كان إدوارد سعيد (1935 – 2003) استعارة حيّة من لحم ودمّ لفكرة المنفى: في المحطات الأساسية من سيرته الذاتية، وفي النقلات الكبرى لتطوّرات تفكيره النظري، وفي مجموعة المواقف التي اتخذها بصدد مسائل إيديولوجية وفلسفية وجمالية وأخلاقية وسياسية. وفي مقالته اللامعة "ذهنية الشتاء: تأملات حول الحياة في المنفي"، والتي نشرها في عام 1984، حدّد سعيد بعض خصائص المنفى على النحو التالي:
ہ المنفى هوّة قسرية لا تنجسر بين الكائن البشري وموطنه الأصلي، وبين النفس ووطنها الحقيقي، ولا يمكن التغلّب على الحزن الناجم عن هذا الإنقطاع. وأياً كانت إنجازات المنفيّ، فإنها خاضعة على الدوام لإحساس الفقد.
ہ إذا صحّ ذلك، فكيف تحوّل ذلك الإحساس بالفقد إلى دافع غنيّ للثقافة الحديثة؟ يجيب سعيد: "ربما لأن الحقبة الحديثة ذاتها مُتيتّمة ومغتربة روحياً، ويُفترَض أن هذا هو عصر القلق الشامل والحشود العزلاء". وهكذا فإن المنجز الأساسي في الثقافة الغربية الحديثة صنعه المنفيون، والمهاجرون، واللاجئون. ويضرب سعيد أينشتاين وصمويل بيكيت وفلاديمير نابوكوف وإزرا باوند أمثلة على ذلك.
ہ أنْ نفكّر بفوائد المنفى كباعث على الموقف الإنساني والإبداع أمر لا يعني التقليل من عذاباته الكبرى. وأنْ نرى شاعراً في المنفى أمر آخر غير أن نقرأ شعره عن المنفى. والمبدعون المنفيون يسبغون الكرامة على شرط كان القصد منه في الأساس حرمانهم من الكرامة. وبهذا المعني، لكي نفهم المنفى كعقاب سياسي معاصر، من الضروري أن نذهب أبعد مما يرسمه الأدب من ملامح. باريس، على سبيل المثال، اشتهرت باجتذاب عشرات المنفيين الكوزموبوليتيين، ولكنها كانت أيضاً المدينة التي شهدت عذابات الآلاف من النساء والرجال المنفيين المجهولين الذين لا نعرف أسماءهم وحكاياتهم.
ہ القوميات تدور حول الجماعات، بينما يدور المنفى حول غياب الجماعة الوضعية المتموضعة في موطن أصلي. فكيف للمرء أن يتغلّب على عزلة المنفى دون أن يقع فريسة لغة الفخار القومي والعواطف الجَمْعية ومشاعر الجماعة؟ من هنا فإن المنفى "حالة حَسَد". ولأن المنفيّ لا يملك سوي القليل فإنه يتشبث بما يملكه ويدافع عنه بشراسة. ما ينجزه المنفيّ هو ذاك الذي لا يريد لأحد أن يشاركه فيه، وهكذا تتنامى مشاعر الإنطواء والاستئثار، والتضامن داخل الجماعة الصغيرة، والعداء للآخر. ومن هنا أيضاً تولد تلك الحالة القصوى من مناخات المنفى: أي معاناة النفي على يد فئة منفية أصلاً...
ہ العالم الجديد للمنفيّ هو منطقياً عالم لاطبيعي، ولاواقعيته تشبه الخيال. وفي كتابه "الرواية التاريخية" أثار جورج لوكاش مناقشة عميقة حول أن الرواية (وهي شكل أدبي نبع من لاواقعية الطموح والفانتازيا)، هي شكل من التشرّد التصعيدي Transcendental Homelene. ورأى لوكاش أن الملاحم الكلاسيكية تنبثق من ثقافات مستقرة حيث القيم واضحة والهويات ثابتة، والحياة لا تتبدّل. الرواية الأوروبية تنهض من تجربة معاكسة، حول مجتمع متبدّل حيث يسعى البطل (المنتمي إلى الطبقة الوسطى) إلى بناء عالم جديد يشبه بعض الشيء العالم القديم الذي جرى التخلّي عنه. عوليس يعود إلى إيثاكا بعد سنوات من التجوال، وآخيل سوف يموت لأنه لا يستطيع الفرار من قدره. ولكن الرواية توجد لأنه قد توجد عوالم أخرى هي بدائل يحتاجها البرجوازي والجوّال والمنفيّ.
ہ المنفى تجربة يتوّجب عيشها بحيث تسمح بإحياء الهوية، وإحياء الحياة نفسها، وترتقي بها إلى وضعية أكثر اكتمالاً ومعنى. هذه النظرة الخَلاصية إلى المنفى دينية أساساً، رغم أنها كانت أطروحة للعديد من الثقافات، والإيديولوجيات السياسية، والأساطير، والتراثات. المنفى يصبح شرطاً سابقاً ضرورياً من أجل حالة أفضل، وهذا ما نعرفه عن نفي الأمم قبل أن تحرز كياناتها، ونعرفه أيضاً عن نفي أنبياء مثل موسي والمسيح ومحمد قبل عودتهم الظافرة.
ہ المنفى ليس موقع امتياز يتيح للفرد ممارسة التأمل الذاتي، بل هو بديل عن مختلف المؤسسات الجبارة التي تهيمن على معظم الحياة المعاصرة. وإذا اختار المنفيّ أن لا يمارس النقد العميق، وأن يكتفي بلعق جراحه على الخطوط الجانبية للحياة، فإن من واجبه أن يطوّر حسّاً معمقاً بالذات، من النوع الذي فعله الفيلسوف الألماني اليهودي تيودور أدورنو في عمله الهامّ Minima Moralia، والذي كتبه في المنفى واختار له عنواناً فرعياً هو "تأملات من داخل حياة مبتورة". ولقد رأى أدورنو أن الحياة تنضغط في أوطان جاهزة مسبقة الصنع، والموضوعات تنقلب إلى سلعة، والواجب الأخلاقي يقتضي أن لا يشعر المرء بالاستقرار في أي مقام. هذه هي المهمة الفكرية التي يتولاها المنفيّ.
ہ والمنفي، كما تحدّث عنه الناقد الأدبي الألماني الكبير إريك أورباخ Erich Auerbach أثناء نفيه في تركيا خلال الحرب العالمية الثانية، هو تصعيد للحدود الوطنية أو الأقاليمية. إنه يتعلّق بوجود الموطن الأصلي وحبّه والإرتباط به، ولكن ما هو حقيقي في كل حالة نفي ليس فقدان الوطن وحبّ الوطن، بل أن الفقد موروث في الوجود ذاته للوطن ولحبّ الوطن.
ہ وينتهي سعيد إلى القول: "المنفى لا يمكن أبداً أن يكون حالة رضى عن النفس، واطمئنان، واستقرار. المنفى، بكلمات [الشاعر الأمريكي] والاس ستيفنز هو ذهنية الشتاء حيث تكون عواطف الصيف والخريف، مثل العواطف الكامنة للربيع، قريبة ولكنها ليست في المنال. المنفى هو الحياة خارج النظام المألوف. المنفي بَدَوي، غير متمركز، طباقي Contrapuntal، ولكن المرء ما يكاد يتعوّد عليه حتي تندلع من جديد قوّته غير المستقرّة".
ہ ہ ہ
والحال أنّ محطات حياة إدوارد سعيد شواهد صريحة على هذا النزوع القلق الدائم إلى الإنشقاق عن المألوف، كلما تجمّد هذا المألوف وانقلب إلى قواعد دوغمائية مطلقة مغلقة. في الثالثة عشرة من عمره انشقّ مبكراً عن القراءات التي أرادت الأسرة أن يواظب عليها (روايات "روبنسون كروزو"، "إيفانهو"، "طرزان"، "شرلوك هولمز"...)، فسرق كتاب سيغموند فرويد "تفسير الأحلام" من مكتبة والده وقرأه خفية في الهزيع الأخير من الليل. وفي سنّ السادسة عشرة طُرد من "كلية فكتوريا"، المدرسة الكولونيالية الأبرز في القاهرة، لأنّ مناهج التدريس الإنكليزية التقليدية كانت أكثر جموداً من أن تتسع للتوثّب القلق في داخله. وحين غادر إلى أمريكا عام 1951، ثم انتسب إلى جامعة هارفارد ودرس الآداب الإنكليزية والفرنسية والإيطالية والإغريقية والرومانية، قادته سجيّته المتمردة إلى قراءة كتابَيْ جورج لوكاش "التاريخ والوعي الطبقي" في الترجمة الفرنسية، و"الرواية التاريخية" في ترجمتها الإنكليزية، ثم تعمّق أكثر في الفلسفة القارّية فقرأ المفكّرَين الإيطالييَن فيكو وغرامشي، والألمان هايدغر وأورباخ وأدورنو، والفرنسيين ميرلو ـ بونتي وغولدمان وليفي ـ ستروس وفوكو وبارت.
هذا التكوين التركيبي، المهاجر أبداً إذا صحّ القول، لم يكن منفصلاً عن التيارات التي كانت تعصف بالمشهد الأمريكي في مجال الأدب والنظرية النقدية بصفة خاصة، مثل مدارس النقد الجديد ، والنقد النصّي كما مارسه ر. ب. بلاكمور R.P.Blackmur، والتأثيرات الفردية لأشخاص مثل ت. س. إليوت ونورثروب فراي وهارولد بلوم. ولكن الفلسفة القارّية الأوروبية ستكون حاضرة منذ البدء في عمل سعيد، ومنذ أطروحة الدكتوراه التي ستتحوّل إلى كتابه الأول "جوزيف كونراد ورواية السيرة الذاتية" Joseph Conrad and the Fiction of Autobiography. في هذا الكتاب اعتمد سعيد على منجزات مدرسة جنيف في النقد الفينومينولوجي، ولكنه طوّع مناهج هارفارد وتقاليدها الأكاديمية في الآن ذاته. ومن خلال التدقيق المعمّق في رسائل جوزيف كونراد، رسم سعيد الخطوط الكبرى لمزاج الروائي البولندي الأصل لكي يكشف كيفية توليدها للأطر الرئيسية في رواياته، ولكي يبرهن على نحو مدهش أن كونراد انشغل دائماً بالتوتّر بين وعيه لنفسه من جهة أولى، وإحساسه بالشروط المتصارعة التي تكيّف وجوده كـ "آخر" فردي ولغوي في التراث المكتوب بالأنكليزية من جهة ثانية.
في الكتاب الثاني، "بدايات: القصد والمنهج" Beginnings: Intention and Method، أثار سعيد مشكلة فكرة البداية حين تستحوذ على الذات الفردية وتشارك في ميل الذات إلى التغيير والتبدّل، وناقش هذه المشكلة في مراحل ثلاث: في الرواية الكلاسيكية، وفي الأدب الحداثي، وفي المفاهيم السكونية التي تهيمن على الفلسفة البنيوية الفرنسية. وطرح سعيد الطراز النموذجي للبدايات كما عبّر عنه الفيلسوف الإيطالي فيكو (القرن الثامن عشر)، وكيف أن البدايات لا تُكتشف بل تُخلق وتُصاغ وتتفاعل وتتطوّر وفق جدل العلاقة بين المعرفة التراثية والحدود الثقافية وديناميات المخيّلة. كان سعيد قد اعتمد في الكتابين على الفلسفة الوجودية وميرلو ـ بونتي وهايدغر وفيكو، وكان في مطلع الثلاثين من العمر... وكانت هزيمة 1967 وحرب أيلول الأسود 1970 والعودة من جديد إلى العالم العربي تضغط على مناهج وأدوات المفكّر القلق أبداً.
في عام 1969 سافر إلى عمّان، وشهد أيلول الأسود بأمّ عينيه، وتبلور تعاطفه مع حركة المقاومة الفلسطينية. بعدها غادر إلى بيروت وتزوّج من سيدة لبنانية، ثم درس اللغة العربية على يد أنيس فريحة، وقرأ الغزالي وابن خلدون والفلسفة الأندلسية وطه حسين ونجيب محفوظ، قبل أن يشهد حرب 1973 ويكتشف عيانياً أن ما يجري على الأرض لم يكن يتوافق أبداً مع ما يُكتب في وسائل الإعلام الغربية. وهكذا تبلورت ملامح انشقاق بارز جديد هو التفكير في خطاب الاستشراق والصورة التي ابتدعها الغرب عن الشرق والعلاقات بين المعرفة والسلطة في ذلك كله. ثم صدر كتاب "الاستشراق" Orientalism الذي كانت المؤسسة الاستشراقية قبله على حال، ثم باتت بعده في حال آخر مختلف تماماً. وهذا الكتاب سوف يقود إلى عمله الأساسي حول الصراع العربي ـ الاسرائيلي "قضية فلسطين" The Question of Palestine ، 1979، وكتابه "تغطية الاسلام" Covering Islam ، 1981، الذي يستكمل نقد الاستشراق بنقد للتنميطات الزائفة التي تلجأ إليها وسائل الإعلام الغربية حين تتناول موضوعات الاسلام والشرق للاسلام.
وفي كتابه "العالم، النصّ، الناقد" The World, the Text, and the Critic، 1983، طوّر سعيد مفاهيم جديدة تصبّ في دائرة النقد العميق والإنشقاق الدائم، فتحدّث عن النقد العلماني (حيث الوعي شبكة مقاومة أمام أحابيل الخطاب، وحيث القيم الانسانية الكونية هي نواظم الإجماع في تحديد جبروت أي نظام ثقافي)، والنظرية المترحلة Traveling Theory (حيث الأفكار والنظريات تسافر مثل البشر ومدارس التفكير، منطلقة من شهادة ميلاد ونقطة بدء ومسار رحيل وشروط وصول ومقتضيات رحيل جديد)، والنقد الديني (حيث يجري نسخ الثقافة إلى شعائر وشعائر مضادة، وإلى لافتات مطلقة تلغي أي تمييز جدلي بين "الإرهاب" و"المقاومة"، والاسلام والليبرالية). وبعد عقد كامل سيتابع سعيد خيوط النظرية المترحلة في كتابه الصغير الهام "تمثيلات المثقف"، Representations of the Intellectual والذي كان في الأصل مجموعة محاضرات رايث، وهي السلسلة المرموقة التي تنظمها هيئة الـ BBC في كل عام. كذلك ستتكرر مناهجه النقدية في كتاباته عن الموسيقي والسينما والأوبرا، وفي إعادة التقاطه لجوانب حيوية نوعية للثقافة الشعبية في الحياة القاهرية بصفة خاصة (البورتريه الشهير الذي كتبه عن الراقصة الشرقية تحية كاريوكا علي سبيل المثال).
"الثقافة والإمبريالية" Culture and Imperialism هو التتمة الكبري لـ "الاستشراق"، وهذا الكتاب يستدرك ما غاب عن الكتاب الأول الرائد، سواء في مناقشة نسق الثقافة الإمبريالية أو تجربة المقاومة التي أفرزها ذلك النسق ضمن عوامل أخرى. ولأن ميدان اهتمام سعيد هو الامبراطوريات الغربية في القرنين التاسع عشر والعشرين، فإن الرواية هي الشكل الأدبي الأساسي الذي يبحث فيه عن صياغة المواقف الإمبريالية في أعمال جوزيف كونراد، جين أوستن، إي. م. فورستر، كاثرين مانسفيلد، توماس هاردي، روديارد كبلنغ، أندريه جيد، ألبير كامو، أندريه مالرو، وفي عمل أوبرالي متروبوليتاني مثل "عايدة". وهو يتناول الإمبراطوريات البريطانية والفرنسية والأمريكية، ويترك النمساوية ـ الهنغارية والروسية والعثمانية والإسبانية والبرتغالية، ليس للإيحاء بأي فارق معياري في الطبيعة الإمبريالية، بل لأن الإمبرياليات الثلاث الأولى تتسم بدرجة عالية من الانسجام والوحدة ومركزة المرجعيات الثقافية. المفتاح المنهجي في "الثقافة والإمبريالية" هو ما يطلق عليه سعيد اسم القراءة الطباقية التي تستمد استراتيجيتها من الطباق الموسيقي وتمكّن من بلوغ تقييم معمق للخلفيات والسيرورات والأشكال في أي عمل ثقافي، وتذكّر بمفهوم النقد العلماني وتطوّر تطبيقاته.
وفي أواخر العام 1991 صدر كتابه "خارج المكان" Out of Place ، الذي يروي فيه بعض سيرته الذاتية، وبعض تفاصيل الإحساس الطاغي الذي نادراً ما فارقه، وكان يفيد بأنه "خارج المكان دائماً": من القدس التي ولد فيها سنة 1935، إلى القاهرة التي ارتحل إليها مع أفراد أسرته فأقام فيها ودرس في مدارسها، إلى بلدة ضهور الشوير اللبنانية حيث موطن والدته (الفلسطينية، لأمّ لبنانية)، إلى برنستون حيث أنهى دراسته الجامعية، إلى هارفارد حيث تقدّم بأطروحة الدكتوراه، إلى المزيد من الترحال الدائم واللاحق، جيئة وذهاباً بين الولايات المتحدة ومصر ولبنان وفلسطين (التي عاد إليها في عام 1992، للمرّة الأولى منذ مغادرته لها في عام النكبة1948)، فضلاً عن عشرات الأمكنة هنا وهناك.
ہ ہ ہ
كان إدوارد سعيد ينتمي، بالتالي، إلى تلك القلّة من المفكّرين المعاصرين الذين يسهل تحديد قسماتهم الفكرية الكبرى، ومناهجهم وأنظمتهم المعرفية وانهماكاتهم، ولكن يصعب على الدوام حصرهم في مدرسة تفكير محددة، أو تصنيفهم وفق مذهب بعينه. ذلك لأنه نموذج دائم للمثقف الدائم الانشقاق، ممن يعيش عصره على نحو جدلي ويدرج إشكالية الظواهر كبند محوري على جدول أعمال العقل، ويخضع مَلَكة التفكير لناظم معرفي ومنهجي مركزي هو النقد. إنه ناقد، ومفكّر، ومنظّر أدبي؛ وهو يساري، علماني، إنسيّ Humanist، حداثي. ولكنه كتب نقداً معمقاً بالغ الجرأة ضد يسار أدبي يبتذل الموهبة الإبداعية حين يخضعها للسياسة اليومية أو الطارئة فينتقصها أو يستزيدها قياساً على ما ليس فيها، وكان بين أشجع نقّاد العلمانية الكوزمبوليتية التي لا تبصر أي عنصر تقدمي في المعتقدات المكوّنة للثقافة والذاكرة الجَمْعية، ومارس فضحاً منهجياً صارماً وأصيلاً لنزعة إنسيّة مطلقة تبدأ من مركزية كونية لكي تصبّ في مركزية غربية صرفة تقصي الآخر أو تهمشه لصالح ذات أوروبية مؤنسنة على نحو تجريدي أقصى، وغاص عميقاً في تاريخانية Historicity الحداثة وفي ملفاتها الثقافية ـ الاجتماعية لكي تنكشف الحدود الفاصلة بين التحديث وقسر التحديث، وبذل جهوداً مضنية لكي يكون الخطاب الصادر عن مفكّري ونقاد العالم الثالث (من الشباب بصفة خاصة) بعيداً عن ابتداع مركزية جديدة تضع الأطراف في مواجهة أحادية عدائية مع المركز الإمبريالي بكل ما ينطوي عليه من إنجاز إبداعي وفكري، هو الذي كان في طليعة من فتحوا ملفات الاستشراق وتخييل الشرق وأعادوا قراءة فرانز فانون بهدف تكوين جدل نقدي لنظريات الخطاب ما بعد الكولونيالي لحقّ التابع في تمثيل الذات.
وثمة تتمة أخري في مسار التفكير الانشقاقي الوفيّ أبداً لحقيقة ما يجري في التاريخ، وعلى الأرض، وفي السطوح الأعمق من المخيّلة: القضية الفلسطينية. وفي زمن مضى كان الإعلام الأمريكي، المنحاز قلباً وقالباً للدولة العبرية، يطلق على إدوارد سعيد لقب "بروفيسور الإرهاب" الذي يريق الحبر دفاعاً عن إراقة الإرهابي الفلسطيني لدماء الأبرياء. وفي عام 1989 نشر إدوارد ألكسندر مقالته الشهيرة "بروفيسور الإرهاب" في مجلة Commentary الأمريكية المتعاطفة مع الشطر الليكودي من الدولة العبرية، وقال فيه: "يجب أن نتذكر على الدوام أن إدوارد سعيد ليس فقط مجرد بروفيسور وإيديولوجي، بل هو أيضاً عضو في المجلس الوطني الفلسطيني، والناطق الأبرز باسم منظمة التحرير الفلسطينية في وسائل الإعلام الأمريكية، وواحد من أقرب مستشاري عرفات. مَنْ ينسى الصُوَر التلفزيونية لشهر نوفمبر الماضي، والتي تصوّر هذا المثقف وهو يدنو من ملك الإرهاب، ويهمس (مَن يعرف ماذا؟) في أذن سيّده عند اختتام اجتماع المجلس الوطني الفلسطيني في الجزائر"!
ورغم أنّ سعيد كان من أشدّ المعارضين لاتفاقات أوسلو، وكانت تحليلاته لآثارها المستقبلية المدمّرة بمثابة الكاشف الأحدث عهداً لذلك النوع الدؤوب من الانشقاق الشريف والشجاع والنبيل الذي يتوقف مطوّلاً عند الحق البسيط والحقّ اليومي والحقّ الثابت في إبقاء التاريخ نصب الأعين، فإنّ المؤسسة الصهيونية لم توفّر سيرورة تهديم سعيد بالمعنى المادّي الحرفي للكلمة. ففي أواسط العام 1999، نشرت مجلة "كومنتري" ذاتها مادّة مطوّلة لـ "الباحث" الإسرائيلي جستس رايد فاينر، الذي صرف ثلاث سنوات وهو ينقّب في أرشيفات فلسطين أيّام الإنتداب البريطاني، وفي قيود الأحوال المدنية، والصكوك العقارية، وسجلات مدرسة سان جورج في القدس، واستجوب نحو 58 من الشخصيات المعاصرة لتلك الحقبة، وسافر لهذا الغرض إلي عواصم عديدة بينها القاهرة وعمّان، فانتهى إلى النتيجة التالية: إدوارد سعيد لم يعش في القدس، ولم ينتسب إلى أيّ من مدارسها، وهو ليس لاجئاً!
وبالطبع، كان مطلوباً من هذا "الإكتشاف" أن يقوّض حكاية إدوارد سعيد المنفيّ الفلسطيني، وهنا مربط الفرس. سعيد، بالتالي، لم يعد رمزاً للظلم الإسرائيلي كما كتب ألن فيلبس مراسل "الديلي تلغراف" في القدس. وأمّا "حكايته المؤثّرة"، التي كانت تُروى وتقتبس في الصحف والمجلات وأقنية التلفزة، فينبغي أن تُطوى اعتباراً من تاريخ هذا "الإكتشاف". أخيراً، "هذا الرجل الذي حظي بموقع مدلّل اليسار الأمريكي زمناً طويلاً، لا يمكن أن يستأثر بعد الآن بموقع الرمز الحيّ للشتات الفلسطيني".
والحال أنّ جبروت إدوارد سعيد لم ينهض، في أيّ يوم، على استثمار حكايته الشخصية، ونهض في المقابل على استثمار عبقري ذكيّ ودؤوب ومبدئي لكلّ ما في القضية الفلسطينية من أبعاد إنسانية وتاريخية وثقافية وجيو ـ سياسية. وفي إحدى صفحات كتابه "خارج المكان" يقول: "ما يستولي عليّ الآن هو مقدار الإقتلاع الذي حاقَ بأسرتي وأصدقائي ولم أدرك سوى القليل منه، إذْ كنت في الجوهر شاهداً علي العام 1948 دون أن أعرفه (...) أبصر الحزن والفقدان في وجوه وحيوّات الناس الذين عرفتهم من قبل، وفي الآن ذاته أعجز عن فهم المأساة التي حلّت بهم". ولم يطل الوقت حتى ذهبت هذه الأكذوبة جفاء وأدراج الرياح، ومكث سعيد وكتابه علي الأرض ينفعان الناس، بدليل فوز "خارج المكان" بجائزة المجلة الأمريكية الشهيرة "نيويوركر".
الروائي الياباني كنزابورو أوي، الحائز على نوبل الآداب، اعتبر أنّ "عمل سعيد يأتينا مثل بارقة سماوية. وعلى نحو مفعم بالحيوية نتابع درب سعيد إلى الوعي بالذات، ذاك الذي جعل منه أحد المفكرين الذين لا غنى عنهم في نهاية هذا القرن". نادين غورديمر، الحائزة على نوبل الآداب بدورها، قالت إنّ "لسعيد مكانه بين أكثر مفكّري قرننا أهمية وصدقاً. وحياته الموصوفة هنا، من المنظور المأساوي والظافر لمرض عضال، جديرة بأن تُعاش وتُروى. وأعرف أنني لن أقرأ كتاباً أفضل من كتاب سعيد، ليس في هذا العام فحسب، بل على امتداد سنوات طويلة قادمة". سلمان رشدي، من جانبه، قال: أولئك الذين، من أمثالنا، عاشوا حياتهم موزّعين بين الثقافات، والذين رأوا في ذلك المصير نعمة ونقمة، سوف يشعرون بالإمتنان لأنّ سعيد أسبغ تعبيراً شخصياً بليغاً على تجربة الإزدواج تلك: عذاباتها واضطراباتها، ولكن أيضاً طاقاتها التحريرية وإمكاناتها. وأن يقرأ المرء عمل سعيد أمر يتيح التعرّف على أسرته ونفسه الفتيّة تماماً على غرار ما نعرفه في الشخصيات الأدبية، وأمر يبيّن لنا ــ في سياق حميم لا يُنسى ــ معنى أن يكون المرء فلسطينياً في النصف الثاني من هذا القرن". ولقد كانت سلسلة مقالاته في مناهضة ما يُسمّي الحرب علي الإرهاب، وفي تشريح حقيقة ما حدث يوم 11/9/1002 وما تلاه من حرب على أفغانستان وغزو للعراق، كانت الفصول الأخيرة في حقيبة انشقاق مستديم شجاع ونبيل. كذلك كانت آخر البراهين على أنّ إدوارد سعيد ظلّ مخلوق الدرب الذي سار عليه، ومخلوق التاريخ واللغات والثقافات التي اشتقّ نفسه منها، تماماً كما قال في حوار مع كاتب هذه السطور: "لم أعد أشعر أنني شعبان منفصلان في واحد، بل أربعة أو خمسة ربما".