محمد الكوخي
الحوار المتمدن-العدد: 1983 - 2007 / 7 / 21 - 05:51
المحور:
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
يا واهب مملكة العقل...
مملكتي مأساتي ! ( أحمد مطر, قصيدة انهيار المملكة, لافتات 3)
لا يسع المرء وهو يطالع كتب التاريخ الإسلامي, سوى الحسرة والأسى على تلك العقول النيرة والطاقات الجبارة التي ضيعناها في غمرة الصراعات السياسية والمذهبية والتخلف الاقتصادي والاجتماعي... هذا المناخ الذي جاء نتيجة لحالة الحرب الأهلية الطويلة والتي عمرت منذ مقتل الخليفة عثمان بن عفان (ض) إلى اليوم... حرب مازلنا نعيش آخر فصولها الدموية في العراق حيث تختلط الطائفية العرقية ( عرب, أكراد, تركمان...) بالطائفية المذهبية ( سنة, شيعة, يزيدية...) لتنتج لنا خرابا يأتي على الأخضر و اليابس, وتضمن الاستمرارية للأحقاد والضغائن التي تغدي من جديد هذه النزعة الطائفية, و تؤكد بقائها, وبقاء حالة الحرب الأهلية الدائمة التي لا يعلم إلا الله وحده متى وكيف ستنتهي؟!!!
منذ أيام انفجرت سيارة مفخخة في سوق البصرة مخلفة عشرات القتلى والمصابين ... مشهد مؤلم ( رغم أنه صار اعتياديا...) يدل على مدى ما وصلنا إليه من تخلف وانحطاط, خصوصا إذا ما عرفنا تاريخ ذلك السوق الشهير في البصرة حيث كان في الماضي عبارة عن تجمع كبير, ليس فقط للبضائع والسلع وإنما أيضا للناس من جميع الأديان والمذاهب, وللأفكار وأنماط العيش المختلفة... باختصار كان نقطة تلاقح للحضارات ونموذجا رائعا للتعايش الإنساني... وهو السوق نفسه الذي عرف المناقشة الشهيرة بين مفكرين كبيرين من أقطاب المعتزلة في القرن الثالث الهجري ( الثامن ميلادي ), حول فكرة الذرات أو ما كان يعرف في التراث الإسلامي ب" الجوهر الفرد" أو " الجزء الذي لا يتجزأ" , وقد كانت هذه المناقشة هي البداية الأولى لنقاش طويل بين المدارس الكلامية والفلسفية حول موضوع فكري وعلمي يمكن أن نعتبره بمثابة الإرهاصات الأولى للفيزياء النووية والذرية الحديثة... هذان المفكران هما أبو الهذيل العلاف ( 135-227 هجرية/ 751-842 م ) وابن أخته إبراهيم بن سيار النظام ( 185-221 هجرية/ 799-853 م ),( يقال أنه لقب بالنظام لأنه كان يشتغل بنظم الخرز في سوق البصرة...(1)), حيث قال العلاف بأن المادة تتكون في وحدتها الصغرى من " الجزء الذي لا يتجزأ " ( ما نسميه اليوم بالذرة ) وأن الجسم يقف عند نهاية في التجزئة, في حين ذهب النظام إلى إنكار " الجزء الذي لا يتجزأ " وقال بأن الجسم يتكون من أجزاء غير متناهية صغارا لا تنقسم أصلا وأنه يتجزأ بلا نهاية ... فكان بذلك من منكري الجوهر الفرد, إذا لم نقل بأنه الوحيد برفقة تلميذيه الجاحظ و الخياط والمفكر الأندلسي الكبير ابن حزم (2), الذين أنكروا الجوهر الفرد عبر التاريخ الإسلامي الطويل. و كشهادة للتاريخ لا بد من القول بأن علم الفيزياء الحديث يؤكد صحة ما ذهب إليه النظام ومن وافقوه في قضية الذرات, فقد أمكن تقسيمها إلى وحدات أصغر هي الإلكترونات و البروتونات والنوترونات, وهي الأخرى قد أكمن تقسيمها إلى وحدات أصغر وهي الكواركات... ويتم الحديث مؤخرا عن وجود وحدات أصغر للمادة تتكون منها هذه الكواركات, ويحاول علماء الفيزياء القيام بفصلها تجريبيا رغم وجود صعوبات كثيرة في ذلك... ما يهمنا في تلك المناظرة الشهيرة بين النظام وخاله العلاف هو كونها أول مرة يتم فيها مناقشة موضوع الذرات في التاريخ الإسلامي, كما أنها كانت أول مرة تستخدم فيها أدلة تجريبية في نقاش علمي وقد كان ذلك بمثابة تدشين لحركة علمية تنويرية, كان للمفكرين المعتزلة دور الريادة في نشوئها وتطورها, قبل أن يتم سحقها بالقوة من طرف الخليفة العباسي المتوكل ( ناصر السنة!!!) بمباركة حلفائه من الفقهاء والمحدثين أنصار مدرسة الحديث السلفية, العدو اللدود لمدرسة الرأي حاملة لواء العلم والتنوير... سنة 234 هجرية بعد أن أصدر مرسومه الإرهابي, الذائع الصيت والسيئ السمعة, بمنع التفكير والنقاش... وقد كان للنظام دور كبير في نشوء هذه الحركة العلمية وتطورها بالرغم من أنه لم يعمر طويلا فقد توفي مبكرا وهو شاب لا يتجاوز عموه 36 سنة, وكان فقيرا يعيش على ما تصنعه يداه وينفق جله في اقتناء الكتب, ولنا أن نندهش إذا ما علمنا أنه خلف تراثا ضخما من الكتب يعدها المؤرخون بالعشرات ( أزيد من 90 كتابا حسب رواية الجاحظ ) ضاعت كلها إبان حملة القمع والحصار التي نفذها المتوكل العباسي وخلفاؤه من بعده ضد كتب المعتزلة... وكانت له نظريات كثيرة في ميادين مختلفة علمية وفكرية ودينية... فهو كان بحق مفكرا موسوعيا كبيرا. فالشهرستاني يصف النظام بأنه " طالع كثيرا من كتب الفلاسفة وخلط كلامهم بكلام المعتزلة. وأنه انفرد عن أصحابه ( المعتزلة ) بكلام...(2) " . أما ابن المرتضى فيصفه بأنه " حفظ القرآن و الإنجيل والتوراة والمزامير وتفاسيرها مع كثرة حفظه للأشعار والأخبار واختلاف الناس في الفتيا...(3) ". ويمكن فهم ذلك بالمناخ الثقافي الذي كانت تعرفه البصرة في ذلك الزمان, فهي كما قال محمد عابد الجابري في معرض حديثه عن دور البصرة في نشوء حركة التنوير الإسلامية ( القدرية الأوائل وخلفائهم المعتزلة ) بأنها كانت أشبه بهونغ كونغ اليوم, حيث تجد أناسا من أعراق وأديان ولغات مختلفة ... وهو ما دفع بهؤلاء المفكرين إلى محاولة تطوير الفكر الإسلامي حتى يستطيع مواجهة التحديات التي يفرضها ذلك التعدد والتنوع الثقافي. وقد كان النظام أحد هؤلاء الذين استطاعوا نقل الفكر الإسلامي نحو العالمية, حيث يروي تلميذه المشهور ( ربما أكثر حتى من أستاذه ) أبو عثمان الجاحظ, بأنه كان متكلما كبيرا لا يشق له غبار, وأنه كان يناظر ملاحدة الدهرية والمانوية والهندوس واليهود... وما غلبه أحد في مناظرة طوال حياته (4). ولذلك يضعه المعتزلة على رأس الطبقة الثانية من مفكريهم ويعتبرونه ثاني أهم شيوخهم بعد واصل بن عطاء ( الإمام الغزال مؤسس المذهب الاعتزالي) (5). وهو لا يقل شأنا عن ذلك في مؤلفات الباحثين المتأخرين والمعاصرين. فقد قال عنه المؤرخ الهولندي الشهير دي بور بأنه مفكر جدير بالإعجاب...(6) في حين يصفه عبد الجواد ياسين بأنه يمثل لحظة التوهج الكبرى في الفكر الاعتزالي جميعا (7). وقد ذهب آخرون إلى اعتباره ذروة ما وصل إليه الفكر الإسلامي عبر تاريخه الطويل (8).
ولم تكن المسألة الذرية هي المجال الوحيد الذي تكلم فيه النظام, فهو كان يملك عقلية علمية فذة تميل نحو الموسوعية, وهو ما تجلى في تنوع القضايا التي ناقشها... ولم يكن من الغريب عليه طرح الأسئلة الوجودية الكبيرة كقضية وجود العالم, والتي انقسم حولها المفكرون منذ القدم إلى فريقين, أحدهما يقول بنظرية الكمون, أي أن العالم خلق دفعة واحدة وأن مقدار ما فيه من المادة لا يتغير ( ومن هنا جاء المبدأ الفيزيائي المعروف عن انحفاظ كمية المادة وكمية الطاقة...) , وفريق آخر يقول بنظرية الخلق المستمر, أي أن الله يتدخل باستمرار لإيجاد أنواع جديدة من الكائنات... وقد حمل لواء النظرية الأولى الفلاسفة الطبيعيون أنصار النزعة العلمية التجريبية, في حين كان أنصار النظرية الثانية من رجال الدين ( بمن فيهم حاخامات اليهود وآباء الكنيسة المسيحية وبعض فقهاء المسلمين...) والفلاسفة الإلهيين ( وعلى رأسهم أفلاطون...). ولا بد من الإشارة هنا بأن العلم الحديث انتصر نهائيا لنظرية الكمون والخلق دفعة واحدة خصوصا بعد ظهور نظرية الانفجار العظيم في الفيزياء وظهور البيولوجيا التطورية... وهو انتصار جديد يقدمه العلم الحديث لأبي إسحاق إبراهيم النظام الذي كان واحدا من أشد المدافعين عن الكمون في الفكر الإسلامي, حيث قال بأن " الله خلق الموجودات دفعة واحدة على ما هي عليه الآن, معادن ونباتا وحيوانا وإنسانا. ولم يتقدم خلق آدم عليه السلام خلق أولاده, غير أن الله أكمن بعضا في بعض. فالتقدم والتأخر يقع في ظهورها من مكامنها دون حدوثها ووجودها...(9) ". أما كيف تظهر الموجودات المادية من مكامنها فهو يتصور ذلك بطريقة الحركة... يقول بأن " أفعال العباد كلها حركات فحسب والسكون حركة اعتماد. والعلوم والإرادات حركات النفس. ولم يرد بهذه الحركة, حركة النقلة ( الانتقال من مكان لآخر) وإنما الحركة عنده مبدأ نغير ما, كما قالت الفلاسفة, من إثبات حركات في الكيف والكم والوضع والأين والمتى... إلى أخواتها- أي إلى سائر مقولات الفلاسفة...(10) ". ونظرية النظام في الكمون والظهور هي التي دفعته إلى تبني نظرية علمية أخرى هي مبدأ السببية القائل بأن لكل حدث علة أحدثته, مما يجعل الكون متصفا بالاطراد السببي, أي أن لكل ظاهرة سببا مباشرا ونتائج مباشرة, واطراد الطبيعة هذا هو الذي يدعم وجود القوانين العلمية لأن مجرد التفكير في البحث عن قانون علمي يفترض قبلا أن الطبيعة مطردة ومنتظمة تخضع لقانون ما, ومهمة العلم هي تعليل الظواهر والبحث عن أسبابها, أما التسليم بحدث ما بدون سبب فلا يعني إلا إنكار العلم ذاته ( وهو ما فعله حجة الإسلام أبو حامد الغزالي حين نفى قانون السببية, مما أدى به إلى نفي مكانية العلم بالظواهر الطبيعية, لينتهي به الأمر متصوفا وهو الذي بدأ عقلانيا... ). وبما أن النظام كان من مؤسسي النزعة العلمية التجريبية في الحضارة الإسلامية, فقد كان من أبرز أنصار السببية في القوانين الطبيعية, يقول الشهرستاني, " حكا الكعبي أنه ( النظام ) قال إن كل ما جاوز محل القدرة من الفعل فهو فعل الله تعالى بإيجاب الخلقة, أي أن الله تعالى طبع الحجر طبعا وخلقه خلقة, إذا دفعته اندفع وإذا بلغت قوة الدفع مبلغها عاد الحجر إلى مكانه طبعا ... (11)".
لكن أهم ما عرف به النظام ليس نشاطه العلمي وإنما مواقفه الفكرية في مواضيع دينية كثيرة كتفسير القرآن الكريم وجمع الحديث وحجية الإجماع ومعجزات الرسول صلى الله عليه وسلم وموقفه من عدالة الصحابة... وهو ما تسبب في مأساة الرجل والتي تتجلى في كونه أكثر من تعرض في التاريخ الإسلامي الطويل لحملات التكفير والسب والشتم والطعن في دينه, كما تعرضت مدرسته وكتبه لحملة حصار طويلة, انتهت بفقدان جميع كتبه ضمن ما ضاع من كتب المعتزلة الأوائل وكتب القدرية الأوائل وكتب حركة التنوير عموما... وتعرض اسمه لتشويه كبير, قام به أعداءه من التيار السلفي ( أتباع مدرسة الحديث وأنصارهم الأشاعرة والذين أعطوا للعقل السني صياغته النهائية... ) وحتى بعض أفراد التيار الاعتزالي نفسه... فالمنظومة السنية ترى النظام كافرا لأنه أنكر حجية الإجماع وألف في ذلك كتابا اسمه " النكت " (12)( ضاع ضمن ما ضاع من كتبه... ), وتعد قوله برد الإجماع فضيحة من الفضائح على حد تعبير البغدادي الذي يقول " أن النظام استثقل أحكام الشريعة في فروعها فلم يجسر على إظهار رفعها, فأبطل الطرق الدالة عليها فأنكر حجة الإجماع وحجة القياس في الفروع الشرعية...(13)". ويبدو لنا من كلام البغدادي ( وهو أشعري متعصب...) أنه يتهم النظام بكونه شخصا سيء النوايا لا هدف له إلا مواجهة الشريعة الإسلامية و محاولة إبطالها...إننا هنا أمام محاكمة للنوايا أشبه ما تكون بمحاكم التفتيش الأوربية في القرون الوسطى... لكننا حينما نقرأ ما كتبه الجاحظ تلميذ النظام النجيب, نفهم لماذا رفض حجية الإجماع, فهو ينكره لأنه ينكر إمكانية الإجماع أصلا, بسبب تفرق العلماء واستحالة تجمعهم في مكان واحد وفي وقت واحد, ومن جهة أخرى يجوز إجماع الأمة في كل عصر وفي كل العصور على الخطأ ( بمعناه المعرفي وليس الأخلاقي... ) من جهة النظر والاستدلال (14). إن النظام ينكر الإجماع لأسباب علمية وليس بسوء نية كما تروج لذلك كتابات المدرسة السلفية والتي أثار هذا المفكر ثائرتها بسبب مواقفه النقدية الجريئة تجاه البنية العقلية السلفية الخاملة والمريضة ونزعتها المناهضة للعلم ولأدواته النقدية, وإصرارها الشديد على الإتباع والانقياد لموروث الآباء والأجداد دون التفكير و إمعان النظر فيه ( رغم أن الله تعالى يقول في كتابه العزيز, قالوا وجدنا آباءنا عليها عاكفين قل أو كان آباؤكم لا يعقلون...). وأحد الأمثلة الأخرى للنزعة النقدية عند النظام رفضه للروايات التي تتحدث عن المعجزات الخارقة للطبيعة والتي نسبت للرسول صلى الله عليه وسلم, كشق القمر وتسبيح العصا بيده وتظليل الغمام له وانفجار الماء بين أصابعه... فهو يقول في رد رواية ابن مسعود عن شق القمر, " زعم ابن مسعود أن القمر انشق له وأنه رآه وهذا من الكذب الصريح الذي لا خفاء به, لأن الله تعالى لا يشق القمر له وحده ولا لآخر معه ولكن يشقه (في المستقبل وليس في الماضي) ليكون آية للعالمين وحجة للمرسلين, ومزجرة للعباد وبرهانا في جميع البلاد, فكيف لم يعرف به العامة ولم يؤرخ الناس بذلك العام ولم يذكره شاعر, ولم يسلم عنده كافر ولم يحتج به مسلم على ملحد...(15) ". إننا هنا أمام نموذج رائع في نقد الروايات, مبني على مجموعة من الأسئلة الاستنكارية التي تستخدم لرد رواية ابن مسعود ما دامت تخالف صحيح العقل ولنا أن نتساءل عن الثمن الذي دفعناه في مجال الحديث النبوي بتغييب النزعة العقلية في تمحيص الروايات وهذا موضوع آخر له شجون... ومن الأمثلة الأخرى للحاسة النقدية عنده, رأيه في الصحابة, حيث يعتبرهم بشرا مثلنا يصيبون ويخطئون, وأن البشري الوحيد الذي كان معصوما من الخطأ هو الرسول صلى الله عليه وسلم, وهذا لا يعني أنه لم يكن يخطأ, بل أنه كان يخطأ وكان الوحي يصحح له أخطاءه ( كما يشهد بذلك القرآن في أمثلة عديدة كقوله, عبس وتولى أن جاءه الأعمى وما يدريك لعله يزكى أو يذكر فتنفعه الذكرى... أو قوله, يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله تبغي مرضاة أزواجك والله غفور رحيم... أو في قضية أسرى بدر وافتدائهم بالمال...), أما الصحابة فقد كانوا يخطئون دون أن يصحح لهم الوحي أخطائهم خصوصا بعد وفاة الرسول ودخول الصحابة من بعده في حروب أهلية طويلة ( حرب الجمل بين علي(ض) وعائشة (ض) وطلحة والزبير(ض)... أو حرب صفين بين علي (ض) ومعاوية...), وهو ما ترفضه المدرسة السلفية التي تراهم جميعا عدولا ومعصومين من الخطأ(رغم أنهم قتلوا بعضهم البعض!! ووجود كثير من الروايات المنسوبة للرسول صلى الله عليه وسلم, والتي تطعن في الصحابة كحديث الحوض, وحديث القاتل والمقتول في النار...!!!), فالبغدادي يقول بأن " النظام تابع واصل بن عطاء في نقده للصحابة, بل تجاوزه في ذلك وأخذ أعمال الصحابة بالنقد, ولم ينج منه حتى الأربعة الراشدون.واتهم بعض الصحابة من رواة الحديث بالكذب الصريح كما فعل بأبي هريرة, الذي يصفه بأنه [ أكذب الناس]...(16) ".
و امتدت حملة التكفير ضد النظام لتشمل حتى آراءه العلمية, فقد كانت نتيجة مخالفته لنظرية الجوهر الفرد ( النظرية الذرية ) أن ذهب أغلب المتكلمين إلى تكفيره, فأكثر المعتزلة المتأخرين متفقون على ذلك, يقول البغدادي واصفا حالة العداء الكبير الذي عانى منها هذا الرجل ومدرسته الفكرية, " وقد قال بتكفيره أكثر شيوخ المعتزلة منهم أبو الهذيل العلاف فإنه قال بتكفيره في كتابه المعروف بالرد على النظام وفي كتابه عليه في الأعراض والإنسان والجزء الذي لا يتجزأ, ومنهم الجبائي, والإسكافي له كتاب عن النظام كفره فيه في أثر مذهبه, ومنهم جعفر بن حرب صنف كتابا في تكفير النظام بإبطاله الجزء الذي لا يتجزأ, وأما كتب أهل السنة و الجماعة في تكفيره فلا حد لها , فللشيخ الأشعري في تكفير النظام ثلاثة كتب, وللقلانسي عنه كتب ورسائل, وللقاضي أبي بكر كتاب كبير في بعض أصول النظام, وقد أشار إلى ضلالاته في كتابه إنكار المتأولين...(17) ".
لكن الإنسان ليدهش عندما يقرأ في كتب الذين كفروه اعترافات منهم بأنه كان إنسانا خارق الذكاء, وذو أخلاق عالية, بل كان له دور هائل في التصدي للملاحدة والدهريين وأتباع الديانات الشرقية القديمة ( المانوية, المزدكية, الزرادشتية...) ووقف امتدادهم الذي بلغ ذروته في العهد العباسي الأول, وكان يشكل خطرا كبيرا على الإسلام وأفكاره وقيمه... بل أنه كان وراء دخول عدد كبير منهم إلى الإسلام يعدهم المؤرخون بالآلاف... إن هذا التناقض الصارخ في موقفهم من النظام يعود بالأساس إلى غياب مبدأ أساسي في الإسلام وهو مبدأ التسامح والذي تم تغييبه لزمن طويل ليفسح المجال أمام التعصب الطائفي والمذهبي وما يرافقه من اتهامات بالكفر والزندقة والطعن في دين الخصوم تمهيدا لتصفيتهم ماديا ومعنويا...
هناك أصوات كثيرة بدأت تدعو المسلمين إلى تبني مبدأ التسامح مع الآخر والحق في الاختلاف معه, لكننا نقول بأنه صار من الضروري أن ندشن لمرحلة التسامح مع الذات أولا قبل النظر إلى الآخرين...
المراجع:
(1) البلخي, البدء والتاريخ ص40.
(2) الشهرستاني, الملل والنحل ص 55.
(3) ابن المرتضى, المنية والأمل ص3.
(4) الجاحظ, كتاب الحيوان ص 47.
(5) الخياط, الانتصار ص53.
(6) دي بور, تاريخ الفلسفة في الإسلام ص 86.
(7)عبد الجواد ياسين, السلطة في الإسلام ص 109.
(8) حسين مروة, النزعات المادية في الفلسفة العربية الإسلامية ص 758.
(9) الشهرستاني, الملل والنحل ج1 ص 58.
(10) المصدر نفسه ص 57.
(11) المصدر نفسه ص 63.
(12) ابن أبي الحديد, شرح نهج البلاغة ج2.
(13) البغدادي, الفرق بين الفرق ص 114.
(14) الجاحظ, كتاب الحيوان ج1 ص 351.
(15) ابن قتيبة, تأويل مختلف الحديث ص 25.
(16) البغدادي, الفرق بين الفرق ص 101, و133 ومابعدها.
(17) المصدر نفسه, ص 80.
#محمد_الكوخي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟