|
دراسات سودانية (5)الفرد والجماعة في التفكير الفلسفي
محمود محمد طه
الحوار المتمدن-العدد: 1973 - 2007 / 7 / 11 - 10:53
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
أما الفلسفة الاجتماعية ، عبر العصور والى أن انتهت بالشيوعية المعاصرة ، فإنها قد فشلت في إدراك العلاقة بين الفرد والجماعة ، فهي قد ظنت أن الفرد إذا وجد الفرصة لممارسة حريته فان نشاطه سيكون ضد مصلحة الجماعة ، ولما كانت الجماعة أكثر من الفرد ، فان مصلحتها أولى بالرعاية من مصلحته ، ومن ثم أهدرت حرية الفرد ، في سبيل مصلحة الجماعة ، متى ظهر أنهما تتعارضان . ومتى نظرت إلى تاريخ المجتمع البشري ، منذ نشأته وإلى يوم الناس هذا ، ظهر لك جليا أن حرية الفرد كثيرا ما تتعارض مع مصلحة الجماعة ، بل ظهر لك أن الجماعة لم يقم نظامها ولم تصن مصالحها إلا على حساب تقييد حرية الفرد ، ذلك بأن الفرد البشري ارتفع من حيوانية متوحشة ، لا هم لها غير تحصيل شهوة البطن والفرج ، ولما كان المجتمع البشري في أولياته لم يكن لينشأ إلا إذا قيدت هاتان الشهوتان ، فقد قام العرف الذي ينظم العلاقات الجنسية ، فيحرم الأخت على الأخ ، ويحرم البنت على الأب ، ويحرم الأم على الإبن ، ويحرم زوجة الإبن على الأب ، ويحرم زوجة الأب على الإبن ، قبل أن يقوم العرف الذي يحرم الزنا عموما ، وقد أعان هذا العرف ، أو سمه القانون الأول ، على تهدئة الغيرة الجنسية التي كانت تفرق الأسرة البشرية ، كلما بلغ الأبناء فيها مبلغ الرجال ، فقد أصبح ، بعد هذا العرف ، من الممكن أن يتعايش ، في منزل واحد ، أو في منازل متجاورة ، الأب والإبن البالغ والصهر والإبن المتزوج ، وكل منهم آمن على زوجته من الآخرين . ولربما يكون العرف الذي ينظم احترام الملكية الفردية قد نشأ مع هذا العرف من الوهلة الأولى ، فانه ، في المجتمعات البدائية ، ليس هناك كبير فرق بين ملكية الزوجة ، وملكية الآلة أو الكهف ، وإذا كان لا بد للمجتمعات الصغيـرة أن تعيش في وئام ، وفي مكان واحد ، وفي أعداد تتزايد دائما ، تصيد معا ، وتحارب أعداءها معا ، وتقابل صروف الأيام متحدة ، فإنه لا بد من التواضع على هذين العرفين ، اللذين ينظمان السلوك في الجماعة ، ويصونان كيانها ، ولا بد أن عقوبة القتل كانت تنفذ في الفرد لدى ثبوت تهمة الزنا ، في هذه الدوائر ، عليه ، يستوي في ذلك الرجال والنساء . ولقد كانت عقوبة القتل توقع على الفرد أيضا لدى السرقة من عشيرته الأقربين ، ثم عممت فأصبحت تطبق لدى السرقة من حيث هي ، وذلك عندما اتسعت الجماعة ، ثم خففـت ، فأصبحت تستأصل طرفا من السارق بدلا من استئصال حياته كلها ، ذلك بأن الأفراد قد بلغوا من الرفعة والذكاء بحيث يرتدعون بعنف أخف من العنف الذي كان ضروريا لردع أسلافهم . وليس معنى هذا الحديث أن المجتمعات كلها نشأت بصورة واحدة في كل مكان ، ولكنه مما لا شك فيه أن المجتمعات البشرية حيث نشأت فقد نشأت حول طائفة من العادات والأعراف ، التي تمثل نشأة القانون ، والتي يرجع إليها الفضل في نشأة المجتمع البشري . ولما كان الفـرد البشري الأول غليظ الطبع ، قاسي القلب ، بليد الحس ، حيواني النزعة فقد احتاج إلى عنف عنيف لترويضه ، ولنقله من الاستيحاش إلى الاستيناس ، وكذلك كان العرف الاجتماعي الأول ، شديدا عنيفا ، يفرض الموت عقوبة على أيسر المخالفات ، بل انه يفرض على الأفراد الصالحين أن يضعوا حياتهم دائما في خدمة مجتمعهم ، فقد كانت الضحية البشرية معروفة تذبح على مذابح معابد الجماعة ، استجلابا لرضا الآلهة ، أو دفعا لغضبها حين يظن بها الغضب ، ولقد كانت هذه الشريعة العنيفة ، في دحض حرية الفرد ، في سبيل مصلحة الجماعة معروفة ومعمولا بها ، إلى وقت قريب ، ففي زمن أبي الأنبياء ، إبراهيم الخليل وهو قد عاش قبل ميلاد المسيح بحوالي ألفي سنة ، كانت هذه الشريعة لا تزال مقبولة دينا وعقلا ، فإنه هو نفسه قد أمر بذبح ابنه إسماعيل ، فأقبل على تنفيذ الأمر غير هياب ولا متردد، فتأذن الله يومئذ بنسخها فنسخت ، وفدي البشر بحيوانية أغلظ من حيوانيته ، وكان هذا إعلاما بأن ارتفاع البشر درجة فوق درجة الحيوان قد أشرف على غايته ، ولقد قص الله علينا من أمر إبراهيم وإسماعيل فقال (( وقال إني ذاهب إلى ربي سيهديني * رب هب لي من الصالحين * فبشرناه بغلام حليم * فلما بلغ معه السعي قال يا بني إني أرى في المنام أنى أذبحك، فانظر ماذا ترى ، قال يا أبتي افعل ما تؤمر ، ستجدني إن شاء الله من الصابرين * فلما أسلما وتله للجبين * وناديناه أن يا إبراهيم* قد صدقت الرؤيا إنا كذلك نجزي المحسنين * إن هذا لهو البلاء المبين * وفديناه بذبح عظيم * وتركنا عليه في الآخرين * سلام على إبراهيم . )) (( وتركنا عليه في الآخرين )) تعني ، فيما تعني ، إبطال شريعة العنف بالفرد البشري ، لأنها لبثت حقبا سحيقة ، وقد تم انتفاعه بها ، فارتفـع من وهـدة الحيوانية وأصبـح خليقا أن يفـدى بما هـو دونـه من بهـيمة الأنعام . ولا عبرة ببعض صور العنف التي لا يزال يتعرض لها الأفـراد في المجتمعات البشرية المعاصرة ، فإنها آيلة إلى الزوال كلما أتيحت لها فرص الوعي والرشد . فان التضحية الحسية بالفرد البشري لم تنته بجرة قلم على عهد إبراهيم الخليل ، والتاريخ يخبرنا أن المسلمين ، لدى فتح مصر ، قد وجدوها تمارس في صورة عروس النيل ، فإنه قد قيل أن عمرو بن العاص ، فاتـح مصر وأميرها يومئذ ، قد انتبه ذات يوم على جلبة عظيمة ، فسأل عنها ، فأخبر أن القـوم قد جرى عرفهم بأن يتخيروا بنتا، من أجمل الفتيات ، ومن أعرق الأسر ، يزفونها كل عام إلى النيل ، يلقـونها في أحضانه فداء لقـومها من القحـط ، لأنها تغـري النيل بأن يفيـض عليهـم باليمن والبـركات ، فطـلب إليهـم عمرو بن العاص أن يستأنـوا بهـا ، حتى يستأمر عمـر بن الخطاب في ذلك ، فكتب إلى عمـر ، فـرد عمـر بجوابه المشهـور الذي قال فيه:
(( بسم الله الرحمن الرحيم )) من عبد الله عمر بن الخطاب ، أمير المؤمنين ، إلى نيل مصر . السلام عليك ورحمة الله تعالى وبركاته . أما بعد ، فإن كنت تفيض من عندك فلا تفض ، وان كنت إنما تفيض من عند الله ففض .
وأمر عمرو بن العاص أن يلقيه في النيل ، ففعل ، وفاض النيل ، وأبطلت من يومئذ تلك العادة ، وتم بالعلم فداء جديد للفرد البشري . وهذا العنف العنيف بالفرد البشري ، الذي استمر منذ فجر المجتمع البشري ، وهو قبل فجر التاريخ بآماد سحيقة ، وظلت صوره إلى وقت قريب ، كالذي سقنا عليه المثالين الماضيين ، ضلل المفكرين الاجتماعيين ، فظنوا أن حرية الفرد ، قياسا إلى ما جرى به التاريخ ، تتعارض دائما مع مصلحة الجماعة ، وان الرشد إذن في أن يضحى بحرية الفرد في سبيل مصلحة الجماعة . وتورطت في هذا الوهـم الشيوعية ، وهي طليعـة الفلسفة الاجتماعية المعاصرة ، وصاحبة الـدور التقـدمي الذكي في المدنية الغربية الآلية الحاضرة .
#محمود_محمد_طه (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
دراسات سودانية:(3)توطئة البحث
-
دراسات سودانية(2):السنة والشريعة
-
دراسات سودانية:الرسالة الثانية من الاسلام(1)أ
-
المراة في المجتمع العربي القديم والحديث
-
ملامح من الفكر السوداني المعاصر:(7-7)خاتمة تطوير شريعة الاحو
...
-
ملامح من الفكر السوداني المعاصر(7-7) ا لزواج في الحقيقة والز
...
المزيد.....
-
السعودية.. الداخلية تعلن القبض على 4 مواطنين و3 من إثيوبيا و
...
-
سوريا وسقوط الدومينو.. نحو إسرائيل الكبرى؟
-
بعد وساطة تركية مع مصر.. عبد العاطي يعتزم زيارة دمشق ولقاء ا
...
-
فيتسو: وقف الغاز الروسي عن أوروبا سيكلفها 120 مليار يورو
-
القوات الروسية تتقدم غرب دونيتسك
-
الحكومة الأذرية تقول إن -تدخلاً خارجياً- وراء تحطم طائرتها،
...
-
محافظ دمشق: هناك أناس يريدون التعايش والسلام ومشكلتنا ليست م
...
-
هآرتس: حماس تستعيد قوتها بسرعة وعمليات الجيش الإسرائيلي في غ
...
-
الآلاف في بودابست يحصلون على وجبات العيد من محبي هاري كريشنا
...
-
فيفا: منتخب مصر بقيادة -العميد- على أعتاب إنجاز تاريخي
المزيد.....
-
تداولية المسؤولية الأخلاقية
/ زهير الخويلدي
-
كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج
/ زهير الخويلدي
-
معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية
/ زهير الخويلدي
-
الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا
...
/ قاسم المحبشي
-
الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا
...
/ غازي الصوراني
-
حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس
/ محمد الهلالي
-
حقوق الإنسان من منظور نقدي
/ محمد الهلالي وخديجة رياضي
-
فلسفات تسائل حياتنا
/ محمد الهلالي
-
المُعاناة، المَعنى، العِناية/ مقالة ضد تبرير الشر
/ ياسين الحاج صالح
-
الحلم جنين الواقع -الجزء التاسع
/ كريمة سلام
المزيد.....
|