عند نهاية الخمسينات وفى 1 يناير 1959 اعتقل النظام الناصرى جميع المنتمين للحركة الشيوعية المصرية فى نفس الوقت الذى كان يتقارب فيه مع الاتحاد السوفيتى ليؤكد أن هذه العلاقة لا تعنى التغاضى عن النشاط الشيوعى ، ورغم أن التنظيمات الشيوعية التى كانت موجودة فى هذه الفترة لم تكن تشكل أى خطر على النظام الناصرى ، إلا انه قذف بهم إلى غياهب الواحات المصرية التى لا تسكنها سوى الزواحف والضوارى ، وسقط العديد من الشهداء مثل محمد عثمان ولويس إسحاق وشهدى عطية الشافعى وفريد حداد وغيرهم من شهداء اليسار المصرى . وبينما كانت سياط الناصرية تشوى ظهور المعتقلين وشهدائهم يتساقطون الواحد تلو الآخر ، بدأت الناصرية إجراءات التحول الرأسمالى عبر رأسمالية الدولة المصرية من خلال تأميمات الستينات وتحويل شركات القطاع الخاص إلى القطاع العام.
التقط جزء من اليسار المصرى الطعم وبدأو حوارهم عبر الصحافة الحزبية بوجود ( مجموعة اشتراكية فى السلطة ) وان عبد الناصر يقود تحول اشتراكى ويحتاج إلى الاشتراكيين لدعم التحول الاشتراكى . وبدأت تطرح الفكرة على استحياء فى البداية ثم اتسع نطاقها واكتسبت الكثير من المؤيدين والقليل من المعارضين . وانتهت المأساة بحل التنظيمات الشيوعية المستقلة وانضواء أعضائها فى تنظيم الناصرية الاتحاد الاشتراكى ونواته السرية التنظيم الطليعى وتم تصعيد بعض الشيوعيين المصريين إلى قمة السلطة الناصرية . وبذلك انتهت حقبة هامة من تاريخ اليسار المصرى وبدأت حقبة جديدة.
رغم أن اشتراكية الناصرية لم تكن سوى رأسمالية الدولة فى صورتها النمطية ، ورغم أن التحولات الاقتصادية تواكبت مع تفشى الاستبداد السياسى وسيطرة الحزب الواحد والتعذيب والمعتقلات ولكن تم غض البصر عن كل ذلك دعماً للتحول الاشتراكى الذى عصف به السادات دون أن يجد من يدافع عنه.
عندما رحل عبد الناصر وجاء الرئيس السادات بدء التحولات الدرامية فى عصره بقضية اعتقال رموز الحقبة الناصرية فيما عرف إعلاميا بقضية " مراكز القوى " ورفع السادات شعار ( سيادة القانون ) وان 23 يوليو انتقلت من مرحلة الشرعية الثورية إلى مرحلة الشرعية الدستورية.وأعلن انتهاء عصر التجسس على حرية الأفراد وظهر السادات على شاشة التلفاز وهو يحرق أشرطة تسجيل تم تسجيلها على المعارضين خلال العهد الماضى ، وحملت وسائل الأعلام صور السادات وهو يهدم حائط فى احد المعتقلات . وأعلن السادات عن مرحلة جديدة من الديمقراطية . وبلع الشيوعيين الطعم مرة أخرى وبشر البعض بدعم السادات ، بل واستوزر كبار مسئولى الحركة الشيوعية فى عهد السادات الذى طلب إطلاق حرية الأخوان فى العمل لوقف المد اليسارى فى الجامعات المصرية ، والذى كان نظامه أول من سلح الإسلاميين وشاء القدر أن تأتى نهايته بأيديهم.
السادات الذى بدء بالحديث عن الديمقراطية وإحراق أشرطة التسجيلات على المعارضين ، والذى أطلق الحرية المقيدة لتشكيل الأحزاب ،وبدء عهده بالإفراج عن المعارضين ، أنتهى عهده بأكبر حملة اعتقالات فى تاريخ مصر الحديث فى سبتمبر 1981 والتى انتهت نهاية مأسوية باغتيال السادات على يد عناصر الجماعات التى بدء بتسليحها.
ثم جاء الرئيس مبارك إلى السلطة ودماء السادات ساخنة لم تجف وجميع التيارات السياسية فى المعتقلات ورأس الكنيسة القبطية قيد الإقامة الجبرية . وبدء بإطلاق المعتقلين واستضافتهم فى قصر العروبة والحوار حول نسيان الماضى وبدء صفحة جديدة بعودة الأحزاب لممارسة نشاطها ( ولكن داخل المقرات الحزبية فقط) وانخرط جانب من اليسار فى خدمة النظام الجديد وليس أخرهم وزير التخطيط الحالى فى حكومة الدكتور عاطف عبيد والذى كان من قيادات حزب التجمع اليسارى .
عاما بعد الآخر تصاعدت أعمال البطش والاستبداد واختطاف المعارضين والتنكيل بعشرات الآلاف من التيار الإسلامى فى البداية ثم من كافة التيارات السياسية بعد ذلك وتزوير الانتخابات العامة وحرمان المصريين المخلصين من عضوية البرلمان الذى اتسع لتجار المخدرات وتجار السوق السوداء والمتهربين من الخدمة العسكرية . وأصبح من الصعب على العديد من المصريين تغير نظرتهم للنظام الحاكم وأياديه السوداء فى مختلف مجالات الحريات الديمقراطية وأخرها قانون العمل الموحد وقانون الجمعيات الذى صادر حق العديد من الجمعيات الأهلية فى الوجود .
بدء النظام يعيش فى ظل أزمة طاحنة بعد أن بدأت نتائج سياسات الإصلاح الاقتصادى تؤتى نتائجها حيث تمت تصفية القطاع العام وتبددت الجنيهات التى صرفت للعمال كتعويضات وأصبحت مشاكل العشوائيات والبطالة والغلاء والفساد تنهش فى أحشاء النظام الذى يبحث لنفسه عن متنفس جديد.
تواكب مع ذلك أحداث 11 سبتمبر والحملة الأمريكية على ما يسمى بالإرهاب وأزمة الثورة الفلسطينية ثم احتلال العراق ، ولعل مظاهرات 20 و21 مارس 2003 لخير شاهد على مدى تراكم السخط الشعبى تجاه نظام عاجز عن التطور وحل مشاكل الجموع من المواطنين ، وغياب البديل الشعبى القادر على تجسيد نفسه فى ظل الحصار الحالى للقوى السياسية على اختلاف انتمائتها وتياراتها. تواكب مع ذلك بداية توارث السلطة فى النظم الجمهورية كما حدث فى سوريا وكما يمهد له فى مصر وليبيا واليمن وفى العراق قبل سقوطه.
لذلك بدأت السلطة تبحث عن صيغة مقبولة لطرح قضية الخلافة فى الحكم من خلال السيد جمال مبارك كخليفة لوالده فى حكم مصر.
بدء التجهيز يتم على استحياء فى البداية من خلال دخول الخليفة الجديد ميدان العمل العام كحق مكفول للجميع من خلال أسرة حورس فى الجامعات المصرية ثم جمعية المستقبل وأخيراً لجنة السياسات فى الحزب الوطنى الحاكم. وفى شهر رمضان الماضى عندما طرح الدكتور وحيد عبد المجيد ( احد قيادات حزب الوفد وقتها ) فى ندوة عامة أن التغيرات التى شهدها الحزب الحاكم ستعم كل مصر . لم نكن نتصور أن الأحداث ستتلاحق بهذه السرعة.وأن دعوة الدكتور وحيد ستتسع وتجد لها أنصار في صفوف اليسار يبشرون بالتغيرات الديمقراطية التى يقودها الرئيس الجديد.
والحزب الوطنى الحاكم هو الوريث لكل موروث الاتحاد الاشتراكى السيئ السمعة بل أن احد قياداته الحالية وهو السيد كمال الشاذلى أمين التنظيم هو رمز هام للحزب فقد بدء حياته مع هيئة التحرير ثم الاتحاد القومى فى الخمسينات ثم الاتحاد الاشتراكى فحزب مصر ثم الحزب الوطنى والذى يشغل أمانة التنظيم به منذ سنوات وحتى الآن .واستطاع أن يتعايش مع اشتراكية ناصر وإيمان السادات وإصلاحات مبارك باعتباره رجل لكل العصور ورمز من رموز السياسات الحاكمة.
يندمج بنيان الحزب الحاكم مع مؤسسات الدولة من الأحياء والقرى وحتى المستوى الرئاسى ( الأمانة العامة ) .ولعل تزوير الانتخابات العامة ومصادرة الحياة الحزبية واختطاف وتعذيب المعارضين ، ومصادرة النقابات المهنية ، وتحويل المدنيين للمحاكم العسكرية واستمرار الحكم بقانون الطوارئ منذ تولى الرئيس مبارك الحكم وحتى الآن كلها دلائل لا تقبل الشك على ديمقراطية الحزب الحاكم وما تجسده .
عقد الحزب الحاكم فى العام الماضى مؤتمره السنوى الذى تم فيه بشكل فعلى تدشين صعود السيد جمال مبارك إلى كرسى الرئاسة عبر تعينه رئيس لجنة السياسات فى الحزب ، وهلل البعض ومنهم للأسف بعض اليساريين بالتغيير الذى يقوده مبارك الابن وأنه بداية عصر جديد.ومنذ أيام أنهى الحزب الوطنى مؤتمره السنوى الذى سبقته مداولات مع ما سمى رموز المجتمع المدنى والتشاور حول الديمقراطية ومستقبلها وأن مصر مقبلة على مرحلة جديدة وهو ما أيده السفير الأمريكى بالقاهرة على صفحات جريدة الأهرام .
وقد حدث لغط سياسى حول الدخول فى حوار مع الحزب الحاكم بدء منذ شهور بدعوة حزب الوفد لتكوين جبهة وطنية يشارك فيها الحزب الوطنى ، ثم المشاورات التى سبقت مؤتمر الحزب ووعد مبارك الأبن بالمزيد من الإصلاحات الديمقراطية.ثم دعوة ما يسمى برموز المجتمع المدنى للحوار والتبشير بأن مبارك الابن لديه أجندة مختلفة وانه جاد في الإصلاح الديمقراطى ويحتاج إلى من يدعمه. ولى هنا وقفات مع هذا المنطق منها:
ـ من حق الرئيس مبارك أن يفكر فى تولى نجله خلافته فى حكم الأبعدية المصرية ( الأبعدية هى مساحة كبيرة من الأرض الزراعية كان يتم منحها لأمراء الإقطاع من أسرة محمد على قبل يوليو 1952 ) .
ـ من الطبيعى أن يعقد حزب الحكومة مؤتمره السنوى ومن حقه أن يبيع الأوهام لمن يريد أن يشترى.
ـ من العادى أن يطور الحزب من أساليبه ليواكب روح العصر باستبداد وقهر يتناسب مع روح الألفية الجديدة وعصر المحمول والدش والانترنت.
ـ من حق الحكومة أن تدعوا كل من تراه ليشاركها الحوار حول مستقبل الحكم .ومن حق من يشاء أن يرفض المشاركة فى هذه التمثيلية.
ـ من حق مبارك الابن أن يبحث لنفسه عن شرعية يصل من خلالها إلى كرسى الرئاسة غير مفروض من أعلى ولكن ( بناء على رغبة الجماهير ) المتطلعة للإصلاح والتى يمكن أن تتظاهر من اجل توليه الرئاسة.لكن ليس من الطبيعى أن نشارك في هذه المسرحية الهزلية.
ليس من حق احد أيا كان أن يبيع لنا أوهام جديدة ويطالبنا بالصبر والصمت وأن نعطى الرئيس الجديد فترة ليثبت لنا ديمقراطيته التى نحفظها عن ظهر قلب فهذا الشبل من ذاك الأسد ، ليس من حق أحد أن يقنعنا بوجود مجموعة ديمقراطية فى السلطة الملطخة أياديها بدماء الشرفاء فى مصر والتى تغلق معتقلاتها على عشرات الآلاف من خيرة أبناء مصر دون محاكمة ، السلطة التى تحكمنا بالطوارئ وتصادر النقابات المهنية وتصادر الحياة السياسية وتحاكم المدنيين أمام القضاء العسكرى.السلطة التى لا تجيد سوى تزوير الانتخابات والحقائق ، سلطة الديون والفساد والبطالة والعشوائيات والتبعية.
لذلك أتسائل هل هو قدر الشعب المصرى أن يعلق أماله دائماً على الآخرين ، هل هى حتمية تاريخية أن ينخرط قادة الأمة من أمثال مصطفى كامل وقاسم أمين فى تأييد الخديوى عباس حلمى الذى كان من أسوء حكام مصر وتأييد توليه الحكم، هل من الطبيعى أن ينادى البعض باشتراكية عبد الناصر أو ديمقراطية السادات أو إصلاحات مبارك أو بالتغيرات التى سياتى بها إلينا الخديوى الجديد.وأن ننتظر لأنه توجد مجموعة ديمقراطية فى السلطة يقودها قواد وتاجر تأشيرات عمرة .
يا رفاقنا لست خجولا حين أصارحكم بحقيقيتكم ، هنيئا لكم عضوية التنظيم الطليعى الجديد أو أيا كان اسمه ولكن رجاء أتركونا نمضى ولا تعطلونا بأفكاركم القديمة مرة أخرى.
إلهامى الميرغنى
1ـ10 ـ2003