|
القرآن ومنطق الإقصاء
يوسف هريمة
الحوار المتمدن-العدد: 1996 - 2007 / 8 / 3 - 03:23
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
يعتبر سؤال الموضوعية والعلمية سؤالا إشكاليا في طرحه منذ نشأة الفكر الإنساني، وصولا إلى العالم المعاصر بكل تجاذباته وتقاطعاته. ومن الصعب الجواب عنه بالرغم من المحاولات الكثيرة التي أحيطت بطبيعة هذا الموضوع الشائك، لأن ولوج مثل هذا السؤال وكشف الغامض من حقيقته، يظل ضربا من التخمين النظري والتجريد المثالي بملامسته عالم الإنسان. فأياًّ وجد الإنسان كانت الموضوعية هدفا يسعى لتحقيقه هذا الكائن من خلال أبحاثه وجهوده الفكرية. وأياًّ وجد الإنسان أصبح الحديث عن المثالية أماني نفس يصنعها الخيال أثناء معركة الحياة، سواء كانت فكرية أو لها ارتباط وثيق بالعالم المعيش للإنسان. إن طبيعة هذا السؤال طبيعة مدمرة، إذا لم نتبين أيضا أبعادها ومآلاتها المستقبلية على الواقع البعيد والقريب. ولعل أهم معطى قد يترتب عليه خطر في حجم ما نحن بصدده، هو علو الإنسان بدعوى الموضوعية والعلمية، وخروجه عن حجم حقيقته المحدودة في الزمان المكان، والمؤطرة سلفا بحجم سقفه المعرفي. وإذا تم العلو فكرا وسياسة واقتصادا واجتماعا، ضاع الإنسان في فلك التجبر على الآخر، بكل ما يحمله هذا الآخر من قيمة مضافة سواء اتفقنا معها أو اختلفنا، وبات الإقصاء بكل تجلياته هو السبيل الممكن لتنميط الناس وفق رؤية معينة، وتعليبهم بشكل يفقد الكون تنوعه المبثوث، وفق سنن وقوانين ثابثة لا تحابي في دقتها وعظيم صنعها أحدا. هذا السؤال قد يبدو ساذجا في العقول المتنورة والمتخفية وراء حجاب الموضوعية. لكنه عميق جرحه في عقل لا زال لا يستوعب موضوعية تجر على الناس ويلات الشتائم والتنقص من بعضهم. وكبير هو أثره في خيال إنسان يريد أن يرى تجليات الحرية الفكرية، منبثقة من قلوب جعلت من الأفكار مؤسَّسَة للمحبة لا العداوة، ومن الاختلاف ألوان طيف تضيء للمختلفين الطريق نحو قصورهم، وضعف إمكانياتهم مهما وصلوا ومهما حاولوا أن يصلوا. ولمقاربة هذا الموضوع ارتأيت أن أقف مع هذا المنطق الإقصائي وقفة قرآنية، قد يتوافق معي إخوتي حولها وقد يختلفوا ولهم الحق في ذلك. ولكن وجهتي هي وجهة نظر لا ألزم بها أحدا ولا أزعم صوابها من خطئها. فالكلمة الفصل هي لكل قارئ وكل دارس وكل مهتم بهذا الحقل الفكري، ليقيِّمها وفقا لآلياته وشروطه المعرفية. ومنطلقي هذا بني على أساس قراءة ارتأيت من خلالها أن أنقل تصوري بسلبياته وإيجابياته، عسى أن يحد من الجدل الذي قد تثيره نعرات الإقصاء لهذا الاتجاه أو ذاك، أو قد تساهم فيه موضوعية تتناسى أنها منبثقة من أرضية ثقافية معينة، تحمل في جذورها نسبية ارتبطت بماهية هذا الكائن وحقيقة وجوده. وستكون مقاربتنا لهذا الموضوع من خلال النقاط التالية: 1- القرآن ومنطق لست على شيء: إن الناظر في تاريخ الفكر الإنساني القديم أو المعاصر، ومن خلال تجاربنا وتجارب أناس آخرين يرى أن الاختلاف كثيرا ما يدبر بمنطق لست على شيء. بمعنى أن المختلف فكريا دائما يرى في الآخر عدما لا وجود حقيقي له، إلا داخل إطار نسقه المعرفي المشبع بالحمولات الثقافية والخلفيات الإيديولوجية. وخارج هذا الإطار يتم التعامل معه وفق شروط التهميش والإقصاء، الذي قد يتجاوز في الكثير من الأحيان المستوى الفكري إلى مستويات أخرى قد يكون الجسد أحد ضحاياها الأساسيين. ولنقف مع آية قرآنية تقول:" و قالت اليهود ليست النصارى على شيء و قالت النصارى ليست اليهود على شيء و هم يتلون الكتاب ". فهذه الآية طبعا وغيرها كثير قد تم التعامل معها بشكل مخل في ثقافتنا الإسلامية ومنظومتنا التفسيرية. حتى قال البعض لعل أصدق شيء قاله اليهود، هو أن النصارى ليست على شيء، وأن أصدق شيء قالته النصارى هو أن اليهود ليست على شيء. وموقف مثل هذا ينسب للقرآن من خلال هذا البيان في الحقيقة يضع الكل على المحك. وهو موقف مشبع بثقافة الإقصاء للاآخر والرمي به خارج أي وجود فكري أو ذاتي بالقول:" لست على شيء ". إنها ثقافة حاقدة لا ترى الوجود إلا في ذاتها وما تصنعه أيديها هذا إذا كانت تصنع. إنها ثقافة تسمح لنفسها أن تكون مدعيا وحكما في الوقت نفسه. فهل فعلا يكرس القرآن منطق الإقصاء للآخر بهذا الشكل؟ ولماذا يصر أن يلبسوه هذا الاتهام إذا لم يكن كذلك؟. إن جوابا واحدا يتبادر إلى ذهني وقد أكون مخطئا فيه، وهو أن صناع ثقافة الإقصاء كانوا يبحثون عن الشرعية المفقودة عنهم، ولا زالوا يتوسلون بالوسائل الممكنة والمتاحة بين أيديهم لتبرير أفعالهم. ولعل أهم وسيلة قد يسيطرون ويؤطرون العامة بها وفقا لتأصيلاتهم، هي النص القرآني بآلية القراءة التجزيئية. وهذا ما حدث بالفعل للنص المطروح للنقاش. فالنص أساسا هو عملية نقدية لبنية الفكر الإنساني، سواء مثله اليهود أو النصارى. إذ الاتهام بمنطق لست على شيء، والرمي بالآخر إلى حدود العدم، هو اتهام باطل لا يستند على حقيقة، إلا في أذهان صناع ثقافة الإقصاء. وقراءة الكتاب أيا كان هذا الكتاب، كونا أو واقعا إنسانيا لا يمكن أن تسمح بمثل هذا التصور لهذا جاء التعقيب:" وهم يتلون الكتاب ". فتلاوة الكتاب أكبر من أن تسقط الإنسان في شرك هذا المستنقع الخبيث. والواقع التاريخي يؤكد لنا صحة هذه التلاوة القرآنية، وعالم اليوم على ذلك من الشاهدين. فمن يا ترى يعمل صالحا ليخرج الإنسانية من ظلامها إلى نور المعرفة؟ من يتكتل ويتوحد محققا أهدافه ومراميه ومتجاوزا خلافاته الدينية والسياسية؟ من وصل إلى الآفاق ليدفع بعجلة التاريخ لتأخذ مسارها نحو الحقيقة؟ من يدافع بالرغم من الاعتراضات الكثيرة عن المستضعفين في الأرض من مؤسسات اقتصادية واجتماعية ومدنية؟ أليس الكثير من اليهود ومن النصارى:" ليسوا سواء ". إنه المنطق القرآني المنسجم مع المعطيات التاريخية في نقده لمنطق الإقصاء، حين يتعالى الإنسان على الكتاب المبثوث، ويقرأ قراءة الاعتباط وتلاوة الإقصاء. 2- الجهل طريق الاستمرار: وتستمر الآية في عملها النقدي لطبيعة هذا المنطق لتقف بنا على معترك حاسم وخطير في الوقت ذاته فتقول:" كذلك قال الذين لا يعلمون مثل قولهم ". فالقول بمنطق لست على شيء، نابع من أرضية عدم العلم بطبيعة الواقع الإنساني ومتجاوز أيضا للحقائق المبثوثة سننا وقوانين في الكتاب. وعلى من يردد نفس القول عاجلا أم آجلا، أن يتبين حقيقة جهله المركب بهذه السنن الإنسانية والنفسية مهما كان حجمه أو ماهيته، ومهما كان انتسابه الفكري والثقافي. ولكن بالرغم من هذا المنزلق الفكري الخطير الذي قد يعترض طريقنا جميعا في لحظة من اللحظات، لا زال الكثير من الناس يراهنون عليه في إسكات المخالف فكريا أو سياسيا، متناسين هذا المعطى الواقعي الذي أكدنا عليه من خلال الآية نفسها. فالقول بمنطق الإقصاء:" لست على شيء "، هو خطوة نحو الجهل بنواميس هذا الكون العجيب، والجهل بهذه النواميس خطوة نحو الإقصاء وإلغاء الآخر فكريا وجسديا، والإقصاء خطوة نحو التردي الحضاري والإنساني بكل مستوياته. 3- الله وحل عقدة الخلاف: في الكثير من الأحيان يظهر للإنسان بسبب قصوره، وعدم قراءته السوية لطبيعة الاختلاف الكوني نفسه، بأن حل الخلاف بطرق القمع والإقصاء هو السبيل الممكن لضمان سير خطه التحريري أو الفكري. وما على الآخر إلا أن يرضخ للشروط المعرفية والتأصيلات الجاهزة تحت أي مسمى من المسميات. وقراءة مثل هذه في الحقيقة لا تستطيع أن تقنع نفسها، بله أن تطرح نفسها كبديل حضاري يسعى إليه الإنسان لسد ثغرات هذا المنزلق الفكري الخطير، وهي عاجزة أن تصنع إنسانا في بعده الكوني، المنفتح على الآخر والمتسامح مع المختلف، والباسط ليد الرحمة على طريق الخلاص من المنطق الإقصائي. وقراءة للآية السابقة ترينا بوادر الحل الأمثل لمعالجة قضية لها خطورتها وتبعاتها الفكرية والإنسانية حين ترد الخلاف إلى الله:" فالله يحكم بينهم يوم القيامة في ما كانوا فيه يختلفون ". ومفهوم الله هنا يختلف من توجه إلى توجه، ومن رؤية إلى رؤية. وما على الناس إلا أن يطرحوا أفكارهم دون جبر أو إكراه، ويراعوا مبدأ السلم والتعايش بينهم، ولا يجعلوا من أفكارهم سيوفا تقض مضاجع الناس، أو ترمي بهم خارج الإطار الوجودي المميز لمنطلقاتهم. فالاحتكام إلى الله هو احتكام للقوانين والسنن المضبوطة، وإبعاد للصدام الحتمي حين تكون مرجعياتنا الفكرية والثقافية هي الفيصل في منازعاتنا ومحاكماتنا. وختاما أقول: إن طبيعة الموضوع طبيعة إشكالية، قد نكون قد وفقنا في ملامسة بعض جوانبها وقد نكون قد أخفقنا، لنفسح المجال بذلك أمام كل إنسان ليراكم تجربته ومعرفته، إلى تجربتنا القاصرة ابتداء عن الإحاطة بكل الصعوبات والسياجات المحيطة بالموضوع. والأمل كبير في العقول التنويرية أن تسعى هذا المسعى التنويري والإنساني، لتساهم بالبناء المنشود في صرح الإنسانية الممتد في أعماق التاريخ. والأمر ليس مستحيلا ولا ضربا من التنظير البعيد عن إفرازات الواقع. بل الأمر ممكن حين نستوعب أن طريق الإقصاء، طريق العاجزين عن خلق قنوات التعايش. وعندما يهبط كل منا إلى مصاف الإنسان ليتكلم لغة الخطأ والصواب، لا لغة الاستيعاب والهيمنة. عند ذلك لن يبقى أي مسوغ لشطب الآخر من قاموس العلمية أو غيره من القواميس. وسينهار حصن التسلط وجدار الإقصاء، لينصهر في بوتقة الأخوة والتعايش السلمي مع الأفكار المختلفة مهما كان اتجاهها أو مصدرها. وسنعبد الطريق إلى منطق هذه الآية:" وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ قُل لَّا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلَا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ ". ولكم تحيات يوسف هريمة
#يوسف_هريمة (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
إبراهيم النبي وأزمة الثقافة الروائية
-
إبراهيم النبي وأزمة الثقافة الروائية
-
الشفاعة المحمدية والامتداد العقدي المسيحي
-
الفكر الإسلامي وأزمة البنيات المُؤَسِّسَة
-
حفظ الدين وقصور نظرية مقاصد الشريعة
-
ثقافة الاحتكار واختراق منتدى المعراج
-
أُميَّة الرسول بين القرآن والمفهوم الثقافي
-
التنوع الثقافي والتنمية المنشودة
-
علم مصطلح الحديث وتأسيس الثقافة الروائية
-
الأديان ومستقبل الإنسانية
-
نزول عيسى مسيانية يهودية مسيحية في قالب إسلامي
-
القرآن الكريم والتسلط باسم الدين
-
ثقافة الشيخ والمريد وأزمة الفكر الديني
-
العواصم الثقافية ورهانات المستقبل
-
النص الديني بين العلوم الشرعية والعلوم الإنسانية
المزيد.....
-
أسعد أولادك…. تردد قناة طيور الجنة التحديث الجديد 2025 على ج
...
-
استقبلها الان.. تردد قناة طيور الجنة أطفال الجديد 2024
-
“فرح أطفالك طول اليوم” استقبل حالا تردد قناة طيور الجنة بيبي
...
-
كاتدرائية نوتردام في باريس.. الأجراس ستقرع من جديد
-
“التحديث الاخير”.. تردد قناة طيور الجنة 2024 Toyor Aljanah T
...
-
المقاومة الاسلامية في لبنان تستهدف بالصواريخ تجمعا للاحتلال
...
-
المقاومة الاسلامية في لبنان تعلن قصف صفد المحتلة بالصواريخ
-
المقاومة الاسلامية في لبنان تقصف مستوطنة راموت نفتالي بصلية
...
-
بيان المسيرات: ندعو الشعوب الاسلامية للتحرك للجهاد نصرة لغزة
...
-
المقاومة الاسلامية في لبنان تقصف بالصواريخ مقر حبوشيت بالجول
...
المزيد.....
-
شهداء الحرف والكلمة في الإسلام
/ المستنير الحازمي
-
مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي
/ حميد زناز
-
العنف والحرية في الإسلام
/ محمد الهلالي وحنان قصبي
-
هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا
/ محمد حسين يونس
-
المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر
...
/ سامي الذيب
-
مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع
...
/ فارس إيغو
-
الكراس كتاب ما بعد القرآن
/ محمد علي صاحبُ الكراس
-
المسيحية بين الرومان والعرب
/ عيسى بن ضيف الله حداد
-
( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا
/ أحمد صبحى منصور
-
كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد
/ جدو دبريل
المزيد.....
|