أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - فاروق سلوم - تقشير الفستق :فوتوغرافيا الغروب الأخير على شفق بغداد















المزيد.....

تقشير الفستق :فوتوغرافيا الغروب الأخير على شفق بغداد


فاروق سلوم

الحوار المتمدن-العدد: 1997 - 2007 / 8 / 4 - 08:20
المحور: الادب والفن
    


ربما تستدرجنا فكرة السفر الى اعماق ولذائذ ؛ هما قشعريرة لرغبة كتومة .. وتحد لحرمان ، وميل لكشف .. طالما تتوق اليه تلك الذات التي احترفت الرضا بالحقيقة العراقية مهما حملت من معاني الألتفاف والحيلة والخسران .
كانت رائحة الحقيبتين الصغيرتين التي اعددناهما تفوح منهما رائحة جلدهما الأصطناعي ، فقد كانت لوثة البتروكيمياويات .. تستدعي الى ذاكرة مشموماتنا .. روائح الحروب المرتجلة والرصاص والموت الأهوج على امتداد البلاد وحدودها الممتدة امتداد الزمن الحي . كانت الحقيبتان تحملان اقل مايمكن من متطلبات المنافي ؛ فلقد تجاهلنا قائمة الكتب الباهرة التي كنا اخترنا حملها معنا اول التمنّي ، وشطبنا اسماء اللوحات المقترحة .. لرافع الناصري وكريم رسن .. وغرافيكية اسماعيل فتاح الترك بتوقيعه الشيطاني ، ومصغرات لمهر الدين وفاخر محمد وهاشم حنون وكاظم نويّر وضياء الخزاعي .. واسماء لفنانين تشكيلين كنا احببنا ذواتهم ..احببناهم بعمق ..واحببنا اعمالهم تلك قبل قيامة الكراهية .. والموت الرجيم !! كان الطفلان يدوران حول الحقيبتين حتى لم نعد نميز رائحتيهما من رائحة الحقيبتين ..
كانت تلك الرائحة الكيميائية هي رائحة الرحيل الأخير ذلك المساء .
تلويحة :
في تلك الساعات المتبقية من الزمن المكتوب كان يغوينا .. سطح الدار البغدادي بفضاء معماري سحري ؛ فهو فضاء لوظائف شتى وعواطف مجهوله ، لكنه فضاء سيكولوجي لأكتشاف المدى والراحة الشخصية .. والأبصار الى آفاق بعيدة ومركبة تنمو داخل ذواتنا مثلما تنمو على واجهة الشفق القتيل . كان سطح دارنا البغدادي يفتح افق الرؤية حيث لاغواية للعمارة الشاهقة ..فتطل قامات النخيل مثل نساء نثرن شعورهن داخل طقس من طقوس الموت الفاجع او الفرح النادر في بلاد الرافدين ...
جعلنا نرتقي السلّم كمن يبغي ان يلقي النظرة الأخيرة على جسد أثير مسجّى لحظة ذلك الغروب الأخير .
داهمتنا ونحن نرقى آخر درجات السلم اصوات شتى لتفجيرات قريبة وبعيدة هي ولع عراقي وطني بألأعمال النارية التي تلون سماوات العالم غالبا ، عدا سماواتنا ، في احتفالات ومهرجانات .. وميول قزحيّة شتى ..وكانت ثمة رشقات كلاشنكوف متقطعة ومستمرة في آن معا.. وكنت اسميها ..( تقشير الفستق ) ..حيث ( يفستق العراقيون الرصاص ) كما يقشرون الفستق .. ويتبارون في مسرة الموت برشاشاتهم طوال النهار امام هدير دبابات ابرامز ..او مسيرة لسيارات مقنّعة بالسلاح والوجوه الغريبة ..اويطلقون رشاشاتهم لأحتفال مرتجل بفوز كروي .. عابر حيث يفكفك العراقي آلام رأسه ببضعة اطلاقات من صنيعة كلاشنكوف ..المخترع الروسي لهذه الآلة التي ستظل رمزا لدمار عالمنا البريء..
فسحة :
كان سطح دارنا يحمل رقش الشظايا من كل لون .. من نثار مفخخات تفجرت على الشارع السريع خلف دارنا .. او من آنفلاق إطلاقات طائشة من رباعية لمقاومة الطائرات تستعمل في غير محلها .. فيما تجوب الأباتشي .. وطائرات شينوك فضاء بغداد في تحد وشيك لكل نار !!
كان سطح دارنا مزرعة لكل لون من تلك القطع الحديدية القاتلة ..تلك الشظايا التي تقوم بترميز لحظة تشظي الحياة ، التي تتنازع اطرافها في ذاتي الجريحة وانا احمل قلق الرحيل فجر اليوم التالي .. وأسئلة المنافي ..والمجهول .. امام زحف الموت الهادر وهو يزهق كل حياة ..
كان قلق السفر فجر اليوم التالي بتنوعه يتناغم مع تشكيلات نقش فسحة السطح .. الذي حرصت الزوجة على تنظيفه بسرعة بادية .. خشية ان تنفذ كسرة من شظية اسفل خطواتنا الحذرة وتتحول حياتنا الى مأساة جديدة .
كان السطح فسحة أخيرة للتأمل النهائي ..و للنظر الممكن ..بل للمراجعة الممكنة لسيرة حياة امتدت طويلا .. في لحظات مسروقة من انشغال قناص قد يشغّل ناظوره وبندقيته الخارقة لقطف رأسينا انا وزوجتي في لحظة وداع درامي لسماء بغداد ..ولصورة حية لحياة ملوّنة لانعرف هل سنندم على فقدانها ام ..لا ونحن .. في طريق الغد المجهول والأسئلة الشحيحة عن الممكنات القليلة المتوفرة لمغامرة الهروب .. الأخير !!
كاميرا :
كان لابد من الأستعجال في مثل هذا الطقس التأملي غير المناسب ..وسط الشظايا و( تقشير فستق ) الكلاشنكوف .. والمتفجرات المتوالية .. وناظور القناص .. لكن كان لكلينا هوس خاص جعلنا ننسى كل محذور .. فهذه هي الشمس البغدادية الأخيرة التي نريد ان نرقب غيابها .. في امسية من أماسي آب حيث تذوي الشمس متأنية الخطوات نحو ملاذها الرباني .. فيما تهوّم بهلع باد ..طيور بغدادية ضالّة .. وتتشابك النخلات في عناق مذهل قلما عرفته غابات ارض الله الواسعة رغم كل جمال توحي به تلك الخضرات الأستوائية .. في صور وتقاويم نعلقها على حيطان المنزل دون حياة ..
لقد كنا غفلا نتأمل دون تنظيم مسبق اية لحظة ممكنة نسترق فيها لمحة اضافية لغروب حتمي .. وغياب مفروض .. ومنفى لاخيار فيه للمجهولات كلّها ..
كانت الكاميرا تطقطق بين يدي زوجتي ، وقد احبّت التصوير واتقنته ، وستنشر فيما بعد على مواقع اجنبية لقطات نادرة لبغداد وحياتها ومتاريسها وشمسها الأخيرة ، ولم اكن اظن انها توثق حركة الطير ..وميل الشمس .. وأنتظار اللحظات النهائية حيث تؤوي ربة النور على حد تعبير الجواهري الى سرير عزلتها المجهول في فضاءات الرب القصيّة .
ان كل ترميز لذلك الغروب الأخير هو ضرب من الأعتداء على الحقائق المرّة التي لاتقبل اي قناع .. فنحن في قداس جنائزي .. هو طقسنا الخاص الأخير .. بعد ان قمنا بقداديس شتى ووارينا التراب على من نحب .. ممن اختارهم قدر ميسوبتيميا في دورة العالمين السفلي .. و العلوي .. او ممن اختارتهم قذيفة من دبابة ابرامز الملونة بحلم العولمة .. او رشقة من كلاشنكوف .. او سكين قاتلة من قلب اعمى لايعرف اي حب واي معنى واية قيمة .. لهذه الأرواح الساحرة التي اختارت بعشق غريب ان تعيش على ارض الرافدين !!!
فوهه :
يدهمنا الصحو وكأننا نستفيق من لحظة غامضة في ذلك السحر الذي انسانا كل خطر يهددنا على سطح دارنا ببغداد آخر مساء قبل اختيارات الرحيل والنفي ..
ويفاجؤنا الوعي ونحن ننسلّ من تلك اللحظات الكابوسية في موجة عارمة من الخوف .. فيما نتساءل مالذي سيظنه القناص اننا نفعل قبالته ونحن نتجول على سطح دارنا هكذا جهارا نهارا .. هل نحن نصور موكب العزاء الأخير في شارع الموكب البابلي الذي داسته سرف الدبابات ابرامز وقد اتخذت من ماتبقى من بابل موقعا لثقافة الحديد ..والنار والأطلاق الحي للنار على اية حضارة هاربة من تاريخ الأحتلالات كلها !! ..ام أننا نصوّر غفلا صورة مهرجان موتنا المحتمل بيد قناص وحشي يختار قمته الخاصة حيث تشاء بندقيته ويشاء ناظوره .. ام نصور لحظة وداع لن تتكرر ...حيث تهبط شمس بغداد الى ملاذها السرّاني فيما نذهب نحن الى منافي الرب في كل بقاع الأرض ؟
كنا استفقنا من غيبوبة لامبالية .. هي غيبوبة الحب العراقي والسحر اللانهائي للمياه والشمس والتراب في بلادنا تلك ..
اختارت الكاميرا ان تكون فوهة للتأريخ .. فيما اختار القناص ان تكون بندقيته فوهة لقتل التاريخ ..
تلويحة أخيرة :
لم تأخذنا سنة من النوم تلك الليلة .. ولم نشطح في خيال الرحّالة وحلم المسافرين ..كنا وجهين ساهمين.. نصغي الى ايقاع انفاس صغيرينا في غفوتهما البريئة .. منتظرين ان يمر الوقت لحظة لحظة.. ثقيلا محملا بالقلق والخوف من ان تقترب منا رشقات الموت .. ونمضي الى سواد قدرنا المعتم .. قبل يتحقق حلم الهروب !!
كانت الحقيبتان لم تنفكّا عن اطلاق تلك الرائحة الكيمائية من جلديهما الصناعيين ..
وكانت الكتب الجميلة والمراجع الباهرة تنسل من ارففها .. وتتساقط اللوحات من زواياها .. وتبكي روائح ابداننا وقد اكتسبها جراء التلامس الطويل اثاث المنزل وادواته في دورة العيش التي امضيناها في الزمن العابر لهذا المنزل العراقي الثري بكل معجزاته الصغيرة ومصادفاته .. ولم نحمل معنا غير حقيبتين .. واقل عدة ممكنه لهجرة مغامرة ومجهولة .. وسلسلة من صور الشمس البغدادية الأخيرة وهي تغيب .. وهي تودع لدى المجهول اقدارنا كلها واقداربلادنا ..
غروب شمس ميسوبتيميا الجميلة .
-------------------------------------------



#فاروق_سلوم (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- وداعا انغمار بيرغمان شاعر السينما العالمية
- آخرة الحكمة : مندايا الرحيل .. مندايا الأياب
- اعادة لمقولة الغياب
- مندايا سفر الخروج
- عيون عميه ....
- مندايا ..ملكا نورا
- مندايا
- غونتر غراس في ليلة الصعود
- بداية أخرى للحزن.. والنفي
- احوال البلدان ..وأحوال..بغدان
- موالات .. لبلاد جريحة
- غابة لكلام الأشجار والحجر
- انا ماكتبت احزاني بعد
- الغروب الأخير على شفق المدينة
- انتظر الحافلة
- رحلة السلمون العراقي
- سيدة الرعاة - الى .. هلالة رافع
- أمرأة لزجاج النافذه
- كلية بنّاي ..الأخيرة
- ماذا ستكتب الساعة


المزيد.....




- الكوفية: حكاية قماش نسجت الهوية الفلسطينية منذ الثورة الكبرى ...
- رحيل الكوميدي المصري عادل الفار بعد صراع مع المرض
- -ثقوب-.. الفكرة وحدها لا تكفي لصنع فيلم سينمائي
- -قصتنا من دون تشفير-.. رحلة رونالدو في فيلم وثائقي
- مصر.. وفاة الفنان عادل الفار والكشف عن لحظات حياته الأخيرة
- فيلم -سلمى- يوجه تحية للراحل عبداللطيف عبدالحميد من القاهرة ...
- جيل -زد- والأدب.. كاتب مغربي يتحدث عن تجربته في تيك توك وفيس ...
- أدبه ما زال حاضرا.. 51 عاما على رحيل تيسير السبول
- طالبان تحظر هذه الأعمال الأدبية..وتلاحق صور الكائنات الحية
- ظاهرة الدروس الخصوصية.. ترسيخ للفوارق الاجتماعية والثقافية ف ...


المزيد.....

- مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة / د. أمل درويش
- التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب ... / حسين علوان حسين
- التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا ... / نواف يونس وآخرون
- دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و ... / نادية سعدوني
- المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين / د. راندا حلمى السعيد
- سراب مختلف ألوانه / خالد علي سليفاني
- جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد ... / أمال قندوز - فاطنة بوكركب
- السيد حافظ أيقونة دراما الطفل / د. أحمد محمود أحمد سعيد
- اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ / صبرينة نصري نجود نصري
- ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو ... / السيد حافظ


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - فاروق سلوم - تقشير الفستق :فوتوغرافيا الغروب الأخير على شفق بغداد