|
حكاية باموك : إسمٌ بينَ الوردةِ والأحمَر / 4
دلور ميقري
الحوار المتمدن-العدد: 1979 - 2007 / 7 / 17 - 04:58
المحور:
الادب والفن
خامساً ـ الدلالة والجريمة 1 ـ الأصول والآثار " بإختصار ، أنا المدعو بين النقاشين والأساتذة ظريف أفندي متُ ، ولكنني لم أدفن . لهذا السبب لم تستطع روحي ترك جسدي تماماً . الجنة أو جهنم قدري ، ولكي تقترب روحي منها لا بد أن تخرج من قذارة جسدي . يؤلمني جداً وضعي الاستثنائي هذا الذي يمكن أن يقع لآخرين " (1) . هذه العبارات المتأسية ، وردتْ في مناجاة نقاشنا ، الظريف ، ضمن الفقرة الموسومة بـ " أنا ميت " ، التي يُفتتح بها كتاب " إسمي أحمر " لأورهان باموك ، الروائي التركي . في مناجاته هذه ، كان " ظريف أفندي " خصماً يحتجّ على صاحبه ، القاتل . ومن خلال عباراته المتدفقة بعنف ورقة في آن ، كان يحاول " شرحَ " طبيعة المكان ، المحتبي جسده المهشم ؛ المكان الذي تراوح فيه روحه التائهة ، المعذبة . فالروح لا تفارق جسد الميت ، بحسب إعتقاد العامة ، قبل العثور على الجثة ودفنها وفق الأصول الإسلامية ، المعروفة : ثمة مكان بديل إذاً ، كنتيجة للمعضلة المعانقة مصير نقاشنا الميت ؛ ألا وهوَ البئر المهجور ، الذي ألقيت جثته فيه . الملاحظ أيضاً ، أنّ المعضلة تلك متوائمة مع علامة ، شاء الكاتبُ بإسلوبه المستوحى / أو المتماهي بأسلوب القصّ البوليسي ، أن يُنذرَ قارئه بها ؛ حينما إختتمَ عباراتَ القتيل بالقول أن وضعه البائس ذاك " يمكن أن يقع لآخرين " . فكأنما يبغي البوحَ هنا ، بأن الجريمة التالية كانت تحْبَكُ ملياً من لدن القاتل نفسه . وبما أنّ الشيءَ بالشيء يذكر ، فلنقل أنّ مفارقة ثمة تتواشج بدورها مع تلك العلامة ، الموصوفة : فإننا لن نلبث أن نعلمَ ، بأنّ ظريف أفندي ، الذي يبكي ميتاً أصولَ دفنه الإسلامية ، المفتقدة ، كان في حياته شديدَ الحرص على ما كان يسميه " أصول " الرسم ، الإسلامية ؛ وهيَ الحياة التي وهبها قرباناً لتلك الأصول نفسها : " والأهم من هذا ، عليهم أن يجدوا قاتلي ! عليكم معرفة أنه إذا لم يلق القبض على ذلك السافل ، لن أهدأ في قبري حتى لو دفنوني في قبر رائع ، وسأبقى أبثكم اللا إيمان " ( ص 10 ) .
الجملة الأخيرة ، من مناجاة ظريف أفندي ، فيها تجديفٌ متناقضٌ مع ما ألمعنا إليه من إيمانه الدينيّ ، العميق . بيْدَ أنّ الأمر ، برأينا ، كان أيضاً علامة منذرة ، تتنبأ بما ستنتهي به الحكاية الدموية : فإن عجزكم عن الإهتداء إلى القاتل ، يُمَكنه من الشطط في خزعبلاته ويودي بالمؤمنين إلى التنكر ليقينهم . وتذكروا بأنني ميتٌ " شكلاً " حسب ؛ ما دامت روحي محلقة في فضاء الجبّ المشؤوم ، منتظرة دفن جسدي والكشف عن شخصية قاتلي . هذا الأخير ، سيدخل السردَ بصفته مجرماً يعاني من عذاب الضمير . إنه في الفقرة الأولى المتاحة لصوته ، " سيقولون عني قاتل " ، يعيدنا إلى مفارقة شبيهة بتلك التي عرضنا لها للتوّ ، في حديثنا عن ضحيته الأولى . فالقاتل ، وبصفته نقاشاً زميلاً لـ " ظريف أفندي " ، كان قد إصطحبه إلى ذلك البئر المهجور ، ليقتله حفاظاً على سرّ الكتاب ( " سَرْنامة " ) . وهوَ يأخذ القاريء إلى مجاهل الفنّ الإسلاميّ ، منوّهاً خصوصاً بأسلوب " بهزاد " ـ شيخ ذلك الفنّ ـ وأنه كان يتعمّد ألا يترك توقيعاً على لوحته : " وعدم ترك أي أثر يشي بهوية النقاش في هذه الرائعة " . ويستطرد القاتل في مناجاته منتقلاً ، على حين فجأة ، إلى موضوع جريمته مستخدماً كلا المفردتيْن الفنيتين ، ( الإسلوب والأثر ) ، في ملابساتها : " إن الأمر الذي يسمونه أسلوباً هو خطأ يؤدي إلى تركنا أثراً ما فقط " . ( ص 30 )
" وهكذا تتجلى الكلمة الإلهية من خلال الحمار الذي يعزف على المزهر ، والغبي الذي يحرث بقطعة نقد " (2) . تلكم كانت كلمات الكاهن الأعمى ، " يورج " ، في نقده لشطحات النقاش القتيل ، " ادالمو " ، المفصحة عنها رسومه على هوامش الكتب المكلف بتزيينها . هذا الأخير ، كانت جثته قد عُثرَ عليها وهي مهشمة ، تحت أسوار الدير مباشرة ؛ مما شبّه للبعض أنها حادثة إنتحار . هكذا يُستهل السردُ في رواية " إسم الوردة " للإيطالي أمبرتو إيكو ، التي شئنا مقاربتها مع رواية باموك تلك . إننا في اليوم الأول لوصول بطليْ الحكاية ، " أدسو " و " غوليامو " ، إلى ذلك الدير العظيم ، المنعزل في شبه الجزيرة الإيطالية . إنه اليوم الشاهد على أولى الجرائم الملغزة ، الغامضة ، المرتكبة من لدن قاتل ما ولأسباب لا تقل غموضاً وإلغازاً . وكان " غوليامو " قد ظهر في السرد ، منذ مستهله ، كعارف ملهَم ؛ فكان يحيّر تلميذه ، ( الراوي ) ، بمقدرته على إقتفاء الأثر . هاهوَ يشرح للفتى بعضاً من الأمور المحيّرة في هذا الشأن : " وهكذا كانت الأفكار التي خطرت لي في البداية لتصوّر جواد ، لم أره من قبل ، كانت دلالات بحتة . كما كانت الآثار فوق الثلج دلالات لمفهوم جواد : فنحن نستعمل الدلالات ، ودلالات الدلالات فقط عندما تنقصنا الأشياء " ( ص 48 ) . جديرٌ بالملاحظة ، أنه في ذلك اليوم نفسه قدِّرَ لشخصيات الرواية جميعاً ، تقريباً ، الإلتقاء مع بعضها البعض ووجهاً لوجه . لكأنما تلك البقعة ، خارج الأسوار ـ التي سقطت فيها جثة النقاش الكاهن ـ مكانٌ بديلٌ ؛ بعلامة الحرية الموحية بها ، مقارنة ً بأسْر الدير : ومن ذلك المكان ، المشرف على قرية صغيرة لا تقل توحّداً ، حضرتْ الفتاة التي تعرّف عبرها " إدسو " على تجربة الجسد ، الأولى ؛ وربما الأخيرة بالنسبة له ـ ككاهن ؟
ها هنا أيضاً ، علامة منذرة بما سيعقب تلك الجريمة من جرائم اخرى ، متسلسلة بحسب أيام الأسبوع ، وعلى لسان الكاهن الضرير نفسه : " إنه آتٍ ، لا تضيعوا الأيام الأخيرة في الضحك على الوحوش المفهّدة والأذناب الملتوية ! لا تهدروا الأيام السبعة الأخيرة ! " ( ص 106 ) . هذا النداءُ النذيرُ ، كان يتنبأ مجازاً بمجيء القاتل ، مرّمزاً إياه بـ " المسيح الدجّال " . علاوة على أنّ إشارته لموضوعة " الضحك " ، إنما هيَ مجازٌ أيضاً ؛ ينتقدُ عبْرها كاهننا الأعمى تلك الرسوم ، الموصوفة ، مشنعاً عليها بإعتبارها مخالفة لـ " أصول " الفنّ المسيحي . والمفارقة الماثلة هنا ، أنّ المجرم الذي يوصَفُ بالمسيح الدجّال ، يفتك حصرياً بأولئك النقاشين الموصومين بدورهم بـ " الهرطقة " : ممن دأب كل منهم في حياته على تدبيج الرسوم المخالفة للأصول وكذلك والأهم ، رغبته في الإطلاع على الكتب المحرّمة ؛ وخصوصاً ذلك الكتاب السرّي ، المعنون بـ " الضحك " لأرسطو . وها هوَ " غوليامو " ، يتولى التحقيق في أمر الجريمة ، الأولى ، وبطلب من رئيس الدير . إنه يعمد إلى إبتكار وسائل مستحدثة ، غير مألوفة من قبل ، في تتبّع آثار القاتل . ومنذ الوهلة الأولى ، يُدرك محققنا ، وفق ما دأب على وسمه بـ " العلامات " ، أنّ الجريمة غاية في التعقيد ولها علاقة مؤكدة بعمل النقاشين في تزيين الكتب : " يمكنني من التجربة أن أتصوّر ، أمام بعض العلامات غير القابلة للجدال ، أنّ شخصاً آخر قام بالجرم " ( ص 50 ) ، يقول " غوليامو " لرئيس الدير ، نافياً توّرط أحد الرهبان في قتل زميله ، بدافع الغيرة أو لعلاقة مشبوهة بينهما .
2 ـ المدينة والدير خلل الكلمات المنقولة على لسان " قرة " ، بطل رواية " إسمي أحمر " ، نعثرُ على لغز " الكتاب السرّي " الذي عادَ هوَ من غربته في بلاد العجم ، من أجل المساهمة في إنجازه . إنه الآن في إسطنبول ، مسقط رأسه ؛ المدينة التي يعشقها ، وفيها حبيبته الأولى ( " شكورة " ، إبنة " زوج الخالة " ) ، ولم يكن رآها مذ بدأت غربته قبل دزينة من السنين . المكانُ ذاكَ ، الشاسعُ في حجمه والكثيفُ بخلقه ، كان يمورُ بإضطراب عظيم لحظة وصول بطلنا : " عديمي الأخلاق والعصاة يجتمعون في المقاهي ، ويتبادلون الشائعات حتى الصباح . وبعد أن يرقص الذين لا تعرف قرعة أبيهم ، والحشاشون ، والمجذوبون في الزوايا على أنغام الموسيقى حتى الصباح على أنّ هذا هو طريق الله يتنايكون ، وينيكون الأولاد الصغار " ( ص 17 ) ، هذا ما يسمعه " قرة " من أحد أتباع الداعيَة ، المتزمّت ، المنسوب لمدينة " أرضروم " ، الواقعة في شرقي الأناضول . وكان النقاش الميّت ، " ظريف أفندي " ، معجباً في حياته بأفكار ذاك الداعية . وها هوَ يربطها ، مجازاً ، بمسألة الكتاب السري ، الذي كان مكلفاً بالعمل لإتمامه بأمر السلطان : " أقوال الواعظ الكبير الشيخ نصرت الأرضرومي كلها التي كنت أستمع إليها باكياً تتحقق قولاً قولاً " ( ص 11 ) . وفي الفقرة التالية ، ذات العنوان " أنا كلب " ، نصغي إلى أقوال ذلك الواعظ وعلى لسان الكلب ، الذي يروي حكايته كرسم منقوش متدل من جدار أحد المقاهي . يستوقفنا هنا ، قبل كل شيء ، أسلوبُ باموك في روايته هذه ؛ والمبنيّ على دمج أكثر من حكاية في السرد . فالكلب المنقوش في الرسم ، يُحيلنا ، نحن القراء ، إلى الحكاية الأولى " أنا ميت " ، حينما يُخاطبنا بقوله : " ولأنكم لستم مخلوقات معقولة مثلي تقولون : وهل يتكلم الكلب ؟ ولكنكم تبدون أنكم تصدقون حكاية يتكلم فيها الأموات " . ( ص 19 )
أما أن تعرَضَ أفكارُ الواعظ ، المدعو " نصرت " ، على لسان ذلك الكلب ، وبلغة في غاية الظرافة لجهة لذعتها وتهكمها وتجديفها ( حتى أنه يحرّف إسمه إلى " حصرت " ) ؛ هكذا عرضٌ ، يُضافر إشارتنا تلك عن أسلوب روائينا باموك ، المميّز : " مُلهمُ أصحاب الطريقة هو إبن عربي الذي كفر لأنه أقسم على أن فرعون مات على الإيمان . أصحاب الطريقة ، والمولويون ، والمعتكفون ، والدروايش الذين يقرأون القرآن على انغام الموسيقى ، ويرقصون أطفالاً وكباراً على أنهم يدعون إلى الله هم كفرة . يجب هدم الزوايا ، وحفر أساساتها سبعة أشبار ، ورمي التراب الناتج عن هذا الحفر في البحر ، وفي هذه الحالة فقط يمكن إقامة الصلاة هناك " ( ص 21 ) . لكأنما كاتبنا ، باموك ، يجتاسُ هنا جذورَ الأصولية المعاصرة لزمننا هذا ، والمنادية بمبدأ التحريم والتكفير . وعطفاً على تشديد الواعظ الأرضرومي ، المُفترض ، على نبذ الطرق الصوفية وأقطابها وأصحابها ، يستدعينا إستلهامُ باموك كتبَ التراث ، كمصادر فكرية وتاريخية للمفاهيم الذاخرة بها روايته. ولعلّ إبن تيمية ، العالم الداعيَة من القرن الرابع عشر للميلاد ، كان أبرز تلك المصادر ؛ وهوَ المُعتبَرُ مرجعَ الوهابية ، المنادية بالمبدأ التكفيري ، الموصوف : حدّ أنّ مؤلف إبن تيمية ، " كتاب النبوّات " ، يكاد أن يكون الصوتَ الذي أصدى عنه الواعظ ُ الأرضرومي ؛ الشخصية المُتخيّلة في " إسمي أحمر " ، وخاصة ً لجهة تنديده بنظرية " وحدة الوجود " لإبن عربي . (3)
قلنا أنّ الراوي " إدسو " ، الذي يروي لنا حكاية " إسم الوردة " ، قد حلّ في دير الأخوة الفرنسيسكان جنباً لجنب مع معلمه " غوليامو " . ها هما يتجولان في ذلك الصرح المهيب ، المعتلي صخوراً صلدة ، عملاقة . تحت اللوحة السقفية ، الهائلة ، تراوح خطى الصديقين ، فيقفا مشدوهين قبالة رموزها الفنية ؛ من عالم السماء بساكنيه البررة ، وإلى عالم الجحيم بمخلوقاته الغريبة وبشره الخاطئين : " سمعتُ صوتاً قوياً وكأنه صوت نفير يقول : أكتب ما ترى في كتاب " ( ص 65 ) . كلمات " إدسو " هذه ، فيها إشارة للمهمة الملقاة على عاتقه ، كشاهدٍ لزمنه ذاكَ ، وفي آن تلميحاً لمعضلة " الكتاب السرّي " ، المبنية على إشكاليته حبكة الحكاية برمتها . وحينما يقول " غوليامو " : " هذا الدير حقيقة ً عالمٌ مصغرٌ " ( ص 219 ) ، فإنما يرجّعُ المكان الكبير ( العالم الخارجيّ ) إلى صورته المنعكسة ثمة ، في ذلك الدير . وكان صراع مصيريّ ، مستميت ، ناشبا بضراوة آنئذٍ بين سلطتيْ البابا و الإمبراطور ، المتنازعتين والمتنافستين على أملاك القارة الأوروبية . وها هيَ الفرق الدينية ـ ومنها طائفة الفرنسيسكان ـ تتبادل الإتهامات بالهرطقة والزندقة ، كصدىً لتحالفاتها مع البابا أو الإمبراطور . وينصتُ المعلم وتلميذه ، خلال جولتهما الإستكشافية تلك ، لأحدهم وهوَ يوصّف الفرقة الصوفية ، المعروفة بـ " الأخوان المتسولين " ، معدداً مثالب أعضائها : " لا يعترفون بالزواج ، وينفون وجود الجحيم ويمارسون اللواط ويرتكبون الجرائم " ( ص 172 ) . الإشارة الأخيرة ، كانت على ضعف رأينا ، بمثابة علامة اخرى على ما سيدهم الدير من محن ؛ إبتدهتْ بجريمة قتل النقاش الشاب " ادالمو " . فكأنما يُعزى الإجرام هنا ، إلى أفعال الرذيلة الموغلة وقتذاك في السلك الرهباني .
أسلوب كاتبنا إيكو ، في " إسم الوردة " ، جعل السردَ في غاية المتعة ؛ لجهة إعتماده الحبكة البوليسية في حل لغز الجرائم ، ومن جهة ثانية إيثاره الترجيعات الزمنية ، كخلفية لزمن الحكاية الراهن : أيْ دمج أكثر من قصة في الرواية . فضلاً عما في لغة إيكو هنا ، من غواية الطرافة والظرافة والمتماهية بالإستعارات والأحاجي والأمثولات . هوذا " غوليامو " يحاججُ العجوزَ الأعمى ، المصرّ على ضآلة الإنسان قبالة الرسل والحواريين والقديسين : " إننا اقزام ، ولكننا أقزام نقف فوق أكتاف اولئك الجبابرة ، ورغم صغرنا نستطيع أن نرى في بعض الأحيان أبعد منهم في الأفق " ( ص 109 ) . وما كانت تلك المجادلة ، إلا صدىً للصراعات المحتدمة ، الموصوفة آنفاً ، داخل وخارج الدير . وكان الأخوة الفرنسيسكان ، المنسوبون للقديس فرانشيسكو ، قد تبنوا فكرة " حبّ الفقر " المنسوبة بدورها له . آنذاك كانوا في صراع مرير مع البابا ، الذي لم يتوانَ عن تكفير ملهمهم الروحي ؛ القديس توما الأكويني . ونعود إلى المعلم ، وهوَ يشرح الأمر لتلميذه : " فهم البابا أنه لن يقدر على إقتلاع نبتة البسطاء ، التي كانت تنخر أسس السلطة الكنسية ، إلا بإدانة الأفكار التي كانت ترتكز عليها عقيدتهم : أدانَ فكرة " فقر المسيح " على أنها هرطقية " ( ص 73 ) . سنجدُ أنّ إيكو من جهته ، قد ربط خلفيات روايته الفكرية والتاريخية بمراجع أصلية ومعاصرة ؛ سواءً بسواء أكان الأمر متعلقاً بمجادلات شخصياته في " إسم الوردة " مع أهل عقيدتهم ، أم بمقولاتهم حول العقائد الاخرى وخصوصاً الإسلام . ونقتطف هذا المقطع من مصدر معاصر ، حول ذلك الصراع المحتدم عصرئذٍ في الكنيسة الكاثوليكية : " فالإمتياز الذي أعطاه توما الأكويني للفيلسوف اليوناني أرسطو في إعادة إكتشافه الفلسفة السياسية الهلينية ، مليء بالعبر . وللوصول إلى تكوين مفهوم عن المدينة ، مال الأب الدومينيكاني نحو مفهوم يعيّن المسافة بينه وبين نظرية " وحدة الوجود " الأفلاطونية ، ويتبنى فرضية العلل الثانوية (...) وهكذا نرى أن التعريف الأرسطي يبرز من خلال فكرة الثنائية : إن العضو في المدينة هو شخص سياسي ، إنه يتوحّد مع هيئة طبيعية ويتمايز من حيث الإنتماء عن الهيئة المتقشفة التي تشكلها الكنيسة " (4) . ثمة إحالة واضحة ، فيما سبق ، إلى الفكرة المؤسسة لحكاية " إسم الوردة " ، علاوة على أنّ التشديد على خصوصية المكان ، ( المدينة / الكنيسة ) ، نعثر عليه أيضاً في روايتنا هذه : " إنه مكان الفضيحة ، حيث ينادي الأسقف الغني إلى الفضيلة شعباً فقيراً جائعاً " ( ص 174 ) . ولا ننسى أيضاً تلك الإحالة لرواية باموك " إسمي أحمر " ، فيما يتعلق بنظرية " وحدة الوجود " ، المشتركة المصدر بين الصوفيتيْن المسيحية والإسلامية ؛ ونعني به فلسفة أرسطو .
*
سادساً ـ البيئة والجريمة
" أتيت إلى المقهى مرة أو مرتين للإستماع إلى المدّاح وتذكر حياتي السعيدة وأسعد . أغلب إخوتي النقاشين الذين قضيت معهم عمري يأتون كل مساء . وبعد أن قتلت نقاشاً غبياً عملت معه في النقش منذ طفولتي ، لم أعد أريد رؤية أحد " ( ص 27 ) : هذا ما يفيدنا به مجرمُ " إسمي احمر " ، في الفقرة الممنوحة لصوته في السرد ؛ والمعنونة بـ " سيقولون عني قاتل " . ربما أن القاريء سيفطن ، أن ذلك المكان ليس سوى المقهى المحتفي برسم الكلب . ثمة إشارات عديدة في النصّ ، وبأصوات بعض شخصياته ، عن كون هذا المكان بمثابة بؤرة للفساد والزندقة والأراجيف ؛ بحسب الواعظ الأرضرومي وأتباعه : " الشيخ ندرت الأحوَل السيواسي يلعنُ حبّ الغلمان الحلوين ، وحبّ النقش ، إضافة إلى ذلك يقول : إن شرب القهوة من عمل الشيطان ، وشاربها في جهنم " ( ص 75 ) ، كما جاء في الفقرة الموسومة بـ " أنا شجرة " ؛ والتي يُحَرَّفُ فيها إسمُ الواعظ نفسه ، مرة اخرى ، تشنيعاً عليه . وما يهمنا هنا ، أنّ ذلك المقهى ملعونٌ من لدن المتزمّتين ، بسبب إستيفائه لشروط المكان المنذور للشيطان ؛ أينَ يتمّ تداول المعاصي ، الوارد ذكرها للتوّ : ولا ننسى أنّ هؤلاء الأشخاص من أتباع الواعظ ، رأوا في رسم الكلب ، المتدلي على جدار المقهى ، تجديفاً صارخاً على العقيدة ؛ والتي توحي تعاليمها بنجاسة ذلك الحيوان . وفي الأخير ، يكتسح أتباع ذلك الواعظ المقهى ، فيعيثوا فيه خراباً ويعتدوا على مريديه ، حدّ أنهم يقتلون المدّاح ( أيْ الحكواتي ) . إثر مضيّ يومين على مقتل " ظريف أفندي " ، قرب البئر ، تقع جريمة قتل اخرى ؛ كان ضحيتها هذه المرة ، النقاش المدعو " زوج الخالة " . حصلتْ الواقعة في منزله ؛ وهوَ المكان الحميم الذي يضمّ أسرة إبنته " شكورة " مع ولديْها الصغيرَيْن ، اليتيميْ الأب . وشاء السردُ أن يكون المنزل أيضاً الملتقى بين الإبنة تلك وحبيبها " قرة " ؛ الذي تزوجها لاحقاً : " إكتشافي حبه للكتب عندما كانت أمه تجلبه إلى بيتنا في كل فرصة لأنها رأت مستقبله هنا قرّبنا من بعضنا بعضاً ، وعمل صانعاً لديّ بشكل رضي عنه أفراد الأسرة " ( ص 36 ) ، يتذكرُ " زوج الخالة " بعضاً من ذكرياته عن بطلنا ذاك . وإلى هذا المنزل يعود " قرة " ، تلبية ً لدعوة صاحبه ومن أجل ذلك الكتاب السرّي الذي أمر به السلطان شخصياً ؛ الكتابُ ، المرتكبة بحوْل ألغازه تلك الجرائم المتتابعة . ويبدو أن القاتل يهيم أيضاً بحبّ إبنة " زوج الخالة " ؛ بيْدَ أنّ هذا الأمر ، مؤكداً ، لم يكن له علاقة بمقتله . يقدم لنا هذا المجرم ، في مناجاته الخاصة بصوته ، وصفاً شاعرياً لمنزل القتيل ، فيما هوَ يعرضُ للخطوات المودية إلى جريمته التالية : " لا أدري في أي مكان من البيت شكورة . آه لو بدا لي البيت على طريقة بعض رسوم تبريز في زمن الشاه طهماسب مشطوراً من منتصفه بسكين . بدأت الرسم في خيالي كيف تبدو شكورة وخلف أي نافذة " ( ص 179 ) . كان كلّ من القاتل وزوج الخالة يعملُ في " النقش خانة " السلطانية ؛ وهذه بدورها ، كانت مكاناً مغلقاً على المعاصي . ويحدد لنا " قرة " ، بطل روايتنا ، موقعها الكائن خلف جامع أيا صوفيا . ها هوَ يحيطنا علماً ، بأنّ هذا المكان المرتبط بإسم السلطان وسلطته المباشرة على السواء ، ما عاد في زمن السرد أكثرَ من مجمع للتلاميذ الناشئين والفتية المتخرجين حديثاً : " ولأن النقاشين المعلمين ، الذين أطلق عليهم الأستاذ عثمان أسماءَ مستعارة ، يعملون في بيوتهم ، فقد فقدتْ صفتها بإعتبارها نقش خانة سلطانية كبيرة وغنية ، وهي الآن تشبه غرفة كبيرة لإستراحة قوافل في الشرق وسط الجبال القفراء " ( ص 80 ) . نستلُّ لمعة ً من المعنى ، الوارد في القول المارّ للتو ؛ والمفيد بأنّ كبير النقاشين ، الأستاذ عثمان ، كان قد إبتدعَ أسماء مستعارة لمرؤوسيه من المعلمين . هيَ ذي عقدة ٌ وجدتْ حلها هنا ، بمقتضى تلك الإشارة العابرة : فالقاريء ولا شك ، ما كان لولاها ليدرك كنه هذه الأسماء ، الغريبة ؛ كمساعد كبير النقاشين ، " زوج الخالة " ، والمعلم العجوز ، " ظريف أفندي " ، فضلاً عن الثلاثي الممتهن حرفة النقش ، ( " فراشة " ، " لقلق " و " زيتون " ) ؛ هؤلاء المهيمنة أصواتهم على المساحة الأكبر من السرد : ومن بينهم سينبثق القاتل ، أخيراً ، إثر الكشف عن شخصيته في تلك النقش خانة بالذات ؛ وبالتالي كان عليه بدوره أن يتجرّع القدحَ التي سبق وأذاقها لغيره .
هيَ ذي أماكن أربعة ( البئر ، المنزل ، المقهى والنقش خانة ) ، إحتبَتْ جرائم " إسمي أحمر " ، الأربعة . إنّ الأمكنة تلك تحملُ دلالات معينة وهيَ ، على الأرجح ، تماهي المسألة السببية المفسّرة مغامض جرائم الرواية . فأنْ يختار القاتلُ بئراً مهجورة ، للتخلص من ضحيته ، ربما أراد منها المؤلف تنزيه شخصيته هذه من تبعة الجريمة التالية ، المرتكبة أيضاً من لدنه : بعبارة أوضح ، فـ " ظريف أفندي " ، يجب أن يموتَ إذا كان في موته إنتصاراً لفكرة " الإسلوب الجديد " لفناني الغرب المسيحي ، المُقابل / والمُضاد لإسلوب فناني مشرقنا المسلم ، القديم . ولكن ها هوَ " زوج الخالة " يواجه المصيرَ المأساوي نفسه ، وعلى الرغم من تبنيه للأسلوب الجديد ، الموسوم ؟ بموهبته الفذة ، يضعنا اورهان باموك ، هذه المرة ، أمام ما يمكن تسميته بفكرة " القتل التسلسلي " : فالمجرم ، منذ لحظة إنجازه قتل ضحيته ، يصير ضحية ً ، بدوره ، للهواجس والهذيان وتأنيب الضمير : " عندما أنظر إلى وجه الناس أرى أن كثيراً منهم يعتقدون أنهم أبرياء لأن فرصة إرتكاب جريمة لم تسنح لهم . من الصعب التصديق أن غالبية الناس خير مني خلقاً ، أو أفضل مني بسبب القدَر والنحس " ( ص 25 ) . فإذا كان الجبّ ذاكَ مكاناً متوحّداً ، مظلماً ورطباً ، جديراً بأمثال " ظريف أفندي " ـ ذي العقلية المتخلفة الظلامية ؛ فإنّ منزل " زوج الخالة " ، كان على العكس من ذلك تماماً : مكاناً للإلفة والأناقة والنور وبالأخص ، مأوى الحبيبة ؛ " شكورة " ـ على إفتراضنا المبنيّ على علامات عديدة في مناجاة الرجل . لا غروَ إذاً ، في تلك الليلة التي شهدت جريمته الثانية ، أنْ يجتاح القاتلَ حنينٌ لذكرياته في هذا المنزل الحبيب وأن يتأسى على مصير صاحبه ، المنتظر : " طبعاً كان الشيطان هو الذي يستفزني في تلك اللحظة لأنزل بالحقة بكل قوتي على رأس هذا الخرف ذي العقل المائع . ولكنني لم أرضخ ، وبسذاجة قلت له متأملاً : " أنا قتلتُ ظريف أفندي " إنكم تفهمون سبب قولي هذا له بأمل ، أليس كذلك ؟ كنت آمل أن يتفهمني الأفندي زوج الخالة ، ويعفو عني ، وأن يخاف مني أيضاً ، وأن يساعدني " ( ص 241 ) . نصلُ إلى المكانيْن اللذيْن شهدا جريمتيْ " إسمي أحمر " ، التاليتين . أولهما ، إرتكبت في المقهى وكان ضحيتها المدّاح ( الحكواتي ، كما درجنا على تسميته ) . مقتل هذا الرجل ، ما كان له علاقة مباشرة بسياق الجريمتين السابقتين ، الخاصة كل منهما بنقاش يعمل في إنجاز ذلك الكتاب السرّي . على أنّ كون جماعة الواعظ المتزمت ، " نصرت الأرضرومي " ، هم من قاموا بفعل القتل جهاراً وعلى الملأ ؛ هذه الحقيقة ، تحيلنا إلى المسألة السببية ـ التي سبق وعرضنا لها ـ المتصلة بجوهر الحكاية ، كخلفية لها : أي أن هذه الجريمة كانت من نتائج التحريض العام ضد الأساليب الجديدة للحياة في دولة الخلافة العثمانية وعلى كافة الصعد . من هنا نفهم مغزى قول " زوج الخالة " للقاتل حينما باح له بجريمته الأولى ، التي كان ضحيتها زميلهما النقاش : " أنا غير مندهش لقتلك له . أمثالنا الذين يعيشون مع الكتب ، ويرون صفحاتها في أحلامهم يخشون شيئاً دائماً . وفوق هذا نحن نمارس عملاً أشد محظورية وأكثر خطورة : نحن نعمل في الرسم في مدينة إسلامية " ( ص 244 ) . الجريمة الأخيرة ، إرتكبت في النقش خانة . فكأنما أراد المؤلف أن يختتم رحلة أبطاله ، النقاشين ، في قلعة الفنون هذه : فيها ولدوا كرسامين ، وإليها إنتهوا كقتلة ومقتولين . فإذا كان المجرم ، وفق خطة أورهان باموك الجديرة بالإعجاب ، قد تمّ إستدراجه إلى هذا المكان ، ليتمّ فيه كشفه وإدانته بالموت ، فإنّ بطل الحكاية " قرة " ، بدوره ، سيتقمّص ولوْ رمزياً تلك الصفة الإجرامية ؛ ما دام إرتضى لنفسه صفات المحقق والقاضي والجلاد ، معاً .
ثمة جرائم سبعة ، في رواية إيكو " إسم الوردة " . هنا أيضاً ، نجدُ أنّ كلاً من جرائم القتل هذه ، قد وقع في مكان مختلف عن الآخر ؛ وفي ذلك الدير المتعدد الأبنية والشبيه بحصن منيع ، بحسب وصف رئيسه مجازاً : " إنها قلعة رائعة ، تلخص تناسب أبعادها القاعدة الثلاثية التي نظمت صنع سفينة نوح ، وأُسستْ على ثلاثة طوابق ؛ لأنّ ثلاثة هو عدد الثالوث المقدس ، وثلاث اللغات المقدسة " ( ص 479 ) . الأرقامُ إذاً ، تحيلُ إلى دلالات معيّنة ـ دينية بشكل خاص ـ في روايتنا هذه ؛ لدرجة أنّ القاتل يوقع بضحاياه إستمداداً من إحدى تلك الدلالات ، ( سِفر الرؤيا ) ، المبثوثة في الإنجيل . لكأنما هذا الكتابُ ، المقدس ، هوَ بمعنى ما سلاح ذلك القاتل بمواجهة ما يعتقدُ أنه أراجيف الكتاب الآخر ، السريّ ( الضحك ) ، المنسوب لأرسطو : ثيمة " البديل " ، تتجلى هنا والحالة هكذا . وقد سبق لنا ، في مبتدأ هذا المقال ، إحالة ذلك لموضوع المكان ؛ عند حديثنا عن الرواية الاخرى ، " إسمي أحمر " . وفي هذه الرواية ، القرينة ، نتتبع الموضوع ذاته ( المكان ) خلل تأثرنا لخطى القاتل ، المتنقل من بقعة إلى اخرى في ذلك الدير العظيم ، الغامض ، بحثاً عن ضحاياه المُرتكبين ، على رأيه ، خطيئة " المعرفة " الممنوعة . وإذ أسهبنا في موضع آخر ، بالحديث عن الجريمة الأولى ( ادالمو ) ودلالة المكان الشاهد عليها ؛ فها نحنذا أمام الجريمة التالية ، المودية بحياة زميله ، " فينانسيو " ، الذي عُثر على جثته قرب قاعة تزيين الكتب . قبل يوم واحد من الحدث ، كان القتيل قد دخل في مجادلة حادة مع " يورج " ، الكاهن الأعمى ، حول أرسطو ، الفيلسوف الإغريقي . نعلم أيضاً أنّ " فينانسيو " كان يجيد اليونانية ، مما أتاح له معرفة محتويات بعض الكتب المخطوطة بهذه اللغة ؛ بحكم عمله في تخطيطها وتزيينها بالرسوم . قلنا في موضع آخر من مبحثنا هذا ، أن " غوليامو " وبطلب من رئيس الدير قد تولى مهمة التحقيق في جرائم الدير . وهوَ من جهته ، بحسب سعة معارفه وسداد رأيه راحَ يتقصى أثر القاتل إعتماداً على ما يمكن وصفه بـ " الأساليب الجديدة " للتحقيق . فحينما يشكّ رئيس الدير منذ البداية بأحدهم في موضوع الجريمة ، ( " برينغاريو " ) ، مقترحاً أن يصار إلى تعذيبه حتى إقراره بما يُنسب إليه من وقائع ، فإنّ " غوليامو " يعترض على ذلك بقوة : " تحت وطأة التعذيب لا تقولُ فقط ما يريد المحقق ، ولكن ما تتصور أنه من الممكن أن يرضيه " ( ص 80 ) . ولا يلبث الرأي الأخير أن ينتصرَ . فإن " برينغاريو " ، وفي اليوم التالي مباشرة ، يُعثر على جثته في مغطس الحمّام المستعمل لتخزين الدهون المتخلفة عن المطبخ . وكانت يده اليمنى مسودة ، حال زميله الميت " فينانسيو " . وعلى الرغم من شبهات لدى المحقق تتعلق برذائل معينة ، جسدية ، تمارس في ذلك المكان ( المطبخ ) ؛ إلا أنه ما عاد لديه من شكّ ، بأنّ موضوعاً مشتركاً يجمعُ بين الجرائم الثلاث : إنه الكتاب السرّي ، الحاضر في هذه الجريمة الأخيرة أيضاً ؛ الكتاب ، المنسوب لذلك الفيلسوف الإغريقي ( أرسطو ) ، والمفترض أنه محفوظ بتكتم شديد في البناء الملغز ، الموسوم بـ " المكتبة " . المحقق " غوليامو " ، يكتنه رويداً مغزى الجرائم تلك ، محيلاً إياه للمكان ( قاعة نقوش الكتب ) ؛ التي كانت تتيح لأولئك الضحايا الإطلاع على المحرّم من المعرفة .
لدينا فاصلٌ نوعيّ ، سيقومُ بين الجريمة المرتكبة بحق " برينغاريو " وما تبعها من جرائم اخرى ، أربعة . فالضحايا الأولون ، الثلاثة ، كانوا يمتهنون حرفة الرسم وتزيين الكتب ، أما الآخرون فكل منهم كان له صفة مهنية مختلفة : إنّ " سيفيرينو " ، العشّاب ( أو العطّار ، كما يقال لدينا في المشرق ) ، كان أولهم وبترتيبه الرابع في سلسلة الجرائم تلك . الغريب ، أنّ الشكوك حوله كانت قد أضحتْ من الجلاء بحيث أنّ " غوليامو " راح يزوره من آن لآخر ، وخصوصاً في اليوم الشاهد على مقتله . كان محققنا هذا ، بحكم خبرته في الأعشاب ، قد جعل ذلك ذريعة لإستكشاف المكان المنعوت بـ " المختبر " ؛ أين يتمّ تقطير الزيوت والعقاقير المتنوعة الإستعمال . إنّ " غوليامو " ، فضلاً عن إقتفائه أثر القاتل المحتمل ، قد توصل إلى قناعة بأنّ الضحايا وقعوا جميعاً فريسة سمّ معيّن ، غامض : ومَنْ غيرَ " سيفيرينو " ، العطار ، بقادر على تركيب مثل ذلك السمّ ؟ هذا الأخير ، في الساعة التي سبقت موته ، كان قد دعا المحقق إليه في المختبر من أجل إطلاعه على ما أسماه بـ " كتاب غريب " . إلا أنّ مصادفة تحصل ، بمرور الكاهن الأعمى " يورج " لحظتئذٍ ، فيتمّ تأجيل الحديث لوقت آخر ؛ الوقت ، الذي لن يأتي أبداً . فكلا الصديقان ، " غوليامو " و " إدسو " ، إنشغلا عن حيازة ذلك الكتاب بمطاردتهما لشبح شخص كان قد توارى للتو في العتمة ؛ وربما كان هذا " ملاخي " ، حافظ المكتبة ، الذي شاهداه عند العطار قبيل مقتله بدقائق : إنه الشخص الغريب ( كان أجنبياً ) ، ذو الشخصية المبهمة ، من راح الصديقان يطاردا خطاه من مكان إلى آخر ، بحثاً عن خيط ما يؤدي لإدانته . ها هوَ " غوليامو " يقول أنّ رئيس الدير قد إرتكب غلطة ، بعهده المكتبة لحَفظة أجانب : " لأنه يعتبر الدير قلعة بنيت للدفاع عن المكتبة " ( ص 146 ). ولكن هذا الرجل ، ( " ملاخي " ) ، الذي أضحى مشبوهاً بقوّة ، ما عتمَ أن لحق بمن قبله من الضحايا . ولأول مرة ، يُنبئنا عنوان الفقرة ، الخاصّة بالفصل السادس من " إسم الوردة " ، بإسم أحد القتلى . وهذا ما يلقي ضوءاً ضافياً على أسلوب كاتبنا إيكو ؛ خصوصاً لجهة الأهمية التي يعلقها على فهرست الرواية . ولنعد بعدئذٍ إلى ذلك اليوم ، الخامس في سلسلة " أسبوع الموت " . لقد إجتمع في الكنيسة جمعُ الرهبان عند صلاة الصبح ، وكان مقعد " ملاخي " فارغاً . رئيس الدير ، وقد تكهّن بالمصيبة الجديدة ، يأمر جوقة الإنشاد برفع وتيرة الصوت ، كيما يرفع معنويات الحاضرين . ولكن فجأة ، يظهر حافظ المكتبة ذاك ، في مقعده . وما أن تسري غمغمة الإرتياح بين الحاضرين ، حتى يسقط " ملاخي " من مقعده أرضاً ، قائلاً وهو يحتضر : " لقد قال لي ذلك .. صحيح .. له قوة ألف عقرب " ( ص 447 ) . كانت أصابع يده اليمنى مسودّة ، ولسانه كذلك . دلالة المكان هنا ، تأخذنا إلى حقيقة أنّ الكنيسة هيَ المُعدّة ، عموماً ، كأساس للدير المسيحي وبنائه الأبرز والأهم : فلا غروَ أن يختار كاتبنا هذا المكان بالذات ، كشاهدٍ على الجريمة الجديدة ؛ ما دام القتيل يُعدّ في مقام القائم على أبرز وظائف الدير وأهمها وأكثرها سريّة . فبصفة مهنته ، كحافظ للمكتبة ، كان " ملاخي " الأَوْلى بين الكهنة بمظنة القتل ؛ لما نعرفه عن موضوع الكتاب السرّي ، المُسبب على رأي محققنا سقوط الضحية تلو الاخرى من اولئك الذين قادهم النحس للإطلاع عليه : " فمن خلال كل جريمة ترتكب للحصول على شيء ، تعطينا طبيعة ذلك الشيء فكرة ، ولو باهتة ، عن طبيعة القاتل " ( ص 314 ) . دير الفرنسيسكان هذا مبنيٌّ ، ( بحسب ما سبق أن اوردناه على لسان رئيسه بالذات ) ، على شكل سفينة نوح ، علاوة على مجاز كونه قلعة ً للدفاع عن المكتبة . ففي هذه الحالة ، يُفترض بالقائمين على الدير أن يكون على عاتقهم ردّ الأخطار عن قلعتهم / سفينة نجاتهم ، وبهمّة الأنبياء وإلهامهم . هذه الحقيقة ، جعلت الشبهات تنتقل ، بشكل أو بآخر ، إلى " أبوني " ؛ رئيس الدير . إن السردَ هنا ، لن يتأخر عن إمداد قارئه بالمعلومات الهامة عن شخصية هذا الرجل ، والتي توصّل إليها " غوليامو " . ثلاث محطات ، توقف عندها محققنا فيما يخصّ رحلة حياة " أبوني " : إنه إبن سِفاح لسيّد المنطقة ، المحتضنة دير الفرنسيسكان ؛ وقد صار رئيساً للدير إثر مقتل سلفه في ظروف غامضة ؛ والأهم ، أنّ " أبوني " كان حافظاً للمكتبة قبيل إنتدابه لرئاسة الدير : الصفة الأخيرة ، إهتمّ بها " غوليامو " بشدة ، لإنها مرتبطة بموضوع الكتاب السرّي ؛ وهوَ هدف الجرائم جميعاً ، بحسب دلالات عديدة ، توصّل إليها . ولكن بينما كان " غوليامو " يراوح عند هذه العتبة الخطرة ؛ إذا بـ " أبوني " وعلى حين بغتة ، يطلب منه تركَ التحقيق ومغادرة المكان بسرعة . كانت حجته ملتبَسة ، وأنه من غير المجدي معرفة سرّ الجرائم تلك ، كونه ( أبوني ) عرف أكثر من المحقق بما سمعه في كنف سرية الإعتراف . وما لن يعرفه رئيس الدير ، أنّ مصيره ، بنفسه ، قد تحدد سلفاً ؛ ثمة ، في المكان الموسوم بـ " المعظمة " ، والذي يُنزل إليه عبْرَ سلم سريّ جدثُ كل شخصية مهمة في الدير ، وتحفظ رميمها فيه . دلالة المكان ، واضحة ربما هنا . فمعضلة الكتاب السرّي ، التي جهد رئيس الدير لمعرفة لغزها ، أودتْ به شخصياً إلى متاهةٍ عبْرَ السلم السرّي ذاكَ . وهاهو القاتل ، أخيراً ، وجهاً لوجه أمام " غوليامو " لينبئه بمصير ضحيته الجديدة ، المقرر : " إنه رجل ميت . ذاع صيت أبوني لأنه إستطاع إنزال جثة في سلم حلزوني . ومات لأنه لم يستطع أن يصعدَ بجسمه هوَ " . ( ص 500 )
الهوامش 1 ـ أورهان باموك ، إسمي أحمر ـ الطبعة العربية في دمشق عام 2000 ، ص 9 : وجميع إستشهاداتنا هنا مستلة من هذه الطبعة 2 ـ أمبرتو إيكو ، إسم الوردة ـ الطبعة العربية في ليبية عام 1993 ، ص 102 : وجميع إستشهاداتنا هنا مستلة من هذه الطبعة 3 ـ أحمد بن تيمية ، كتاب الصلوات ـ بيروت 1985 ، ص 119 4 ـ برتران بادي ، الدولتان : الدولة والمجتمع في الغرب وفي دار الإسلام ـ الطبعة العربية في الدار البيضاء 1996 ، ص 23
للبحث صلة ..
#دلور_ميقري (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
محاكمة الكاتب
-
التنكيل بالكاتب
-
رحلة إلى الجنة المؤنفلة / 2
-
سندريلا السينما : فنها وعشقها الضائع
-
كركوك ، قلبُ تركستان
-
سندريلا السينما : حكاية ُ حياةٍ ورحيل
-
في مديح الخالة السويدية
-
رحلة إلى الجنة المؤنفلة
-
أدبُ البيوت
-
مناحة من أجل حكامنا
-
حليم والسينما
-
كنتُ رئيساً للكتاب العرب
-
السينما المصريّة وصناعة الأوهام
-
شاعر الملايين : ثلاثة مرشحين للجائزة
-
كمال جنبلاط والتراجيديا الكردية
-
من معالم السينما المصرية : نهر الحب
-
نائبان ومجزرتان
-
نائبان وجزرتان
-
ثلاثة أيام بصحبة الحسناوي
-
العائشتان : شاعرتان صوفيّتان بين دمشق والقاهرة 2 / 2
المزيد.....
-
الكوفية: حكاية قماش نسجت الهوية الفلسطينية منذ الثورة الكبرى
...
-
رحيل الكوميدي المصري عادل الفار بعد صراع مع المرض
-
-ثقوب-.. الفكرة وحدها لا تكفي لصنع فيلم سينمائي
-
-قصتنا من دون تشفير-.. رحلة رونالدو في فيلم وثائقي
-
مصر.. وفاة الفنان عادل الفار والكشف عن لحظات حياته الأخيرة
-
فيلم -سلمى- يوجه تحية للراحل عبداللطيف عبدالحميد من القاهرة
...
-
جيل -زد- والأدب.. كاتب مغربي يتحدث عن تجربته في تيك توك وفيس
...
-
أدبه ما زال حاضرا.. 51 عاما على رحيل تيسير السبول
-
طالبان تحظر هذه الأعمال الأدبية..وتلاحق صور الكائنات الحية
-
ظاهرة الدروس الخصوصية.. ترسيخ للفوارق الاجتماعية والثقافية ف
...
المزيد.....
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
-
ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو
...
/ السيد حافظ
المزيد.....
|