النص مأخوذ من دراسة المجتمع المدني والدولة السياسية في الوطن العربي - توفيق المديني - دراسة - من منشورات اتحاد الكتّاب العرب - 1997
الفصل الأول: التميز في الفكر الغرامشي إزاء الماركسية الكلاسيكية:
لما كانت قضايا المجتمع المدني تمثل حقلاً من حقول المعرفة الضرورية، التي تخضع في عملية انتهاجها لمنطق التميز في تحقيق كونيتها، فإن القراءة المبدعة للفكر الغرامشي، الفلسفي والسياسي والأيديولوجي، حول قضايا المجتمع المدني، بدلالة النقد، والتحلل، والتأويل لما يمكن أن تسمح به قراءة نصوصه المتعددة، تتطلب منا الاطلاع على ما استجد من انتاجه لجهاز من المفاهيم النظرية، والسياسية، ونظام بنائها، بصدد مجابهته لقضايا المجتمع المدني، وبخاصة منها الهيمنة، وإشكالية تميز جهاز هذه المفاهيم المعرفية الغرامشية، باعتبارها نتيجة ضرورية موضوعية لتميز واقع إيطاليا، بأبعاده القومية، والسياسية، والاجتماعية، والثقافية، المتأخر تاريخياً بالمقارنة مع المركز الأوروبي.
إن حركة التغيير الكونية، التي بدأت مع توحد، وعالمية الرأسمالية، وبالتالي مع الوجود الفعلي للامبريالية، حيث دخلت في سيرورة عالمية الرأسمالية مجتمعات جاءت إلى التاريخ عبر بوابة كونية نظام الانتاج الرأسمالي أولاً، وبواسطة الفعل الامبريالي، الذي أخضع منطق تطور المجتمعات المتأخرة تاريخياً لعلاقة تبعية بنيوية له ثانياً، هي حركة يحكم تطورها قانون التطور غير المتكافىء للرأسمالية، باعتباره قانوناً كونياً ومطلقاً أولاً، ومنطق الاختلاف والتميز في تحقيق هذه الكونية، الذي يتحكم في سيرورتها التاريخية، ثانياً، و"حركة الفكر في مثل حركة التاريخ تخضع في إنتاجها المعرفية لمنطق التميز في تحقق الكونية"(1).
لقد تكون الفكر الغرامشي النظري والسياسي في إطار تحليله للمضمون الطبقي للمجتمع البرجوازي، وللعلاقة الضرورية بين الاشتراكية والحرية، حيث بين غرامشي إن الاشتراكية حرية، حرية مطلقة ضد كل جمود عقائدي، ضد كل حقيقة موحى بها، وضد كل مخطوط متصور تصوراً مسبقاً، في صفحة الوحدة بين النظرية والممارسة، كمحور وكمركز استراتيجي في ممارسته للعمل الثوري الأصيل من أجل بناء حركة ثورية، ذات مضمون اشتراكي وديمقراطي في إيطاليا، تدخل في إطار عملية انتقال التاريخ من الرأسمالية إلى الاشتراكية. وفي تصديه لتحليل المعضلات النظرية والعملية، التي أفرزها واقع المجتمع الرأسمالي الايطالي، المتميز باختلاف الشروط الموضوعية لعملية انتقاله من الاقطاعية إلى الرأسمالية، وبالتالي المتميز بتفاوت تطور الرأسمالية فيه، بين شماله الصناعي المتقدم، وبين جنوبه الفلاحي المتأخر تاريخياً، وبتعقد تأخر تحقيق الوحدة القومية الايطالية، ذهب غرامشي إلى القول بأن "البرجوازية الايطالية بتطويرها لذاتها، قد حققت الوحدة القومية ولكنها كانت أيضاً مسؤولة عن إطلاق عنان الحرب الأهلية التي استنكرتها كثيراً لفظياً على الأقل "ولأن الحرب الأهلية تعني بالتحديد صداماً بين قوتين مسلحتين، تتنازعان حكم الدولة، فإنها صدام يتم، لا في ميدان مفتوح بين جيشين منفصلين انفصالاً واضحاً ومحددين تحديداً منتظماً، وإنما في قلب المجتمع نفسه. قبل عام 1859 كانت البرجوازية هي التي تملك مصلحة في الوحدة القومية من وجهة النظر السياسية والاقتصادية. وبعد ستين عاماً كانت إيطاليا لا تزال في الحالة السيكولوجية التي كانت سائدة قبل عام 1859. ولكن البرجوازية لم تكن هي التي قيض لها أن تتقدم وأن تقود الصراع من أجل الوحدة. اليوم الطبقة "القومية" هي البروليتاريا، مجموع العمال والفلاحين، مجموع الشعب العامل، الذي لا يمكن أن يسمح بأن تتفكك الأمة الآن، وحده الدولة هي تشكل تنظيم الانتاج والتبادل الذي بناه العمال الايطاليون.. إنه تراث الثورة الاجتماعية التي تريد، البروليتاريا ضمها إلى الأممية الشيوعية"(2).
إن غرامشي هو ذاك المفكر والفيلسوف التاريخي، الذي انطلق من كونيه الفكر الماركسي، التي تجد أساسها في كونية حركة انتقال التاريخ البشري المعاصر من الرأسمالية إلى الاشتراكية، ومن واقع الحركة الثورية الايطالية، ومن تميز الحركة الشيوعية العالمية في الواقع الاجتماعي والسياسي والثقافي الايطالي، حيث أن الممارسة النظرية والمعرفية لغرامشي، تتميز بتحركها في ارتباطها الطبيعي بحركة الصراعات الطبقية في إيطاليا، وبتحركها في حقل معرفي، هو التفسير والتحليل الماركسي، الذي اعتمده غرامشي في رؤيته وفهمه لمختلف مظاهر التاريخ الايطالي، والثقافة الايطالية. من هنا كانت السمة المميزة للمارسة النظرية والمعرفية للفكر الغرامشي، عن باقي أعمال الماركسيين الغربيين الآخرين، تتمثل في حركتها المحورية على مستوى "البنية الفوقية" Super Structure أي أن غرامشي اعتمد في ممارسته النظرية الثورية على دراسة وتحليل البنيان الفوقي، شديد التعقيد والتنوع، بما يمثله كمجموعة ملموسة من الأفكار السياسية، والحقوقية، والدينية، والفلسفية، والأخلاقية، والجمالية، والمشاعر، والميول، والسيكلوجيا الاجتماعية، باعتبار أن البنية الفوقية هي ظاهرة ضرورية لكل تشكيلة اجتماعية طبقية ومميزه لها، أولاً، وتمثل إحدى القوى الاجتماعية، التي يحدث تطور التشكيله الاقتصادية الاجتماعية، كنتيجة لعملية التفاعل المتبادل بين مستوياتها البنيوية ثانياً.
وهكذا، فإن غرامشي في انطلاقته الرامية والهادفة من التعامل بشكل رئيس مع البنية الفوقية، حيث أن الدولة السياسية البرجوازية هي المؤسسة الرئيسة، لهذه البنية الفوقية وحيث أن باقي المؤسسات والمنظمات المختلفة، مثل المؤسسات القانونية، والأحزاب السياسية، والاتحادات النقابية، والمنظمات والمؤسسات الثقافية، والتقليدية، والعملية، والصحافة تمثل التكوينات المختلفة للمجتمع المدني، كان يعي جيداً، أن مؤسسات هذه البنية الفوقية هي نتاج، ونتيجة ووسيلة لصراع الطبقات في إطار التشكيلة الاقتصادية الاجتماعية البرجوازية الطبقية، وهي تعبر في الوقت عينه عن المصالح الأساسية المتناقضة، وتقوم بحمايتها. وكانت رؤيته متناقضة جذرياً مع الرؤية الاقتصادية- الايديولوجية الماركسية الارثوذكسية، التي نجم عنها ضلال كبير، لجهة تصويرها لنا الإنسان، وكأنه "جملة العلاقات الاجتماعية"، أي ما معناه "علاقات الانتاج" أي "الطبقات".
في المنظور والممارسة للعمل الثوري، كان الاختيار الغرامشي الانتقائي في التعامل مع البنية الفوقية نابعاً من احترامه، وتثمينه بالأساس للثقافة، والمعرفة والأخلاق، ولتصوره للإنسان وتاريخه، ومصائره، من أنه هو الصانع والعاقل. غير أنه ينبغي النظر أيضاً إلى هذا الاختيار ضمن إطار الاشكاليات التي كانت توجه غرامشي، والمعارك السياسية، التي خاضها ضد شقاء الوعي الاقتصادي، وعلى المستوى النظري في تطويره لمفهوم الهيمنة في علاقتها بالدولة والحزب، وهي كلها معارك أملت الوقائع السياسية المتحركة والمتغيرة على غرامشي، ضرورة النضال في سبيل كسبها على جميع الصعد المعرفية، والفكرية، والسياسية، والايديولوجية، من أجل تأسيس وعي تاريخي مطابق، يمكن توظيفه عن طريق الفعل السياسي التاريخي الواعي، والصادق، والعقلاني، نحو تصفية سائر البنى، والتشكيلات والعلاقات السائدة في المجتمع الرأسمالي. من هنا تنبع أهمية المعركة الثقافية عند غرامشي، وذلك للأسباب التالية:
أولاً- في إطار زمان القطع الثوري، حين دخلت البنية الاجتماعية الروسية في قفزتها البنيوية التاريخية، حيث بلغ الصراع الطبقي محطته التاريخية الجامحة وحدته القصوى، متمظهرا كصراع سياسي مباشر، صاغ لينين نظرية واستراتيجية تصاعد الثورة الديمقراطية البرجوازية إلى ثورة اشتراكية، في ظروف روسيا القيصرية المتميزة بصورة عريضة بالبلاد المتأخرة تاريخياً، التي لم تأخذ بأسباب التصنيع، والتي أغلبية سكانها من الفلاحين، يعملون في ظل الزراعة الأكثر تخلفاً، ويعيشون في القرى والأرياف الأكثر توحشاً، على نقيض البروليتاريا الأوروبية والأميركية، التي تعيش في ظل الرأسمالية المالية والصناعية الأكثر تطوراً.
ولقد قدمت تجربة الثورة الروسية العام 1917، الحاحية بل ضرورة الثورة البروليتارية لا في عداد المسائل النظرية الكبرى فقط، وإنما أيضاً على مستويات الفعل التاريخي الثوري، حيث وضع لينين زعامة البروليتاريا لهذه الثورة، وشدد على ضرورة تحالف الطبقة العاملة مع طبقة الفلاحين، حيث لم تغب عن رؤيته أبداً ضرورة كسب انحياز الفلاحين المؤقت على الأقل، وضرورة الضغط والنشاط الثوري من "الأعلى" أيضاً عبر محور السلطة الحكومية". غير أن إحداث هذه "الثورة الكبرى"، لم تتطور كما هو معلوم بالضبط، كما تنبأ بها لينين وتروتسكي، لكي تنتصر في معظم البلدان الرأسمالية المتطورة، إبان الحرب الامبريالية الأولى في أعوام 1914- 1919، ولم تزد على الدوام من وتائر تحركها الارتقائي التصاعدي: في القارة الأوروبية، على الرغم من أن عصر الامبريالية قد أتاح للينين بأن يستنتج "باحتضار الرأسمالية"، وإن الامبريالية هي عشية الثورة البروليتارية، وأن الأزمة الثورية في عامة أوروبا خلال أعوام الحرب قد خلقت المقدمات المادية والموضوعية لتحقيق الانقلاب التاريخي اليانع، عن طريق القيام بالدعاية للتحركات الجماهيرية الثورية والإعداد لها وتنفيذها بهدف إسقاط سيطرة البرجوازية والاستيلاء على السلطة السياسية، وإقامة النظام الاشتراكي، بوصفه الوحيد الذي يخلص البشرية من الحروب، وعزيمة إقامة هذا النظام التي تقوى في مدارك عمال كل البلدان بسرعة لم تحدث من قبل، كل هذا هو الرد الذي يجب أن تفعله البروليتاريا على الحرب"(3).
ومنذ هزيمة الثورة الأوروبية، وانتقال مركز الثورة البروليتارية العالمية من أوروبا إلى بلدان الشرق، وبدأت الاشتراكية تثبت وجودها في روسيا، واعتناق ستالين نظرية بناء الاشتراكية في بلد واحد، ذلك البلد ذو التطور الرأسمالي المتأخر تاريخياً، أصبحت تحقيق القانونيات التاريخية، التي اكتشفها مؤسسا الماركسية، ولينين، تصطدم بالمعوقات، وبخاصة في مجال التفاوت الذي يعاني منه العالم الرأسمالي في تطوره الاقتصادي والسياسي، وكما هو واضح عقب سير ربيع الثورات الأوروبية عامي 1848- 1849، حين حلل ماركس وأنجلز تعقد العملية الثورية العالمية، لجهة القيام بالثورة البروليتارية العالمية، التي كانت من المرجح أن تكون فرنسا هي المبادرة في هذه الثورة على صعيد أوروبا، مع احتمال اندلاع حرب مضادة لهذه الثورة من جانب انجلترا باعتبار "بريطانيا العظمى هي القائدة الصناعية والتجارية العالمية".
لقد استوعب غرامشي تجارب ودروس ما بعد ثورات 1848، وإحداث الثورة البروليتارية بعد 1921، التي فشلت في اكتساح أوروبا، وأصبح يقول منذ ذلك الحين أن حرب المواقع احتلت مكان الثورة الدائمة. وإنه في مثل هذه الأوقات لا تكون هناك معارك مباشرة بين الطبقات، ويتحول الصراع الطبقي إلى "حرب مواقع" وتصبح "الجبهة الثقافية"، هي الميدان الرئيسي للنزاع(4). وهذه واحدة من الأسباب الرئيسية التي جعلت غرامشي يشدد على التعامل مع البنية الفوقية، وعلى احتلال المعركة الثقافية مكانة مهمة في المشروع السياسي الثوري، "وفي هذه الشروط يكون المشروع السياسي للطبقة العاملة، ثورة ثقافية- أخلاقية، ينتقل فيها الإنسان البسيط من السلبية إلى العقل، الذي يعني المبدع، ويكون معها أيضاً حزب الطبقة العاملة مثقفاً جمعياً أي نقيضاً لكل تصور تقليدي للثقافة والمثقف. ومهما دار السؤال واستدار تظل وحده السياسة والنظرية قائمة. كيف يمكن نقل الماركسية من شكلها المنطقي التاريخي إلى شكل الممارساتي المشخص؟ كيف تصبح الماركسية وهي أرقى أشكال الثقافة المعاصرة، وعياً شعبياً أو ماركسية جماهيرية؟ كيف يمكن التعامل مع الحزب كمثقف جمعي؟ كيف يمكن التوحيد بين المثقفين والجماهير من أجل بناء "كتلة ثقافية أخلاقية تسهم سياسياً في التقدم الثقافي للجماهير، وتنقل الجماهير من وضع الغريزة الطبقية إلى وضع الوعي الطبقي؟ ما هي دلالة الثقافة والأخلاق على المستوى الاجتماعي. أي من يعلم المعلم؟ جميع هذه الأسئلة وهي أسئلة تتوحد فيها الثقافة والسياسة بلا انفصام، جعلت غرامشي يدور طويلاً حول أسئلة المثقف، والمثقف عند غرامشي، لا يتعرف كفرد، بل كمجاز سياسي، فالبحث الثقافي ليس هدفاً في حد ذاته إنما هو وسيلة للتعرف على الواقع الاجتماعي الذي يجب تغييره"(5).
ثانياً- إذا كانت فكرة وجود الفلسفة وجوداً ضمنياً في عمل البشر التاريخي، وتنير مفهوم المذهبية حسب مقولة فكر غرامشي، فإن الفلسفة الماركسية في نظره ترتدى أصالة جذرية في تصورها للعالم، بما أنها فلسفة أصيلة تامة، فهي فلسفة (البراكسيس) أو "التاريخية المطلقة فلسفة"، وبالتالي فهي تمثل العلم المشخص للتاريخ.
وحيث أن المكونات الثلاثة للماركسية، الاقتصاد السياسي الانكليزي، وعلم السياسة الفرنسية والفلسفة الألمانية الكلاسيكية، في نظر غرامشي، كانت تتويجاً للثقافة المدنية، عند أرقى أمم أوروبا، إلا أنه لا يقف عند هذا الفهم السطحي للإبداع الثقافي والفكري الأوروبي في تياراتها الثلاثة، بل إن التصور الغرامشي في إدراكه للماركسية ينطلق من مسألة تحقيق الوحدة بين الفلسفة والتاريخ، التي تحدد التاريخية فلسفة. ويقول غرامشي في هذا الصدد: "وبكلام آخر، إن التاريخية الماركسية نظرية للواقع أو تصور للعالم وليست تصوراً للصيرورة التاريخية فقط".
ومثلما أن نظرية المعرفة عند لينين تقوم على الثالوث، المنطق، والجدل، ونظرية المعرفة، حيث أن المنطق ليس هو قطعاً وإطلاقاً الايديولوجية، وحيث أن الجدل في التعريف اللينيني، هونظرية المعرفة لـ(هيغل و) الماركسية سواء بسواء، و "هذا الجانب للأمور الذي ليس جانباً، بل هو جوهر الأمور قد أهمله بليخانوف ناهيك عن باقي الماركسين"(مقالة حول الجدل في الدفاتر الفلسفية)، فإن المبدأ الأساس في نظرية المعرفة عند غرامشي، تقوم على اللحمة بين النظرية والعمل، لأن موضوعية المعرفة، وحقيقتها، هي في قلب الكلية التاريخية، لا خارج التاريخ، ولا خارج الإنسان، ولا هي بأزلية، والماركسية قد اكتسبت نظرية المعرفة المثالية صفة تاريخية، بفضل إدركها لوحدة النظرية والعمل. يرى غرامشي أن النظرية وبالتالي كل معرفة- لا تنفصل عن تبديل الإنسان للواقع، عن إبداع الإنسان لواقع جديد. وهذا الجانب العملي من النظرية مواكب لجانبها التاريخي. وكل نظرية تتطور بحسب علاقتها الجدلية بالعمل السياسي أو التجريبي، وهذا العمل هو براكسيس تاريخيه تتبدل بتبدل التاريخ ولها تاريخها الخاص، وهذا أيضاً شأن النظرية. ومعنى ذلك أنه ليس هناك حقيقة نهائية، وكل معرفة فهي عابرة، وصحتها تابعة لعلاقتها الجدلية بـ"براكسيس تاريخية لا يجمدها شيء"(6).
إن التاريخ لا ينفصل عن الفلسفة، بل إنهما يؤلفان "كتلة واحدة"، ذلك هو موقف وجوهر فلسفة البراكسيس عند غرامشي، الذي كان دائماً يؤكد على أن الماركسية لا تقوم بذاتها إلا بالتشديد على مظهريها الجدلي والتاريخي، لأن القضية الجوهرية في نظر غرامشي تتمثل في كيفية أن تصبح النظرية قوة مادية تستولي على عقول الجماهير، وفي الطريقة التي تتخلل بها هذه النظرية إلى الجماهير العريضة، وفي تطوير جوهر النظرية في العمل الثوري.
ذلك أن كل مرحلة من مراحل السير العام للعمل الثوري، مرتبطة ارتباطاً صحيحاً بتطور النظرية وبطريقة إيصالها وتعميمها على أوسع نطاق من الجماهير، وهذه وظيفة النظرية الأساسية وآثارها في تحول الواقع باعتبارها قضيتها المركزية. وما يميز الماركسية عن العلم البرجوازي هي النظرة الكلية القائمة على جوهر المنهجية الجدلية، التي في فهمها للكلية تفسح في المجال لفهم الواقع باعتباره سيرورة اجتماعية، وتظهر في الوقت عينه على أنها معرفة واقع ضرورة الثورة الاجتماعية في سير التاريخ الجدلي، وعن التحول الكلي لكلية المجتمع باتجاه القطع الثوري.
ولما كانت المسألة الجوهرية في نظر غرامشي، تتمثل في ضرورة تجديد الماركسية، أو بالأحرى "إعادة التفكير" بالماركسية، في سبيل تحقيق نهضه ماركسية جديدة، إنطلاقاً من الموضوعات التي تعالجها المنهجية الجدلية، والتي تدور حول معرفة علمية التطورات التاريخية الاقتصادية والاجتماعية، والثقافية، في الغرب الرأسمالي عامة، وإيطاليا بخاصة، في فترة ما بعد الحرب العالمية الأولى، والتطور العالمي اللاحق لها، لجهة بروز الفاشية في إيطاليا، والنازية في ألمانيا واستقرار حكم ستالين، الذي عمل على مذهبة "النظرية الماركسية، وتحزيبها وإنتاج وعي مذهبي ايديولوجي جامد، قاد إلى تكريس الجهل الثقافي والمعرفي، والفكري، وسدَّ قنوات الحوار والتواصل والابداع الفكري والثقافي لتطوير النظرية، وحيث ساد الضلال الكبير في الماركسية، حين تحولت إلى إيديولوجيا، مستنداً في ذلك على عناصر كثيرة من المادية التاريخية، والحتمية، وعلى الاقتصادية الايديولوجية (التي تمثل خصْياً للإنسان الصانع والعاقل على حد تعبير الأستاذ الياس مرقص)" فإن كل هذه العوامل مجتمعه فرضت على غرامشي "العبقري" الوحيد الذي طرح وواجه أصعب مسائل الاشتراكية الأوروبية، على حد قول يوجينه جنوفيزه"(7) أن يخوض المعركة الثقافية والمعرفية والفكرية، ضد الماركسية المبتذلة، أي ضد الاقتصاد والايديولوجية الماركسية المبتذلة، باعتبارها تمثل نهجاً سائداً في نمط الأحزاب العمالية، ونظريتهم وتكتيكهم السياسي، وتستخدم مقولات المادية التاريخة بصفتها الكلاسيكية، في تطبيقها على المجتمع الرأسمالي، كمقولات ثابتة وأبدية. ويقول غرامشي في هذا الصدد، "في الصيغة الأكثر انتشاراً وهي صيغة التطير الاقتصادي" تفقد الفلسفة التطبيقية امتدادها الثقافي في الأوساط الأعلى من الجماعة الثقافية مهما كانت مكاسبها بين الجماهير وبين المثقفين العاديين الذين لا يريدون إنهاك أدمغتهم بل يريدون الظهور بمظهر الأذكياء جداً"(8).
على أن الطابع الثوري والأصيل لماركسية غرامشي، هو تاريخي وجذري، لأنه يحدد جوهر السير بالتناقض مع الاقتصادية- الأيديولوجية، ويرفض الماركسية المبتذلة، التي تحتوي على قدر كبير من الحتمية الاقتصادية، والميكانيكية، والمادية الفجة، والتي تستشهد بـ"القوانين الطبيعية"، التي ينطبق عليها التطور الاقتصادي مفهوماً فهماً تطورياً وحتمياً للتاريخ، الخاضع بدوره لقوانين التلقائية الموضوعية كقدرة اقتصادية"، يمكن أن تشكل جسر العبور من المجتمع الرأسمالي إلى المجتمع الاشتراكي، بتجاوز مفعولها وأثرها في عملية الانتقالات هذه، التدخل الارادي، أو العنصر الذاتي الواعي للإنسان الصانع والعاقل.
في حين أن غرامشي يرى أن الماركسية هي علم السياسة، وأن البروليتاريا الحديثة المنتظمة في حزب سياسي، والذي يلقبها بـ"السلطان الحديث"، مطالبة أن تحدد الارادة الجمعية القومية الشعبية والارادة السياسية العامة بالمعنى الحديث، بما أن هذه الارادة هي "وعي فاعل للضرورة التاريخية، من حيث هي محرك أول لمأساة تاريخية وفعلية"، تقود إلى تشكيل القوة القادرة بالمدلول الكامل للقوة اليعقوبية الفعالة في الواقع المشخص، وتحريك هذه الاردة الجمعية القومية الشعبية للطبقات المستغلة والمضطهدة من أجل تغيير المجتمع تغييراً ثورياً وجذرياً، حسب حاجات التاريخ وإمكانياته، وفي سبيل بناء الدولة الحديثة والمعاصرة.
في إطار مناهضته للحتمية الاقتصادية، التي حولت الماركسية إلى مذهب عقائدي مذموم أي مذهب يقوم على حقائق مطلقة وأزلية، يمثل غرامشي في تاريخ الفكر الفلسفي والسياسي لقضايا الاشتراكية والمجتمع المدني، في مرحلة الهزيمة ما بعد الحرب، وسيطرة الاتجاهات الاصلاحية في الأحزاب الاشتراكية الديمقراطية في أوروبا الغربية، عملاً متفرداً في كفاحه النظري، منطلقاً من أسس انطلاق جذرية، من أجل التأكيد على تاريخية الماركسية وجدلها، وبالتالي من أجل تطوير النقد لهذه الماركسية، عبر صياغته لفلسفة البراكسيس، التي تقوم على نقائض التحديدات الأربعة (حيث أن كل تحديد من هذه التحديدات مرتبط بنقيضه، ووجوده مرتبط عضوياً بوجود ضده والحد الخاص به)، أولها: العمل أو النشاط القصدي الهادف، الذي يقدم الفاعلية المقترنة بالمعرفة والفهم والوعي، على الانفعال، وحيث أن النظرية تتولد عن هذا العمل. وثانيها: أولوية الممارسة العملية بالقياس إلى النظرية، والاستدلال النظري.
وثالثها: الموضوعية والخارجية، وما يقابلهما على نقيضيهما من الذاتية والباطنية. ورابعها: الحس العملي الرصين.
وهكذا، فإن فلسفة البراكسيس بالمعنى الايجابي، تقوم على فلسفة العمل والفاعلية، والموضوعية، والحس العملي، وهي في المحصلة النهائية تعني بنية سيرورة تاريخية، تحتضن بصورة شمولية في إطار تحققها التاريخي لوحدة الإنسان بالعالم، "إن فلسفة البراكسيس تتخطى نواقص الفكر القديم، وتسبغ على الابداع الإنساني طابعاً أصيلاً. وينشأ عن هذا أن حضور الإنسان للعالم ليس مقصوراً على توضيح ما هو موجود من قبل ولا على فهمه، وإنما هو مشتمل أيضاً على إبداع الجديد، وفلسفة البراكسيس إبداع عالم اجتماعي إنساني، ينكشف فيه الواقع على حقيقته، وفيه بالتالي تتحقق الحقيقة بالفعل أي التمييز بين الحس والباطل، وبين النور والظلام(9).
ولما كانت فلسفة البراكسيس تمثل السيرورة التاريخية، باعتبارها تعبيراً عملياً عن الوعي المطابق للحاجات والامكانيات التاريخية لتغيير الواقع، فإنها تمثل في الوقت عينه التحقيق الفعلي لوحدة الضرورة التاريخية مع الارادة السياسية الفاعلة..
وبذلك تظهر قضية الواقع المتحرك والمتغير هكذا، بواسطة فلسفة البراكسيس تحت إنارة جديدة كلياً. وفي هذه الرؤية الغرامشية سواء في إدراك الواقع بالفكر النظري، أم بالتاريخ والممارسة العملية، وفي وعي كائن البروليتاريا الاجتماعي، كموضوع للسيرورة الاجتماعية، وكذات (الطبقة) عارفة، في علاقة تفاعل جدلي مع البنية الجدلية للتطور التاريخي، يتجلى تناقض غرامشي الجذري مع الحتمية التاريخية الآلية، التي في إطار السير التناقضي، إذ لم يقُدْها أي وعي مطابق، وإذا حركتها فقط طاقتها الخاصة، الملازمة والعمياء، تظهر في كل أشكال مظاهرها المباشرة، كنوع من الإيمان الأعمى الذي ينوب مناب عقيدة القدر والعناية الإلهية اللتين تلجأ إليهما الايديولوجيات الدينية بحتمية انهيار الرأسمالية بفعل تأثير تناقضاتها الداخلية، وكسيادة للماضي على المستقبل، أي سيادة رأس المال على العمل.
على الرغم من أن غرامشي يقر بأن الفلسفة الماركسية لا تزال تحتاج إلى عملية التطوير النظري القائمة على الرؤية الجدلية للتطور، التي تختلف وتفترق عن سائر الرؤى والنظريات الأخرى عن التطور، باعتبارها رؤية للتطور مع عوده إلى البدء، تندرج في قانون نفي النفي، إلا أنه يرى الماركسية بأنها تصور للعالم، حيث يوحد مبدأ "النمو الجدلي للتناقضات بين الإنسان والمادة" مختلف أقسامها المقومة، وإنها فلسفة تامة وليست "مجرد" نظرية في التاريخ والسياسة، ولا هي أصبحت "لحظة من الثقافة الحديثة".
من هنا يندرج تطبيق برنامج غرامشي الفلسفي والثقافي، الذي يحكمه منهج عمل جذري في النقد، لإحداث انقلاب ثقافي وفلسفي خصب، في سبيل تجديد الفلسفة الماركسية، فكرياً وثقافياً، كي تمارس وظيفة السيطرة والزعامة الثقافية العالية، وكي تمتد بجذروها العميقة في جماهير الشعب، التي تشكل الكتلة التاريخية، باعتبارها المولدة للتاريخ الثقافي والفلسفي للحركة العمالية العالمية. المدرسة الأرثوذكسية في الفلسفة الماركسية، حيث أن أهم ممثليها بليخانوف (مسائل الماركسية الأساسية 1908)، وبوخارين (نظرية المادية- الكتاب الشعبي في علم الاجتماع الماركسي الذي نشر في روسيا 1921). وكانت هذه المدرسة، التي ظهرت في الأممية الثانية قبل الحرب العالمية الأولى، وثورة أكتوبر، تريد الدفاع عن الارثوذكسية، النظرية ضد المدرسة الاصلاحية، التي كان يمثلها برنشتاين من الناحيتين النظرية والسياسية، داخل الحركة العمالية الألمانية، والذي هاجم في كتابه "مستبقات الاشتراكية" العام 1899، المبادىء الجوهرية للماركسية، طارحاً بذلك تحويل الحزب الاشتراكي الديمقراطي الألماني إلى حزب إصلاحي. وفي هذا الصدد كانت ماركسية غرامشي جذرية وتاريخية ومتصادمة مع هذه المدرسة الأرثوذكسية، عبر مناهضته لأعمال بوخارين في كتابه الشعبي، الذي يكرس فيه بصورة أدبية، نظرية في المادية التاريخية. ففي دفاتر السجن، وفي الجزء الثاني من مؤلفات غرامشي الصادرة عن دار اينودي، والتي عنونها الناشرون المادية الجدلية وفلسفة ب كروتشه، والتي نجد فيها فئتين من الملاحظات، الأولى: وتتعلق بمناهضة غرامشي لفلسفة كروتشه المثالية (ج2 ص169). والثانية: تتعلق بمناهضته لكتاب بوخارين (ج2 ص117 م. آ ص122)"فلو كان بوخارين يدري بما يؤذن به عنوانه لوجب عليه أن ينظم" مذهباً منطقياً متماسكاً من المفاهيم الفلسفية "المعروفة باسم المادية التاريخية، ولقادة هذا العمل النقدي بالضرورة إلى إسقاط بعض الأمور نهائياً، لأن بعض المفاهيم المنسوبة إلى "الماركسية" غير صافية أو مستوردة بطريقة غير مشروعه، وغريبة في الواقع عن الماركسية (ج2 ص124 م.آ. ص127). ولو فهم بوخارين معنى نظريته في الماركسية، لوجب عليه أن يعالج عدداً من المسائل، وأن يبين أولاً ما هي الفلسفة، وكيف تُصورَت حتى الآن، وأي جديد تدخله الماركسية على تطورها، ثم ما هي علاقات الفلسفة من جهة ما هي معْرفة بالفلسفة من جهة، ما هي عمل وبوجه أي ما هي علاقات النظر بالفعل. يعرف القارىء هنا ما هي الأسئلة التي حاولنا الإجابة عنها، أو خططنا لذلك في فصيلنا الأولين. أما بوخارين فلم يكن بوسعه أن يفعل هذا لأنه كما يقول غرامشي كان ينقصه كل مفهوم دقيق للفلسفة الماركسية (ج2 ص129، م. آ. ص134)، فلم يفهم أن التطور الماركسي للعالم يجب استخلاصه من الماركسية باعتبارها نظرية في التاريخ والسياسة، وإنها من حيث النظر "منهجية كتابة التاريخ "ومن حيث العمل" منهجية المبادىء التاريخية"، إنه يفهم الماركسية، وهي علم تاريخ على أنها "علم اجتماع" متصور نمط العلوم الطبيعية، وخاضع بالتالي للحتمية التاريخية، ثم يتبنى الميتافيزيقيا المادية العامية القديمة (ج2- ص124- أ. م. ص127) (10).
ثالثاً: المدرسة الثانية التي يتصدى إليها غرامشي ويرفضها بإطلاقية، هي المدرسة الاقتصادية، التي تنقاد في شيء من التحليل المادي والاستنتاج المنطقي، إلى إنتاج فكر ماركسي أحادي، وميتافيزيقيا المادية، حين جعلت من الاقتصاد هو الوجود الوحيد، ما دامت البنى الفوقية في نظرها ليست إلا انعكاساً أو مظهراً لمجموع علاقات الإنتاج الاجتماعية. ولاشك أن الاقتصادية بما تنتجه من ميتافيزيقيا المادية، تقود إلى إنشاء تصور حتمي للتاريخ، بما أن الاقتصاد هو علة السيرورة الاجتماعية حيث أن النزعة الاقتصادية تبحث عن جملة من القوانين الآلية، والحتمية التاريخية، لكي تعلل بها هذه السيرورة عبر تأثيرها على ارادات الناس من الخارج، دون أن تعي بأنه لا يمكن فصل القوى الاجتماعية المنظمة من أجل الانتاج والعلاقات الاجتماعية للانتاج، عن مجموع البنى الفوقية، "التي يشعر الناس معها بموقفهم الذي يعيشون فيه ويبدعونه"، حيث أن إبداعية الناس هذه ليست مفصولة عن وعيهم للبنية الاجتماعية الاقتصادية التاريخية، ولا عن الأهداف التي يتجاوزون عن طريقها هذه البنية التحتية، مثلما لا يمكن فصل الكيفية عن الكمية، والحرية عن الضرورة، والنظرية عن الممارسة، والإنسان عن الطبيعة، والفعل عن المادة، والفكر عن الوجود، والذات عن الموضوع، وحدها ماركسية غرامشي الأصيلة هي التي ترى في مفهوم البنية التحتية، والبنى الفوقية باعتبارهما تشكلان كلية تاريخية وعامة، ترتبطان بمنظومة متكاملة من المفاهيم، التي تشاركها في الماهية، أي بوصفها كلياً، تجريدات نظرية ومقولات تعكس الواقع الموضوعي. ومن هذا المنطلق، فإن مقولة البنية التحتية والبنى الفوقية تنموان معاً، وتتراجعان معاً حسب مقولة الجدل. ويكمن ضلال الاقتصادية في أنها تحل البنية التحتية محل البنية الفوقية، والحتمية التاريخية محل وحدة الضرورة التاريخية مع الارادة السياسية الفاعلة، والاقتصاد محل السياسة، والخاص محل العام، والجزء محل الكل، والبروليتاريا محل كل طبقات المجتمع الأخرى، بل وفكرة المجتمع المدني برمتها، "وغيبت حقيقة أن كل فئة أو طبقة اجتماعية إنما تتحدد بدلالة غيرها من فئات المجتمع وطبقاته وتعكس ملامح المجتمع الذي هو جزء منه، وبذلك كانت تعيد الاستبداد. فمن ليس عنده في فكره، وفي روحه المطلق (الكلي) يحول نسبيّه إلى مطلق، وذلك هو الاستبداد حسب الياس مرقص. وبذلك تتساوى الاقتصادية- الايديولوجية التي حولت الماركسية إلى كاريكاتور، مع الايديولوجية الدينية، لأن الحتمية الاقتصادية، تقود إلى الإيمان بغائية جبريه للتاريخ، مماثلة للغائية الجبرية- الدينية.
إن ماركسية غرامشي النقدية والجذرية تقر بتجاوز التضاد لهذه الثنائية، منطلقة من أن الإنسان هو وحدة الصانع، والعاقل، والفاعل، وهو الذي يجسد وحدة الوعي والوجود، المادة والروح، الذات والموضوع، في إطار وحدة هذا الوجود العيني.
وهو ما قاد فلسفة البراكسيس عند غرامشي إلى إعادة إنشاء تركيب جديد، جوهره منهج الوحدة الجدلية القائم على وحدة الضدين أو مطابقة أحدهما للآخر، دون نسيان التعارض أو التناقض بينهما، ودون الوقوع في خطأ الواحدية على تنوع صورها، سواء كانت مادية وأنطولوجية قبل نقدية، إن كان المرء ينطلق من أولوية المادية، أو أحادية وأنطلولوجية مثالية، إن كان المرء ينطلق من أولوية المثالية.
أما غرامشي فهو يقول بأن فلسفة البراكسيس تكون أحادية. و"هنا يتسائل غرامشي ماذا تعني في هذه الحالة لفظة "أحادية"؟ إنها لا تعني الأحادية ولا المثالية، بل تعني وحدة الضدين الفعل التاريخي المشخص، أي في النشاط الإنساني المشخص (التاريخ- الروح) المرتبط ارتباطاً وثيقاً بـ"مادة" معنية نظمت و(جعلت تاريخية)، وهي الطبيعة التي بدلها الإنسان (ج2 ص44. م.أ. ص69). هكذا يجب أن يكون تركيب التاريخية الماركسية "الإنسان الذي يمشي على ساقيه"(11).
إن الاقتصادية الايديولوجية تقود إلى تقديس عفوية الجماهير، وعدم ادراكها الدور المتميز للارادة السياسية الواعية، والفاعلة، التي تستهدف بناء حزب سياسي ثوري يضع استراتيجية نظرية وسياسية وتنظيمية متطابقة مع مصالح الطبقات الجوهرية الأساسية في المجتمع، تقوم على القيام بالثورة السياسية، والاستيلاء على السلطة السياسية. وإذا كانت الاقتصادية الايديولوجية لا تنكر السياسة إنكاراً مطلقاً، إلا أنها لا ترى فيها أكثر من فيض من البنية الاقتصادية، وخاضعة للعامل الاقتصادي فقط في الأخير. وغرامشي الذي حارب على الدوام النظرة التي ترى في أن أي تغيير سياسي أو إيديولوجي هو تعبير عن البنية الاقتصادية بشدة، وأن الأزمة الاقتصادية ستقود حتماً إلى التحطيم الثوري للرأسمالية، رفض هذه الرؤية الاقتصادية، حين أكد قائلاً: إن الأزمات الاقتصادية بحد ذاتها لا يمكنها أن تنجب مباشرة أحداثاً تاريخية أساسية (أي ثورة). إنها قادرة على أن تخلق شرطاً مناسباً لنشر منهج محدد في التفكير، ووضع حل المسائل التي تحيط بمجمل العملية اللاحقة لتطور الحياة السياسية... إن مسألة الصحة والاعتلال الاقتصادي كسبب الحقائق التاريخية الجديدة مسألة جزئية، من مسائل علاقات القوى بمستوياتها المختلفة".
إن الاقتصادية- الايديولوجية تنطلق من فرضية أن العنصر المباشر للقوة التاريخية، ينتج مباشرة وبصورة آلية عن حتمية البنية الاقتصادية، وبذلك تتجاهل بشكل واعي عنصر المبادرة السياسية للارادة الجمعية القومية الشعبية الضرورية لتحرير البنية الاقتصادية من عوائق التطور، التي تضعها السياسة التقليدية والرجعية للسلطة الحاكمة، كماهي ضرورية لتغيير المجتمع تغييراً ثورياً، الأمر الذي يتطلب بناء الكتلة التاريخية الاقتصادية والسياسية الجديدة والمتجانسة. من هنا تنبع قوة غرامشي في تأكيده على الطابع الارادي للحزب السياسي الثوري، كواسطة لتحقيق تحول في الوعي الجمعي، وإكساب الجماهير ثقافة جمعية، وتحقيق وحدة ايديولوجية وسياسية بين المثقفين والجماهير، وبالتالي الانتقال من الدور الاقتصادي، الذي يقدس عفوية الجماهير إلى الدور السياسي المهيمن للكتلة التاريخية الواعية، والهادفة، نحو تحقيق أهداف سياسية ثورية. وقد رأى غرامشي في انفصال النظرية عن الممارسة الثورية، السبب الجذري لوهن وعجز إمكانيات اليسار الاستراتيجية، ومغزى هذا أن الاشتراكية كانت لا تزال تمر في "طور بدائي نسبياً طور لا يزال اقتصادياً نقابياً، يحول فيه التركيب العام للبنية تحولاً كمياً بحتاً، وما تزال فيه البنية الفوقية الكيفية في طور النشوء، ولم تصبح بعد تشكلاً عضوياً"(12).
رابعاً: إن سمة التجديد في الماركسية عند غرامشي في ممارسته النظرية، التي تتحرك في حقل معرفي يؤكد على أهمية البنى الفوقية، وبالتالي أهمية الجبهة الثقافية، من حيث هي ممارسة علمية لانتاج المعرفة، والوعي المطابق، وتجسيداً لهيمنة، كسيطرة سياسية، وثقافية، وايديولوجية، للطبقة العاملة، وحزبها الثوري، وفي حقل ايديولوجي، من حيث هي ممارسة نقيض للممارسة الاقتصادية- الايديولوجية للماركسية المبتذلة، التي أهملت الطابع الجدلي للكتلة الماركسية، وأخضعت التحليل التاريخي لأولوية العامل الاقتصادي، وحدّدت تحقيق الثورة الاجتماعية بإعطاء جواب انتظاري وارجائي إلى زمن يتطابق فيه قوانين المادية التاريخية مع مراحل تطور البنية الاجتماعية لهذا البلد أو ذاك، حتى يتم التحرك الأفقي للتناقض الرئيس بين البرجوازية والبروليتاريا، أي الصراع الطبقي، لأحداث الثورة وَالإنكسار في البنية الاجتماعية، وتحقيق الانتقال من نظام إنتاج رأسمالي إلى نظام إنتاج اشتراكي. إنه الوهم النظري والعمى الفكري، والاصلاحية في الممارسة السياسية، التي تميزت بها الاقتصادية- الايديولوجية.
وهذا ما جعل غرمشي في مقاله الشهير حول ثورة أكتوبر، الذي يحمل عنوان "الثورة ضد رأس المال" يؤكد على "أولوية الذاتي بالعلاقة مع الموضوعي، وأن التاريخ، ليس في نهاية الأمر، إلا ثمرة الإنسان والإرادة البشرية القوية. ولكن ليس الإرادة المفردة، بل مجموع الارادات، وإذا ما توجهت هذه الارادات بشكل صحيح، فإنها باستطاعتها الارتفاع فوق الظروف. "ويقدر ما يحيي غرامشي في هذا المقال ثورة البلاشفة 1917، لا لأنها تخطت جدلياً وتاريخياً الاقتصادية- الايديولوجية، بواسطة هدمها الثوري للعملية التطورية الاصلاحية، وللجدول الحديدي لمراحل مستويات تطور البنية التاريخية فقط، عبر تشديدها على الطابع الارادي الواعي والجمعي للحزب الثوري، كواسطة لتحقق التحول في الوعي لدى الطبقات المستغلة والمضطهدة، وفي تسييسها، وتعبئتها، وفي تحقيق التلاحم بين الانتلجنسيا الثورية والجماهير، اللذان يشكلان الكتلة التاريخية الثورية، وإنما أيضاً، وهذا هو المهم عبر اعادة طرح غرامشي لبحث العلاقات بين العوامل الذاتية والعوامل الموضوعية في العملية التاريخية، من خلال تأكيده على إعادة الاعتبار للجدل في دراسة الوحدة بين النظرية والممارسة، وعلاقة ذلك بانتقالها من حيز الوجود بالقوة إلى حيز الوجود بالفعل في إطار تجربة قومية محددة، وبنية قومية ثقافية، وسياسية، وايديولوجية محددة، وإلى اعادة صياغة "مسألة العلاقة بين البنية والبنية الفوقية الواجب طرحها وحلها بدقة إن توخى المرء التوصل إلى تحليل صحيح للقوى العاملة في تاريخ فترة محددة وإلى تحديد علاقاتها".
وعلى الرغم من أن كونية نظرة غرامشي، وأمميته لا يرقى إليها أدنى شك، مثلما هي استحالة فصل الكونية عن حركة تميزها، أي حركة تحققها في وجودها القومي الفعلي، إلا أن الممارسة النظرية لغرامشي، تميزت بالشروط التاريخية الاجتماعية المحددة من الواقع القومي الايطالي، ومن الثقافة الايطالية، ومن تميز أشكال الدول الرأسمالية في أوروبا الغربية، انطلاقاً من أن كل ممارسة نظرية لانتاج فكر نظري معرفي وثقافي متميز، لابد أن تتحرك في ارتباطها الصميمي بحركة الصراعات الطبقية في إطارها القومي، وفي حقل معرفي يحددها ويميزها. وهذا ما مكن غرامشي من وعيه الجدلي لخصوصية العلاقة بين الأوضاع القومية والأوضاع العالمية، حين يقول: هناك طريق واحد للاشتراكية يمكن تطبيقه في جميع الحالات: إن وجهة التطور هي تجاه الأممية إلا أن نقطة الانطلاق "قومية"، ومن هذه النقطة يجب البدء".
إنه بقدر ما كان غرامشي يتمثل جدلياً التجربة اللينينية، ويستلهم من دروس الثورة الروسية، إلا أنه كان يعي في ممارسته الفعلية خصوصية الأوضاع القومية المختلفة في الدول الرأسمالية الغربية، وكان يرفض نهج التبعية لهذه المدرسة أو تلك، لهذا الاتجاه أو ذاك، فضلاً عن رفضه أسلوب النقل التكنولوجي، والتطبيق الميكانيكي، لحلول مسبقه مرتبطة بتجربة معينة مختلفة، على واقع قومي فعلي معين، ومختلف. وهذا ما جعل غرامشي يشدّد على تميز الأوضاع القومية منها عن الأوضاع العالمية، كنتيجة لاختلاف الشروط التاريخية والسياسية الموضوعية لعملية الانتقال من الرأسمالية إلى الاشتراكية، وكنتيجة لتفاوت تطور الحركة الثورية ذاتها، باعتبار أن هذا التميز في إطار الرؤية الكونية، هو الذي يحدد في المحصلة النهائية طبيعة كل أزمة ثورية في مرحلة تاريخية معينة، وفي ظل أوضاع قومية معينة، وبالتالي هو الذي يقرر ويملي على الحركة الثورية تحديد استراتيجيتها السياسية، والتنظيمية، والنضالية، الثورية.
يقول غرامشي في هذا الصدد: "إن الواقع مليء بالتركيبات الغريبة ومهمة المنظر هي إيجاد البرهان على نظريته من داخل الفوضى هذه، أي "ترجمة" عناصر الحياة التاريخية إلى لغة نظرية، والواقع ليس هو الذي يعرض نفسه تبعاً لمخطط فكري مجرد. ليس باستطاعته هذا أن يحدث أبداً، وبالتالي يعبر هذا المفهوم عن السلبية". إن كل واقع قومي هو "نتيجة لتركيب (بمعنى معين) أصيل وفريد، ويجب فهم التركيب ضمن سياق هذا الأصالة والخصوصية أن توخى المرء تخطيها، وقيادتها"(13).
خامساً: إن فكر غرامشي النظري الجدلي يريد أن يكون فكراً للسياسة الراديكالية، وهو بذلك يقدم ذاته في معالجته للعلاقة بين مختلف أشكال البنية الفوقية والبنيات الاقتصادية المختلفة، على أنه نقض لكل فكر اقتصادي- ايديولوجي ينكر أي دور فعال تلعبه البنية الفوقية والجبهة الثقافية في آن معاً، ويتجاهل في الوقت عينه اشكالية العامل الذاتي، وبلورة الوعي الطبقي الثوري، لا كعملية فكرية، بل أنه وقبل كل شيء كسيرورة تطور لنضال ثوري يحقق التكامل التدريجي لجميع الممارسات الطبقية التوحيدية والتنظيمية للجماهير، وفي إطار الصراع من أجل الهيمنة، كأمر تفرضه الضرورة التاريخية لتطور العملية الثورية، كي تتحول البروليتاريا إلى طبقة مهيمنة. وفكر غرامشي هذا يرمي إلى املاء شرائعه على السياسة الثورية، من خلال تأكيده على أهمية الفعل السياسي التاريخي في إطار الصراع من أجل الهيمنة، الأمر الذي يتطلب الانتقال من العمليات التحتية إلى مستوى البنية الفوقية، ومن الاقتصاد إلى السياسة والايدلوجية، والتحرر من الاسقاطات الضارة للنزعة الاقتصادية- الايديولوجية الحتمية، المعتقدة مذهبياً وأسطورياً، بأن القوانين الاقتصادية ستقود حتمياً في النهاية نحو النصر، إلى بلورة الوعي الذاتي الثوري الناقد، الذي يعني "تاريخياً وسياسياً، خلق نخبة من المثقفين. فالكتلة البشرية لن "تتميز" ولن تصبح مستقلة "بفعل ذاتها" من دون تنظيم (بالمعنى الشامل)، وليس هناك من تنظيم بلا مثقفين"، وبالتالي إلى بناء حزب سياسي ثوري يلعب دور المثقف الجمعي، باعتباره القارب، الذي يتوسط ويربط بين ضفتي النظرية والممارسة، والذي يقود الطبقة العاملة إلى تحقيق هيمنتها داخل المجتمع المدني، قبل وصولها إلى استلام السلطة في الحقول السياسية، والايديولوجية، والثقافية، والأخلاقية، عبر تطوير فلسفتها وتصورها للعالم، وبلورة برنامجها السياسي الثوري، لكي تلعب دوراً مهماً في التاريخ. و"ينطوي هذا الدور على جانب تنظيمي، وجانب ايديولوجي في آن واحد. والنظرية الماركسية- التي يجهد الحزب لنشرها في أوساط الطبقة العاملة- لا تسلح هذه الطبقة بوعي طريق ووسيلة التحول الاجتماعي فحسب، بل إنها الماركسية- تتحول إلى عقيدة فاعلة تجعل من الشغيلة والبسطاء قادرين على تغيير نظرتهم إلى أنفسهم، وإلى العالم، وعلى النظر إلى أنفسهم كقوة فاعلة محركة للتاريخ، في هذه الحالة فقط، باستطاعة الطبقة العاملة أن تتحول إلى طبقة مهيمنة، وأن توجد حولها جماهير واسعة، وأن تحقق الثورة بنجاح"(14).
إن ماركسية غرامشي الجدلية، تقوم على وحدة المنطقي والتاريخي، وعلى ترابطهما الشمولي والكوني- وهذه الوحدة ليست تراصفاً خارجياً، لا تتفق مع تعريفهما، بل هي نابعة من الترابطات الداخلية لكل من (المنطقي والتاريخي) ومن علاقتهما الجذرية، حيث أنها توحد كيانين مستقلين، ومتعارضين تعارضاً جدلياً، بل إن كلا منهما هو في ذاته هذه الوحدة، والجدل المادي لا يضع المنطقي في تناقض مع التاريخي، بل يدرسهما مرتبطين معاً. فالتاريخي لا يطرد ولا يلغي المنطقي من بنيانه الداخلي، باعتبار أن المنطقي هو وجه من وجوه الترابط الشمولي والكوني في النظرية الماركسية. هذا لا ينفي تمايز المبادىء، وتمايز المستويات، وحدود الموضوعات، التي يشتبك معها كل من المنطقي والتاريخي، مثلما لا تلغي مقولات المنطقي والتاريخي، كونية ترابطهما وتواصلهما، وتبعيتهما المتبادلة. فكلما كانت الماركسية تاريخية، عبر فاعلية الإنسان الواعية، والعارفة، كانت تثبت المنطقي، وتغني المعرفة، والنظرية، والمنهج الجدلي، وتستطيع تحقيق أهدافها فقط، عندما تطبق وفقاً للضرورة التاريخية.
ولما كان المنطقي في النظرية هو العلم الخالص في كل مدى تطوره، وتقدم المعرفة، فإن تاريخانية غرامشي تقبع في ماركسيته الجدلية والجذرية، التي يبين فيها، كيف أن المنطقي والتاريخي يمكنا أن يكونا متماثلين في هوية واحدة، وأن على الإنسان الصانع، والعاقل، والعارف، والواعي والهادف، أن يأخذ المنطقي والتاريخي لا ككيانات متحجرة، بل أن يأخذها ككيانات حية، مكيفة بشروطها، متحركة، ومتغيره، يتحول أحدها إلى الآخر، حسب مقولة الجدل.
إن المنطقي في النظرية الماركسية، يكمن في اكتشاف، وفهم القوانين الموضوعية التاريخية لاسيما قوانين التطور الاقتصادي والاجتماعي في تشكيلة اقتصادية اجتماعية معينة، وفي تقديم التحليل العلمي للرأسمالية، ولنظام الانتاج الرأسمالي. والمنطقي هو التعبير النظري عن العملية التاريخية وقوانينها الموضوعية الهامة، وهو متجرد عن الذات، ومتحرر من الأعراض، والتقاليد الوراثية، والخصائص القومية، إن من أهداف المنطقي، هو تحليل المقولات الانطولوجية، ضمن سياق المعرفة المتطورة تاريخياً، التي تكشف عن مضمونها الموضوعي، وتشكل في الوقت عينه أساساً للتطور اللاحق لأحكام الواقع المقولتية، حول التناقض بين الرأسمالية والاشتراكية، وحتمية انهيار الرأسمالية، وظهور الاشتراكية كنتيجة مقنونة لتطور المجتمع الرأسمالي، والأهمية التاريخية العالمية لدور البروليتاريا كحفار قبر الرأسمالية، وتناقض القوى المنتجة مع علاقات الانتاج، الذي يقود إلى اندلاع الثورة، وبالتالي الانتقال من تشكيلة اقتصادية اجتماعية معينة إلى تشكيلة اقتصادية جديدة، حتى يتم فيها تطابق بين القوى المنتجة والعلاقات الانتاجية، وحتمية تعاقب التشكيلات الاقتصادية- الاجتماعية، ضمن إطار نظرية تمرحل تاريخ المجتمعات المعينة، التي يعقب أحدها الآخر، حيث يمثل كل منها مرحلة معينة خاصة في التطور التقدمي للمجتمع.
إذن المنطقي يعكس المفهوم العام، والمنطق الموضوعي التاريخي في التطور، لهذه التشكيلة الاقتصادية الاجتماعية، أو تلك، وفي سماته العامة الأساسية.
بيد أن التاريخي لا يتضمن معرفة قوانين التطور الاجتماعي فقط، بل إنه يتضمن رؤية الضرورة التاريخية للعملية الثورية، من أجل تحقيق التحولات الاجتماعية الراديكالية، طبقاً للظروف التاريخية الواقعية العينية المشخصة لنشاط ونضال الجماهير. فالتاريخي ينطلق من أن الجماهير الشعبية هي صانعة التاريخ، وهي التي تؤلف مفهوماً تاريخياً محسوساً عن الثورة، التي تدفع بالتاريخ إلى الأمام. والتاريخي ينطلق من ضرورة انضاج العامل الذاتي متمثلاً بالحزب الثوري، باعتباره المثقف الجمعي، وبانضاج الوعي الطبقي الثوري، وبفهم التنوعات والسمات الخاصة، التي تطبع كل واقع قومي معين، في سبيل تحقيق المقاربة بين نضوج الثورة في مستواها الموضوعي مع مستواها الذاتي. لأنه من غير التاريخي، أن تقود كل مسألة ثورية إلى اندلاع ثورة، إذا كان العامل الذاتي غائباً، أو ليس فاعلاً سياسياً وتاريخياً، لأن الثورة عملية معقدة تخضع لتأثير متبادل بين العامل الذاتي والعوامل الموضوعية، وإلى تعرجات وأحداث لا حصر لها، وإلى فهم مشخص للأشكال القومية، التي تظهر وتنتج فيها، وإلى العلاقة بين العملية القانونية العامة لنظرية الثورة، والخاص، التي تكونت فيه اللحظة الثورية المعنية (أي من المستوى التاريخي). مثلما أن الثورة لا يمكن اشتقاقها منطقياً من الحتمية الاقتصادية الايديولوجية، الجبرية، ولا من المستوى المنطقي التجريدي فقط، "وهكذا نجد أن غرامشي قد تناول النظرية الماركسية في مستوها التاريخي وإلى هذا المستوى تنتمي تلك المفاهيم الغرامشية كمفاهيم الهيمنة، القوة، الاتفاق، حرب المواقع، حرب المناورات... وما شابه ذلك. وهذا ما يفسر حركة الانتقال من العمليات التحتية إلى العمليات الفوقية، التي يقدمها كثيراً من الباحثين عند غرامشي (فمن الخطأ في المستوى التاريخي أن نتجرد من العامل الذاتي). وفي محاولة فهم هذه المسألة يقع كثير من الباحثين في الاجتهادات الخاطئة لفكر غرامشي. لنأخذ مثلاً أطروحة غرامشي التي تقول بإمكاننا أن نقود صراعاً. ولكن من الخطأ أن نتوقع نتائجه، يقود قول كهذا إلى استنتاج، إن غرامشي قد دحض توقع الاشتراكية كنتيجة ضرورية للتطور التاريخي، وإنه قد اعترف بها كامكانية فقط، ولكن استناداً إلى ما قلناه سابقاً فيجب أن يكون واضحاً أن للمسألة هنا مستويين المستوى التاريخي والمستوى المنطقي"(15).
مصادر الفصل الأول
(1)- مهدي عامل- مقدمات نظرية لدراسة أثر الفكر الاشتراكي في حركة التحرر الوطني- دار الفارابي- الطبعة الخامسة 1986- (ص173).
(2)- أنطونيو بوزوليني- غرامشي- ترجمة سمير كرم- المؤسسة العربية للدراسات والنشر الطبعة الأولى- كانون الأول (ديسمبر 1977) (ص81- 82).
(3)- لينين- مجموعة المؤلفات الكاملة ج. 3 (ص71).
(4)- جون كاميت- غرامشي حياته وأعماله- ترجمة عفيف الرزاز، مؤسسة الأبحاث العربية- الطبعة الأولى 1984 (ص253).
(5)- فيصل دراج- مقال غرامشي والبحث عن سؤال الثقافة نشر في مجلة النهج العدد 19- العام 1988- (ص121- 122).
(6)- جاك تكسيه- غرامشي، دراسة ومختارات. ترجمة ميخائيل ابراهيم مخول مراجعة د/ جميل صليبا- منشورات وزارة الثقافة- دمشق 1972 (ص94- 95).
(7)-
Eugene Genovese 2"In studies on the left" VOL7, No 2, 1967 (P 8377).
(8)- جون كاميت- مصدر سابق (ص253).
(9)- جاك تكسيه- مصدر سابق (ص250).
(10)- المصدر السابق (ص58).
(11)- المصدر السابق (ص133- 134).
(12)- أنطونيو غرامشي- الأمير الحديث- ترجمة زاهي شرفان، قيس الشامي، دار الطليعة، الطبعة الأولى- نيسان (ابريل) 1970، (ص150).
(13)- المصدر السابق، (ص147).
(14)- م.ن. غريتسكي: غرامشي والعصر الراهن، ترجمة الدكتور أحمد برقاوي، مقال نشر بمجلة النهج، رقم 19، العام 1988- (ص181).
(15)- المصدر السابق- (ص185).