- بالمغرب: نحو مقاربة نقدية
-
الإرهاب و الدواب
-
تفجير الدار البيضاء الأخير: هل كان عملية عَرَضِيةً بالفعل؟
-
شهادة من قلب الحدث: هذه بعض أسباب الإرهاب بالدار البيضاء
المزيد.....
-
لا تقللوا من شأنهم أبدا.. ماذا نعلم عن جنود كوريا الشمالية ف
...
-
أكبر جبل جليدي في العالم يتحرك مجددًا.. ما القصة؟
-
روسيا تعتقل شخصا بقضية اغتيال جنرالها المسؤول عن الحماية الإ
...
-
تحديد مواقعها وعدد الضحايا.. مدير المنظمة السورية للطوارئ يك
...
-
-العقيد- و100 يوم من الإبادة الجماعية!
-
محامي بدرية طلبة يعلق على مزاعم تورطها في قتل زوجها
-
زيلينسكي: ليس لدينا لا القوة ولا القدرة على استرجاع دونباس و
...
-
في اليوم العالمي للغة العربية.. ما علاقة لغة الضاد بالذكاء ا
...
-
النرويجي غير بيدرسون.. المبعوث الأممي إلى سوريا
-
الرئيس الكوري الجنوبي المعزول يتخلف عن المثول أمام القضاء
المزيد.....
-
لمحات من تاريخ اتفاقات السلام
/ المنصور جعفر
-
كراسات شيوعية( الحركة العمالية في مواجهة الحربين العالميتين)
...
/ عبدالرؤوف بطيخ
-
علاقات قوى السلطة في روسيا اليوم / النص الكامل
/ رشيد غويلب
-
الانتحاريون ..او كلاب النار ...المتوهمون بجنة لم يحصلوا عليه
...
/ عباس عبود سالم
-
البيئة الفكرية الحاضنة للتطرّف والإرهاب ودور الجامعات في الت
...
/ عبد الحسين شعبان
-
المعلومات التفصيلية ل850 ارهابي من ارهابيي الدول العربية
/ خالد الخالدي
-
إشكالية العلاقة بين الدين والعنف
/ محمد عمارة تقي الدين
-
سيناء حيث أنا . سنوات التيه
/ أشرف العناني
-
الجدلية الاجتماعية لممارسة العنف المسلح والإرهاب بالتطبيق عل
...
/ محمد عبد الشفيع عيسى
-
الأمر بالمعروف و النهي عن المنكرأوالمقولة التي تأدلجت لتصير
...
/ محمد الحنفي
المزيد.....
|