|
عبث ما بعد الحرب ... قراءة في رواية بلا دماء
محمد سمير عبد السلام
الحوار المتمدن-العدد: 1976 - 2007 / 7 / 14 - 05:16
المحور:
الادب والفن
فى روايته " بلا دماء " ترجمة د. /أماني فوزي حبشي ، ميريت 2004 ينطلق الوعي المبدع للكاتب الإيطالي " أليساندرو باريكو " من قراءة تحريفية خلاقة لتراث الجحيم الشعري ، فى مواجهة الواقع ، وصيرورة الشخوص فيه ، إذ يعيد النظر فى آثار الحروب السياسية الأخيرة ، وفق موضوع مجازى ، أو " نصى " بالأساس ، وهو " الجحيم " بوصفه كوناً للقتل وشلالات الدماء والألم الذى لا يحتمل ، ليؤكد أنه يتمدد عبر صور وأصوات القتلى داخل الذات وخارجها ، فى انعكاسات مرآوية لا متناهية ، من الأصل التصويري الغائب ، يحدث هذا التمدد فى نطاق دائرة عبثية مشتعلة ، بنيران كائنات " رامبو " المتخيلة وغيرها ، فى داخل الشخوص الروائية ، وحواراتهم المسرحية / السردية فأحد أبطال " فصل فى الجحيم " عند " " رامبو " يريد أن يعوى فى الطرقات وأن يرى ثروته ملطخة بالدماء ، ثم ينصرف إلى الهلوسة فيعانق الغيلان والخيول والملائكة ( راجع / فصل فى الجحيم / آرثر رامبو / ت / رمسيس يونان ، دار التنوير ، بيروت 1998 ) إنه إيحاء بالدخول إلى الجحيم وازدواج الممارسة بصوره الكثيفة ولكن هذه الصور والهذيانات ، سوف تأتى من مكان بعيد وداخلي في " ساليناس " كأنما ترده على حلقة نارية أصيلة ، ومستمرة ، بل مقطوعة عن سياقها التاريخي في الرواية . فحدث انتقام " ساليناس " لأخيه من الدكتور " روكا " الذى تخفى مع الأطباء فى زى السجانين وترك المرضى والجرحى فى جحيمهم ، ينفصل كلياً عن دوائر الحرب وأسبابها ونتائجها ، إنه استعادة إحلالية للجحيم فى الواقع بين ذاته والموضوع الخارجى ، وهو الدكتور " روكا " فيشكلان معاً قوس دائرة النار المجازية المستعصية على أى تأويل تاريخي ، وبهذا الصدد يرى " باشلار " أن النار تقع ضمن عناصر الصور ، الأكثر جدلاً ، لأنها تكون ذاتاً وموضوعاً فى آن وقد تذكر أو تؤنث فى الوعي المبدع أما النار الذاتية ، فيكفى أن تشتعل حتى تكدس جمعاً من المتناقضات ، ولذلك فعقد النار شاعرية وعصابية وانقلابية أيضاً ( راجع / باشلار / التحليل النفسى للنار / ت / د/ زينب الخضيرى / شرقيات 2003 ) . هكذا تنبع دائرة التفجر من الراوي / الراصد فى الرواية ، حين تطهره النار برؤية اشتعال الشخوص " ساليناس " و " روكا " و " نيتا " و " آل جوري " وغيرهم ، فى كون من الجحيم ، كأنه المخروط ، انطلاقاً من إحلال عبثي لمفردات هذا الكون محل الأيديولوجيات والدوافع الأرضية للحروب ، فقد تحول " ساليناس " / المنتقم من وجه الفأر وكرهه لحمل الأسلحة ، إلى لاعب ، ثم أحد شياطين الجحيم انطلاقاً من التجسد الموضوعي الصلب لذلك الصوت المتألم ، المقطوع عن صوت أخيه الأصلي في ذاكرته ووعيه ، حتى تمحو النار تاريخه وصوته الخاص وتستبدله بصوت ناء متألم ، ومشتعل يسعى على محو الآخر وتوليد " الصوت نفسه " بداخله ، إمعاناً فى الانتقام والتطهير والمساواة فى ذلك الكون الجديد . يرتد ( روكا ) / الطبيب – إذا – بالتداعي إلى ذاكرته الجمعية المتوحشة التى هرب منها فى زى " سجان " بينما تلاحقه أصوات المرضى فيصرخ مع ساليناس ، بصوت مشابه حينما يفجر الأخير ركبته وتتطاير الدماء . أما الرفيق الأقوى لساليناس وهو " آل جورى " فيعيد تمثيل أو مسرحة قتل زوجته وابنتيه فى جسد ابن ( روكا ) ، فزوجته كانت مشنوقة ومدلاة ، أما انتباه فتلطخت أفخاذهما بالدماء . تستلب هذه الصورة تاريخه وتدفعه إلى وعى ساخر ببرودة القتل العبثية عقب هذه المشاهدة المتكررة للصور ، فينطلق النار ساخراً على ابن ( روكا ) ويمزقه حتى تبرز من المشهد ، عظام الأسنان ، فهى تستعيد ذكرى رأسي ابنتيه المحلوقين وسط الدماء والرماد ، هكذا تنعكس مرآة الجحيم من ذاكرة ( آل جورى ) إلى ( جسد الابن ) بتأثير سحري مراوغ لدائرة النيران ، ذلك التأثير يوحى أيضاً بدلالة التفتيت الضاحك للذات ، إذ يمحو موضوع الدم والعظام هويتها ، فى اتجاه رغبة لا واعية فى التطهير والسقوط المستمر فى الدائرة ذاتها . أما ( نيتا ) أبنة ( روكا ) فتبلور مفهوماً أنثوياً تأملياً للدائرة الأرضية الوجودية ، فقد خبأها الأب فى حفرة مماثلة لطولها فى أحد المخازن ، وكانت تغنى وتعد النجوم حتى يمر الوقت ، ثم أحبت وجودها على شاكلة القوقعة وكأنها صدفة وحيوان فى وقت واحد . إن القوس الأرضى الحامي هنا يطلق لخيالها الحرية فى معانقة وتوليد " الإيروس " / الحب والحياة وإن أتى ذلك من داخل الجحيم . من هنا تستحيل نيرانه إلى اكتساب أنوثة تقاوم تناقضات الاحتراق ، والتهديد بانتهاء كائنات الجحيم المجازية ، ذلك لأن الإيروس يستطيع الاحتفاظ بذاكرة الجحيم واستعادتها . هكذا ينبني الجزء الثاني من الرواية من خلال استجماع الذاكرة والتاريخ بصورة سردية إكمالية ، فتبدأ نينا بالتعرف على الطفل الذى صاحب ساليناس ورفيقة ، فى حادث القتل ، وقد شاخ لينحرف بتوقعاتها وصورتها المشوهة في ذاتها ، إلى صورة جديدة ، وذاكرة أخرى تستبدل تلك التى قاربت البهوت ، فيذكر أنها كانت ضمن لعبة ورهان بين الصيدلي الذي حماها والكونت الذى راهن ليقتلها ، لأنه يعرف من تكون ، وأولادها الذين أقروا بجنونها ثم ذكرها بصمتها الدائم،فهل هو(صمت) لعودة كائنات الجحيم الأبدية ، وقد أتت للانتقام ؟ أم أنه حدث متولد عن لذة التأمل فى الجحيم ، بوصفه حياة ، يتجسد فيها التطهير واستعادة لحظة الإنقاذ ، والمساواة ؟ إن الاحتفاظ بدوائر الجحيم المؤلمة يشترط بقاء الوعي المدرك ، ذلك الذى ولد فى ( نينا ) وخلقه السارد والطفل الكبير " تيتو " ، لإحداث لذة الكشف ، وانبثاق جنة موعودة فى المتخيل . يمكن استدعاؤها دوماً من خلال الصمت أو عناق الجسدين ، بلا دماء ، وبلا عودة للقبض على الحياة السابقة للجحيم ، ولكنها استعادة مؤجلة للاحتراق الفوري ، وإن كان مضمونه ملحاً فى الوعي واللاوعى وأحلام الجسد أيضاً . محمد سمير عبد السلام-مصر
#محمد_سمير_عبد_السلام (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
طيف الأنوثة المستعادة .. قراءة في هيكل الزهر ل فاطمة ناعوت
-
دالي .. حلم النص و أسطورة الفوتوغرافيا
-
جماليات الاختفاء عند مكسويل كوتزي
-
لذة الكشف في رواية نوافذ النوافذ ل..جمال الغيطاني
-
الحكي كإبداع للوعي .. قراءة في ما لا نراه ل محمد جبريل
-
معرفة كونفوشيوس
-
توهج النهايات عند صمويل بيكيت
-
المحظور و التمثيلي و العوالم الافتراضية .. عن الأنوثة في قصص
...
-
العمل ، و إبداع العالم
-
الغياب في فضاء المحاكاة .. قراءة في فكر جان بودريار
-
العبث ، و أحلام التجدد
-
أحلام الأم المقدسة عند نوال السعداوي
-
الأسئلة الارتدادية للفن
-
القصيدة التفاعلية ، أو الامتداد الكوني للقصيدة - قراءة في لو
...
-
صخور السماء .. أنشودة الجسد
-
الأنا و تمثيل الآخر / الثقافي
-
نشوة التجزؤ .. قراءة في حالات الروح
-
كتابة أورهان باموك .. و خروج الهامشي من هامشيته
-
أولية التحول في الفوتوغرافيا و الشعر ... قراءة في شجن ل .. ع
...
-
جماليات الغياب .. قراءة في رشحات الحمراء ل .. جمال الغيطاني
المزيد.....
-
وفاة الأديب الجنوب أفريقي بريتنباخ المناهض لنظام الفصل العنص
...
-
شاهد إضاءة شجرة عيد الميلاد العملاقة في لشبونة ومليونا مصباح
...
-
فيينا تضيف معرض مشترك للفنانين سعدون والعزاوي
-
قدّم -دقوا على الخشب- وعمل مع سيد مكاوي.. رحيل الفنان السوري
...
-
افتُتح بـ-شظية-.. ليبيا تنظم أول دورة لمهرجان الفيلم الأوروب
...
-
تونس.. التراث العثماني تاريخ مشترك في المغرب العربي
-
حبس المخرج عمر زهران احتياطيا بتهمة سرقة مجوهرات زوجة خالد ي
...
-
تيك توك تعقد ورشة عمل في العراق لتعزيز الوعي الرقمي والثقافة
...
-
تونس: أيام قرطاج المسرحية تفتتح دورتها الـ25 تحت شعار -المسر
...
-
سوريا.. رحيل المطرب عصمت رشيد عن عمر ناهز 76 عاما
المزيد.....
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
المزيد.....
|