|
لحية أتاتورك
دلور ميقري
الحوار المتمدن-العدد: 1988 - 2007 / 7 / 26 - 11:40
المحور:
كتابات ساخرة
صباحاً ، أفقنا على هدير مزلزل ، منبعث من مكبرات الصوت . كان الوقت فجراً ، وهذا الصخب لا يمكن أن يكون مصدره إلا آذان المساجد ، الألفية العديدة ، في مدينتنا المباركة ؛ اسطنبول . " حيّ على المعجزة .. ! " ، تناهى صوت مكبر الصوت وأصداؤه . ما هذا ، أيضاً ، بربكم : هل أدخلوا تحويراً ، جديداً ، على ترتيلة صلاتنا ؛ كيما يتفاقم شقاق أهل الإسلام ؟ فكما تعلمون ، كان القزلباش ( الشيعة ) قد جاؤوا ببدعة مماثلة ، زعمت أنّ الترتيلة ، الأصلية ، للرسول الكريم ( ص ) ، هيَ " حيّ على خير العمل " ـ كذا ، بمحل ما إعترف به فقهاء المذاهب الأربعة لأهل السنة ؛ " حيّ على الفلاح " . نعم ، مفردة جديدة . وهذا ما كان ينقصنا ، في الحقيقة ، نحن الذين نجز رقاب بعضنا البعض منذ نيّف وخمسة عشر قرناً . قولوا لي ، بربكم الواحد الأحد ، هل نحتاج نحن المسلمون لقرن جديد .. أعني ، لعهد جديد من المجازر !؟ وهذا مثال العراق ، اليوم . فمن أجل هذه المفردة ـ صانعة الشقاق ـ لم يعرفوا فلاحاً أو عملاً مفيداً ؛ إلا النحر والتفجير والتدمير . كان الله قد أنعم عليهم بحاكم عادل ، ودود المعشر ، أعلن وهو السنيّ أنه متسلسل من السلالة الحسينية ـ عليها السلام . وكان فوق ذلك ، يٌشبه أتانوركنا ؛ أي أنه علماني ومؤمن في آن . مرة كان رئيسهم ، ذاك ، يخرج عليهم بطقم بيير كاردان وببرنيطة وسيجار ، ومرة بعباءة حجازية وعقال بريم ومسبحة . ولكنهم ناسُ البطر ـ وقانا الله من هذه الخصلة غير المحمودة . إستدعوا إذاً الأمريكي الذي لا يعرف ربّه ، وهللوا وهزجوا لعسكره حينما دخل بغداد غازياً . أما رئيسهم المسكين ، فأنتم أعلم بحاله بعد أسره ومحاكمته وإعدامه . كان بطلاً ، بحق . والأهم ، أنه أثبت تقواه ؛ هوَ الذي حمل المصحف الشريف طوال جلسات المحاكمة ، ثم مات مردداً الشهادتين . الشعب العراقي ، يا حسرة ، يدفع ثمن دم الرجل . الله تعالى ، سيعاقبهم في الآخرة ، أيضاً . وخصوصاً ، على معصية تحطيم تماثيل زعيمهم . هكذا فعال ، قبيحة ، لم تعرفها تركية الحديثة : فليكن الحاكمون مسيئين ، وليسقطوا ، الواحد بعد الآخر ، في الإنتخابات أو في الإتقلابات العسكرية . ولكن تماثيل زعيم الأمة ، أتاتورك ، باقية مخلدة لا يستطيع كائناً من كان مسّها أو تدنيسها بفعلة قبيحة !
قلنا أنّ هدير مكبرات الصوت ، على الأرجح ، كان مصدرها المساجد . من جهتي ، ما كنت أرتاد الجامع إلا في الأعياد وبعض المناسبات الدينية . المهم ، أنّ الفضول إجتاحني وقررت الخروج للشارع ، كيما أستجلي وجه المسألة . لماذا لا تقول ، أنّ أمة الله أكبر ، جميعاً ، متجمهرة هناك ، تحت مأذنة جامع الحيّ . " ما هذا الهراء ، ولاه ؟ .. من جرأ على تعكير رقادنا بهذا النداء ، السفيه ؟ " ، كان يصرخ هذا وذاك متوجهاً بكلامه نحو الأعلى ؛ حيث المفترض أن المؤذن ثمة ، في حجرته . لم يخرج أحد من ذلك المكان ، وإنما على حين بغتة تقاطر علينا صبية صغار ، متشردون ، وهم يهتفون بصوت واحد : " معجزة ! .. معجزة ! " . وبالكاد فهمنا منهم معنى الإعجاز ، المقصود . يا سيدي ، يقولون أنّ تمثال أتاتورك ، المعتلي صهوة جواده ، والمتشامخ في المستديرة المؤدية لحينا ، قد نبتت له لحية طويلة ، مسترسلة . سأل أحدهم الأطفالَ ، وهوَ لم يفق بعدُ من الذهول : " وشاربه ، أمحفوف أيضاً بحسب السنّة الشريفة ؟ " . هزأه الحاضرون ، بطبيعة الحال : فأتانورك ، كما هو معروف ، كان حليق الشارب حياً وميتاً ، على السواء ! السيل البشري ، المتجمهر هنا قدام الجامع ، ما لبث أن زحف نحو تلك المستديرة . رأيتني منقاداً معهم ، بنفس المقصد . بالفعل ، هذا هو التمثال المهيب وهي ذي اللحية ، الموعودة . إنها على ما يبدو من نفس طينة زعيمنا .. أعني ، طينة تمثاله ! للحقيقة ، لحية أنيقة وتليق بزعيم قوميّ ، محبوب . وذهب المجتمعون في مذاهب شتى ، بحثا عن تفسير للأمر ـ أو المعجزة . ولكنني وقتئذٍ إستقريت على رأي ، قال صاحبه أنّ المسألة سياسية بحتة ، فلا معجزة ولا قزلقرط . كيف ، أوضح الرجلُ أنّ حزب عدالتسي وتنميتسي ، الحاكم ، سيخوض الإنتخابات المقررة تحت شعار : " نحو جمهورية تركية علمانية ، عثمانية " .. وهل لدينا ، هنا في تركية ، ما هو أكثرَ تقديساً وتبجيلاً من تمثال أتاتورك ؛ لكي يبارك شعارهم ـ بحسب المعجزة ـ مقدماً لحيته لهم ، عربوناً على الفوز القادم ، المبين ؟
لا أخفيكم أن كلام ذلك الرجل قد جعلني ، عندئذٍ ، محبطاً تماماً . ما هذا ، أيعقل أن يكون قادة عدالتسي وتنميتسي الورعين المؤدبين على هذه الأخلاق ، الوضيعة ؟ فلا كانت العدالة ، إذاً ، ولا التنمية ! .. هكذا فكرتُ مهموماً ، حانقا . لقد أعطيتُ صوتي ـ أنا العلمانيّ المتحرر ـ للحزب المذكور ذي التوجهات الإسلامية ، بعدما خاب أملنا جميعاً بالأحزاب العلمانية ، التي لا همّ لقادتها ومسؤوليها سوى هبش ميزانية الدولة وعقد الصفقات مع المافيا ومفسدي الأرض . الأخوان في عدالتسي وتنميتسي وعدوا بالمستقبل المشرق لبلادنا الحبيبة ، وبالرفاه والبنين لأبنائها البررة . العلمانية سيحترمونها . وما هيَ هذه العلمانية ، التركية ، بربكم : إنها حرية الرجل في أن يتوجه للملهى ، حال قبضه الراتب ، فيشرب هناك كم كأس عرق وهو يزهزه على أنغام الموسيقا والحركات المثيرة للراقصة . وإذا ما تبقى بعد نقود ، من الراتب المنكود ، يمم صاحبنا شطره ناحية تلك الناحية ، المعلومة ! حتى لو كان الرجل متزوجاً ، فهل يعيبه بعدئذٍ عودته للمنزل البائس ، فجراً ، وصياح وعويل زوجته على رأسه حتى غروب الحضارة التركية !؟ على أنّ خيبة أملي ، الموصوفة ، بحزبنا وقادته ، سرعان ما تبددت ولله الحمد . نعم . فالمعجزة تلك ، ما كانت عمل نحات ما ، مأجور ، وفي حيّ فقير من أحياء اسطنبول وإنتهى . لا ، بل تأكدت بنفسي وبعينين سيأكلهما الدود ، أنّ تماثيل أبي الأمة ، جميعاً ، قد نبتت لها لحى ـ وكأنه أضحى فتىً بالغاً للتو ! تسألونني ، وربما تحلفونني ، أبشرفك قد عاينتَ تلك التماثيل كلها ، المتناثرة في أرجاء مدينتك ، الكبرى ؟ نعم ، ووالذي نفسي بيده ، أني تجشمتُ يومذاك الأهوالَ في سفري من مدينة لأخرى ، ومن قرية لأختها ، لكي أحظى بمنظر اللحى تلك ، المباركة ، المسترسلة بوقار جدير بإسم صاحبها . الحافلة تسير ، وعيني على الطريق لا تغمض أبداً . حتى لقد تناهى " سفر برلك " فضولي إلى قلب المنطقة الجنوبية الشرقية . ولأعترف لكم ، بأنّ بصري راح يهمل لحية أتاتورك ، فيما لاح له ثمة من مناظر البؤس والتخلف ، المريعة . وتذكرت للفور قضية كاتبنا الكبير ، الفائز بنوبل الآداب للعام المنصرم . لم أقرأ له شيئاً ، في الحقيقة . فأنا عادة ً أتصفح الجرائد ، لتضييع الوقت فقط . إلا أن تكرار إسم الرجل ، لفت نظري وخاصة ً ما إنهال عليه من إتهامات وبذاءات صحافييناعلى شرائه تلك الجائزة ، الثمينة ، بثمن بخس ؛ ألا وهوَ بيعه لسمعة وطنه وشعبه ، وخاصة بقبوله ما يسمى " مجازر الأرمن " ، التي إخترعها الغرب الكافر ليمنعنا من الدخول في إتحاده ، العتيد .. الخ .
وإذاً ، فما رأيته تطابق مع ما كان أديبنا ذاك ، النوبليّ ، قد وصفه ـ بحسب الصحافة ـ في روايته الأخيرة ؛ عن زيارة له لمدينة " قارص " ، الكردية ، وصدمته بالأوضاع المشينة لساكنيها . فعلاً المرء يخجل من كونه تركياً ، فيما هو يرى كل هذه المناظر المزرية ؛ وبالرغم من أن تماثيل الوالد ، المعظم ، هنا وهناك مجللة بهذه اللافتة المخطوطة بعبارات كبيرة : " سعيدٌ من يقول أنني تركيّ " ! .. ليسعدنا الربّ ، إذاً ، وليساعدنا أيضاً . ولكنني خلال الطريق ، إهتديت إلى طريقة ترضي سواءً بسواء ضميري ـ كمؤمن يخاف من آخرته ، وواجبي ـ كتركي غيور على سمعة وطنه . فالحواجز الكثيرة التي أقامها الجيش والجندرمة ، ذكرتني بالخطر الإنفصالي ، الكردي ، الذي يهدد كيان الوطن العظيم . هذه مسألة لا يختلف عليها أحدٌ هنا ، أكان علمانياً أم عثمانياً أم عشماوياً ! رئيس الأركان يصرخ ، بأنّ قواته ستسحق الإنفصاليين وتبيدهم عن آخرهم . فيزاود عليه فضيلة شيخنا رئيس الوزراء ، بأنّ وحدة الوطن أهم بكثير من الإنضمام إلى الإتحاد الأوروبي وحتى من الحلف الإستراتيجي مع أمريكة . لا بل وسماحة الملا ، وزير الخارجية ، ذهب إلى أبعد من ذلك حينما توعّد الأمريكان بالويل والثبور إذا ما ثبت أن قواتهم في شمال العراق متورطة بتسليح الإنفصاليين هناك . كيف ، لم يحدد سماحته ، الإجراءات الرادعة : أهيَ قطع مساعداتنا الإقتصادية عن واشنطن ، حتى يفطس شعبها الجائع أصلاً ، أم إرسال جيشنا الباسل فرد مرة إلى بلادهم لقطع دابرهم ؛ خاصة وأن نظامهم فيدرالي ويهدد أسس كياننا ويشجع أكرادنا على المطالبة بالفيدرالية ؟ ولأعد إلى اللحية المعجزة ، حيث لحظت أنّ تماثيل والدنا هنا ، في المنطقة الجنوبية الشرقية ، مصبوبة من الإسمنت ؛ وعلى غير ما إعتدناه في غربنا التركي من مادة رخامية ، فاخرة . هذا ظلم فادح ، يعاني منه أهالي المنطقة ؛ أتجرأ وأقولها بصوت عال ودونما خوف من المقاضاة أمام المحكمة بتهمة تأييد الإرهاب والإنفصالية . قرداش ! فليكونوا أكراداً أو قروداً ، ألا يستحقون تماثيلَ من الرخام لا من السخام ؛ على الأقل لخاطر هيبة أبينا في الأرض ولحيته الجديدة ، المقدسة ؟ يحدثونك عن الإصلاحات في المنطقة الجنوبية الشرقية : فلنبادر إذاً لتخصيص ميزانية لهذه المنطقة ، كي لا يبقى تمثال واحد لأتانورك من تلك المواد الرخصة . وهكذا ، نكون قد حققنا المساواة المطلوبة بين رعايانا وخلصنا ضميرنا ـ كمسلمين مؤمنين ، وأسكتنا إلى الأبد أصوات المنتقدين لدولتنا في الغرب الكافر والساعية لمنعنا من الدخول في الإتحاد الأوروبي . والأهم ، أن واحدنا حينها سيكون سعيداً ، حقاً ، بأن يقول بالفم المليان : أنا تركي !!
#دلور_ميقري (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
السادي والسويدي
-
حكاية باموك : إسمٌ بينَ الوردةِ والأحمَر / 5
-
ويحدثونك عن العدالة السويدية
-
حكاية باموك : إسمٌ بينَ الوردةِ والأحمَر / 4
-
محاكمة الكاتب
-
التنكيل بالكاتب
-
رحلة إلى الجنة المؤنفلة / 2
-
سندريلا السينما : فنها وعشقها الضائع
-
كركوك ، قلبُ تركستان
-
سندريلا السينما : حكاية ُ حياةٍ ورحيل
-
في مديح الخالة السويدية
-
رحلة إلى الجنة المؤنفلة
-
أدبُ البيوت
-
مناحة من أجل حكامنا
-
حليم والسينما
-
كنتُ رئيساً للكتاب العرب
-
السينما المصريّة وصناعة الأوهام
-
شاعر الملايين : ثلاثة مرشحين للجائزة
-
كمال جنبلاط والتراجيديا الكردية
-
من معالم السينما المصرية : نهر الحب
المزيد.....
-
أفلام أجنبي طول اليوم .. ثبت جميع ترددات قنوات الأفلام وقضيه
...
-
وعود الساسة كوميديا سوداء.. احذر سرقة أسنانك في -جورجيا البا
...
-
عيون عربية تشاهد -الحسناء النائمة- في عرض مباشر من مسرح -الب
...
-
موقف غير لائق في ملهى ليلي يحرج شاكيرا ويدفعها لمغادرة المسر
...
-
بأغاني وبرامج كرتون.. تردد قناة طيور الجنة 2023 Toyor Al Jan
...
-
الرياض.. دعم المسرح والفنون الأدائية
-
فيلم -رحلة 404- يمثل مصر في أوسكار 2024
-
-رحلة 404- يمثّل مصر في -أوسكار- أفضل فيلم دولي
-
فيلم -رحلة 404- ممثلاً لمصر في المنافسة على جوائز الأوسكار
-
فنانون من روسيا والصين يفوزون في مهرجان -خارج الحدود- لفن ال
...
المزيد.....
-
فوقوا بقى .. الخرافات بالهبل والعبيط
/ سامى لبيب
-
وَيُسَمُّوْنَهَا «كورُونا»، وَيُسَمُّوْنَهُ «كورُونا» (3-4)
...
/ غياث المرزوق
-
التقنية والحداثة من منظور مدرسة فرانكفو رت
/ محمد فشفاشي
-
سَلَامُ ليَـــــالِيك
/ مزوار محمد سعيد
-
سور الأزبكية : مقامة أدبية
/ ماجد هاشم كيلاني
-
مقامات الكيلاني
/ ماجد هاشم كيلاني
-
االمجد للأرانب : إشارات الإغراء بالثقافة العربية والإرهاب
/ سامي عبدالعال
-
تخاريف
/ أيمن زهري
-
البنطلون لأ
/ خالد ابوعليو
-
مشاركة المرأة العراقية في سوق العمل
/ نبيل جعفر عبد الرضا و مروة عبد الرحيم
المزيد.....
|