|
حديث الكمأة الرواية النّص
قيس الزبيدي
الحوار المتمدن-العدد: 1972 - 2007 / 7 / 10 - 05:19
المحور:
الادب والفن
دراسة في رواية " حديث الكمأة " للروائي العراقي صبري هاشم على كل روائي- في كل رواية- أن يخترع شكله الخاص. ألان روب غرييه
أمامنا رواية تضع نفسها في مواجهة العرف الأدبي. والرواية تجريبية تتألف من 94 صفحة وعدد كلماتها، وفقا لحساب آلي: 835. 16 كلمة، وتتوزع أجزاؤها في 6 وحدات سردية متباينة الأحجام: 1. مدخل ( في صفحة واحدة) 2. ذاكرة ( في صفحتين) 3. فصل النهاية (1) (في صفحتين) 4. فصل البداية (2) (في أربع صفحات) 5. فصل النهاية (2) (في صفحتين) 6. فصل البداية (1) ( في 85 صفحة)
ويعنينا في تحديد أحجام الوحدات السردية، أن نضع أمام القارئ، أولا، مدى سعة المادة الأدبية، التي يريد الدخول إلى عالمها السردي، لكي يمنح نفسه فرصة الإقتراب من طبيعة حكاية شعرية، ولنبين، ثانيا، أن الوحدات الخمس المتعددة، هي بمثابة استهلال ينتج من عدم التطابق بين زمن أحداث معينة من الحكاية وبين زمن سرد أحداثها ، أي من التفاوت بين زمن تتابع بعض أحداث الحكاية الأصلية، وزمن تتابعها في السرد. أما الوحدة السردية السادسة، أي فصل البداية، فيقوم على تطابق زمن ترتيب أحداثها وبين زمن سردها. لا شك أن قواعد الكتابة الأدبية يرتبط بطبيعة جنسها الأدبي، الذي يتميز على قياس النماذج، التي تظهر في تاريخ التطور الأدبي، فلكي يستطيع العمل الأدبي أن يحتل مكانه الشرعي، يبدو، للوهلة الأولى، أن يمتثل إلى نوع من أنواع الجنس المألوفة، حيث يصبح في كل عصر عدد معين من الأنماط الأدبية معروفا لدى قراء، يلجأون إلى اعتماد مفاتيح لتأويلها، بحيث يتطابق أفق توقعاتهم مع نموذج كتابتها.
أمامنا رواية تبدو كتجربة مختلفة، تطرح على الناقد أولا و القارئ ثانيا شرعية وسؤال انتمائها إلى جنس الرواية الأدبي، رواية يرجع انتماؤها، كنص، إلي شكل من أشكال الشعر الحر، غير أن وسيلتها السردية تهدف الانتماء إلى النص الروائي.
ما هو الجنس الأدبي؟ كيف يمكن لنوع أدبي أن يتميز عن نوع آخر وكيف تتطور النصوص؟ وهل يمكن تمييز التقاليد الشكلية للنوع الخالص؟ وكيف يصبح النوع غير المعروف معروفا؟ وهل مقولة نقاء الأنواع واقعية؟ وما هي الفائدة من أغراض النوع؟ وما هي الدوافع الأدبية والتاريخية التي قادت إلى هذه التغييرات؟ أسئلة كثيرة، ولعل كل هذه الأسئلة لعبت وما تزال تلعب دورا في تقنين الكتابة ووضع العقد الأدبي أمام الكاتب ليختمه ببنان إصبعه، وليكون مثل هذا الختم ضمانة للناشر وللقارئ وللناقد الأدبي، فعلى الكتاب ألا يخيب توقعات السوق المشروطة، ومع أن البضاعة تنتج مفردة ومنفردة، إلا أنها يجب أيضا أن تخضع بدورها لطبيعة الإنتاج النمطي. أن مقولة الجنس الأدبي احتلت، في الحديث عن الأدب، مهما اختلفت المداخل وتباينت النظريات، مكانة محورية في كل دراسة أدبية، بحيث يبدو التفكير في أية نظرية أدبية، بشكل ما، هو تفكير في قضية الأجناس الأدبية. ومع أن مصطلح الجنس genre مصطلح حديث نسبيا في الخطاب النقدي، إلا أن المصطلحات التي استخدمت في التعبير عن معناه قبل القرن الثامن عشر هي مختلفة عن المصطلح الحديث، فأصله من الكلمة اللاتينية genus، والتي كانت تدل في العصر الإغريقي على تلك القصائد المنظومة في بحر معين، مثل شعر الرثاء أو الهجاء، وهي للمتتبع تشير إلى kind أو sort أو specie التي تعد في بعض الأحوال فرعا من genus و gignere بمعنى ينجب أو يولد، كما أن استخداما مبكرا للمصطلح كان يعني التقسيم أو التصنيف. ويعرف التهانوي الجنس بأنه الضرب من كل شئ. وهو اعم من النوع، يقال الحيوان جنس، والإنسان نوع.(1)
والنوع، وهو ما يندرج ضمن الجنس، يعرفه النقاد، بأنه تلك المجموعة من الأعمال، التي يتم اختيارها ويجمع بينها سمات مشتركة، ونقرا في معجم المصطلحات الأدبية: "جينر GENRE الكلمة اصلها فرنسي وهي مرادفة للنوع أو الصنف. والجنس(النوع) الأدبي هو صنف أو فئة من الإنتاج الفني له شكل معين وتقنيات ومواصفات محددة. وهناك اتجاهات حديثة ترفض نقاء النوع الأدبي وتمزج بين الأنواع كما أن هناك اتجاهات ترفض فكرة النوع وتدعو إلى نصوص لا نوعية".(2) أما تودوروف فيجد أن الجنس الأدبي اعتبر، ابتداء من عصر النهضة، قاعدة محددة لا يمكن ولا ينبغي خرقها، لكننا نجد من وجهة نظر تاريخية التنوع المتتالي لقواعد الجنس الأدبي، فالأجناس الأدبية تقبل التنوع والتواجد.(3)
لقد كان نقاء النوع يرتبط بالنظرية الكلاسيكية، التي آمنت بفصل الأنواع ولم تسمح بامتزاجها، أما نظرية الأنواع الحديثة، فهي، بالدرجة الأولى، وصفية لا تحدد عدد الأنواع الممكنة، ولا توصي بقواعد صارمة، وتفترض إمكانية مزج الأنواع التقليدية وإنتاج نوع جديد كمثال: المأساة – الملهاة: التراجيكوميديا.
تنقسم الأجناس إلى أنواع، تولد ثم تتحول وتضمحل أو تستمر. أليست المسالة ببساطة أن كل قديم كان في زمانه جديدا، خصوصا وان "دراسة النوع تلفت الانتباه إلى التطور الداخلي للأدب، وإلى ما سمي "علم التناسل الأدبي". (قارن:4) كان باختين يؤكد انه ما من أحد يستطيع أن يميز تعريفا واحدا، أو سمة واحدة مستقرة للرواية، دون أن يضيف مراجعة ما، تنفي السمة تماما كسمة نوعية. وهو يجد أن الرواية نوع غير منته، وقدرها أن تظل هكذا إلى الأبد، فالرواية بالنسبة له لا تكون إنما هي تصير، لأنها تعبر عن الصيرورة ولأنها تتغير وتتطور باستمرار، ولكن ليس في اتجاه محدد أو مرسوم سلفا، لان الرواية في جوهرها، على عكس الأنظمة الأدبية الأخرى، لا تتألف من قوانين وبالتالي هي ضد ما هو مقنن.(قارن: 4)
وحينما تعود جوليا كريستيفا بدورها إلى باختين، نجدها تبين، كيف يجد في الرواية، منذ بدايتها الأولى، بذور الرواية الضد، التي إذ تتشكل في تعارض مع معايير شتى، تصبح نوعا لا يشبه الأنواع الأخرى، لان كل لحظة من لحظاتها فردية تماما ولا يمكن اختزالها: " أن النقطة الجوهرية هي أن الرواية على النقيض من أنواع الأخرى، لا تمتلك أي معيار يمكن قياسها به ". ولعل هذا التشديد يرجع مباشرة إلى فردريك شليغل، الذي يؤكد بدوره: " أن كل رواية هي نوع بذاتها، كل رواية هي كينونة فردية. وهنا بالذات يكمن جوهر الرواية"،كذلك يؤكد بأن الرواية هي امتزاج جميع الأنواع، التي وجدت قبلها: "الرواية مزيج من الأنواع الشعرية، من الشعر الطبيعي دون لمسة أو براعة وصنعة شعرية، بل أنها تتكون من أنواع من الشعر الفني ممتزج معا"(5)
عندما ألف غوغول رائعته التي محورها كتابه النفوس الميتة، أوضح أن روايته قصيدة شعرية، وابرز الجوانب التي على الرواية أن تكون فيها قصيدة.(6)
وفي وقت متأخر طرحت فيه سؤال الرواية الشعرية، يدون جوناثان كلر جوابه: "هناك أنواع شعرية اكتملت الآن ويمكن تشريحها وتحليلها بصورة تامة. أما النوع الشعري للرواية فما زال في حالة صيرورة"، لكنه في نفس الوقت يعترف، أن هناك عدداً قليلاً من الروايات تنتمي إلى هذا النوع".(7)
والنتيجة؟
يلفت جاك دريدا نظرنا إلى أن أي نظام تصنيف للأنواع لا يمكن الدفاع عنه، لان النصوص لا يمكن أن تنتسب إليه مع اشتراكها فيه، فمجرد ظهور أعمال أدبية جديدة تتراجع مقولاتنا المألوفة، وكما سبق لإيخينباوم أن برهن على أن الأدب ليس وحده الذي يتطور، وإنما الدراسة الأدبية تتطور نفسها مع الأدب، لأن اكتشاف وتصنيف مجموعة جديدة أو نموذج نوعي جديد، هو أيضا إنجاز نقدي، ولنذكر بهذا الخصوص تأثير رواية تريسترام شاندي أو يوليسيس على نظرية الرواية.
لقد ظهرت الرواية كجنس مكتوب ومطبوع وليست كجنس شفهي. غير أن نسيان جذر الكتابة، يمكن أن يقود إلي إشكالية طبيعتها، تودوروف مثلا يلاحظ إننا غالبا ما ننسى أن العمل الأدبي في عصرنا، على الأقل يمثل، خطابا مكتوبا لا محكيا. (9)
المطلوب إذن نظرية تميز بين ما يمكن قراءته وما لا يمكن قراءته. ويبين لنا تاريخ الأدب، إذا ما نظرنا إلى الأنواع على أنها عمليات، أن توقعات القراءة تتغير وتقاليد القراءة تتغير، عندها يتغيّر مبدأ انتسابها الصارم. لأن القابل للقراءة، حسب بارت، هو ما نميزه ونعرفه سابقا. انه النص الذي نستهلكه، كقراء باستسلام، في حين أن النص القابل للكتابة ليس شيئا بل عملية، ولذلك لا يمكن تشبيهه ببنى فن الشعر المألوفة، مما يتطلب من القارئ تعاونا فعليا، ويقتضي منه المشاركة في إنتاج النص (…) وبصورة عامة تغلب صفة القابل للقراءة على النصوص الكلاسيكية، بينما تغلب على النصوص الحديثة صفة القابل للكتابة، فالنص الحديث اكثر تعددا من النص الكلاسيكي.(8)
أما جيرار جينيه، فنجده يكتب: "لن أضع بعد ألـ " قابل للكتابة " في مقابل ألـ " قابل للقراءة " بصفته الحديث في مقابل القديم أو المنحرف في مقابل المعياري، بل بصفته التقديري في مقابل الحقيقي، بصفته ممكنا لم يتحقق بعد وتستطيع مقاربته النظرية أن تدل على مكانه وطابعه".(9).
هل يمكن أن تظهر في ما هو متحول جديد ومفاجئ رواية في شكل شعري وهل يستطيع شكل كهذا أن يدخل عالم جنس الرواية ويكتسب شرعيته؟
يبين لويس جولدمان في كتابه "مقدمة إلى مشكلات علم اجتماع الرواية" التحول في الشكل الروائي من خلال التحول في الحياة الاقتصادية، فيضع في الهامش الثامن التعقيب الطريف التالي: "حدد لوكاش زمن الرواية التقليدية في فرضية: بدأنا طريقنا وانتهت رحلتنا. ويمكن للمرء أن يحدد الرواية الجديدة من هذه الفرضية، لكن يمكنه أيضا أن يحددها من خلال فرضية أخرى: أن الطموح هناك.. لكن الرحلة انتهت (كافكا- ناتالي ساروت) أو ببساطة أيضا عن طريق فرضية ثالثة: الرحلة انتهت فعلا.. رغم أننا لم نبدأ الطريق بعد (ألان روب غرييه)".(10)
يبدأ المجاز من عنوان الرواية،جاء في الحديث الشريف: "الكَمْأةُ من المَنِّ وماؤها شفاءٌ للعين". والمَن، سائل ينعقد على الأشجار كالصمغ منه يُصنع مَن "السما" في العراق، ومادمت الكمأة من المن فهي خير نادر وحين تُكمأ الأرض يكثر خيرها. وكما تختلط الصور في الذاكرة، تختلط في أسلوب سرد رواية صور مجازية، ومع انه يبدو، كما لو أن البناء يخضع إلى حبكة قصدية متينة، إلا أن الكاتب يلجأ، عبر هذا البناء المتداخل، إلى "حبكة عفوية" تستطيع فيها ذاكرة ذات في منفى، أن تستعيد صور ماضي قديم تكاد تغيب في النسيان. ويدفع المنهج الأدبي الحديث الناقد، إلى تناول النص من خلال بنيته ومعماره وشكله الداخلي وأن يأخذ بنظر الاعتبار قواعد السرد، التي أختارها المؤلف في أسلوب الحكي وفي تنظيم بنية معماريته النصية.
نقرا في المدخل:
حين زرتني في المرّة الأخيرة شعّ في عينيك دمع وفاض بالنطق مُحيّا حين زرتني للمرّة الأخيرة سألتك في غمرة العناق فيك أشمّ رائحة العراق هل أنتَ العراق ؟
الحكاية باختصار، أن طارق الشاهين يعيش في أرض الكمأة، التي هي في واقع الحال “حي" يكرم أبناءه باستمرار، مع أن لا أحد عرف عن سكانه، أنهم دافعوا عنه في تاريخهم. " آه يا أرض الكمأة أيّ وطن أنتِ ؟" في أحد الأيام تصل الحي عائلة كريمة من بلدة تسمى " تفاحة الريح" وسبب هجرتها، يعود إلى تعرض تلك البلدة إلى كارثة طبيعية، حصلت من حالة غريبة تماما، حالة تعود إلى توقف الهواء في سمائها. يتعرف طارق على ابنة العائلة خولة الياسين، ويرتبط معها بعلاقة حب عاصفة، تكون نتيجتها الزواج. بعد ذلك يتعرض الحي بدوره إلى كارثة، مصدرها استيلاء قرصان مع مجموعة من اللصوص على مقدرات حياة الحي بكامله:
"مَن يخلص سفينتنا المختطفة من يد القرصان؟ مَن ينقذنا من الغرق؟ مَن يا أهل أرض الكمأة يضئ الليل؟ "
يضطر طارق وخولة إلى الهرب من الحي ومن البلد كله، وينتهي بهما المطاف، كلاجئين، في ألمانيا، ويبدأان العيش في مدينة تدعى زيلتسه. هنا تطلب خولة من طارق، الذي تعرف عشقه للحرية، أن يعطيها حريتها فيفعل، رغم حبه الشديد لها، ومع أنها تهجره، إلا أنها تبقى، في نفس الوقت، تداوم على زيارته، كلما تهب أنفاس لوعتها، ولا يبقى أمامه، سوى رهانه على حالات ذروة اللهفة، التي تصيبها، وتدفعها إلى زيارته من جديد.
غير أن الرواية هي عن حي في مدينة،يتحول، وفق استعارة شعرية إلى أمثولة لوطن: لا يكون فيها الوطن سوى استعارة لبقايا ذاكرة. (ولنذكر هنا إدوارد سعيد حينما يقول عندي إحساس دائم مع مرور السنين، بأنه ليس لدي مكان أعود إليه) ويبدو أن المكان الوحيد الذي يحاول سارد الرواية العودة إليه بعد أربعين سنة مرّت هو الذاكرة: " ربِّ أنقذني من ذاكرة في الليل تتعهر وتؤرقني . أنقذني من ذاكرة تتفحل ضحىً . من ذاكرة متهيجة ليل نهار . من ذاكرة قاهرة ، قاتلة".
"ساعديني يا أرض الأجداد فسوف اترك بعدي تاريخاً إنْ حملته معي انقصم ظهري .."
بعد أن مضت رحلة كل تلك السنين، ستحاول ذاكرة ذات في منفى أن تستعيد صور ماضي كل تلك السنين الضائعة: " فبوجوهنا ستغلق أبواب المطارات وستكفّ عن الطيران الطائرات، وستأخذ السماء إجازة وتغادر زرقتها في عطلة صيف.. وبوجوهنا يا أرض الأجداد ستضحك جوازات السفر وسوف تمد لسانها.. وإن أردنا البرّ فسوف تُسرّح قطارات وتتجهم بوجوهنا محطات وترفسنا لاءات.. وإن أردنا البحر فسوف تغتاظ البحار وتنسحب بسفائنها إلى ما وراء المدار "
ستبحر الذاكرة في الماضي، وتستعين في استحضاره بصور تختلط، في تدوين فضاء النص، وتتداخل وتتقاطع وتمتزج، في كتابة شعرية تميز نوع السرد الروائي، تضع الألفاظ في نظم سياق مبتكر، تجعل الكاتب يفتتن باللغة، التي قد تبتعد هنا أو هناك عن ملاحقة الحدوتة، كلما أقترب من تعبيره الخاص، لان الكتابة الشعرية وهي تفجر طاقات اللغة، ستجد في التعبير هدفها السامي، وعندها، كما يبدو، تصبح ليست صورة الإنسان المألوفة هي المهمة، بل صورته التي يمكن للغة شعرية أن ترسمها،.. و:كأن الكاتب يتبع خطى شليغل في فهمه للرواية بأنها قصيدة القصائد، نسيج كامل من القصائد، ويصنع من أحداث صور الذاكرة، صورا شعرية، مقتطعة مرة ومجزاة في مرة أخرى وناقصة، ليس في بنية النص السردي، إنما في سياق الوحدات السردية ذاتها:
" مبحرون نحو الطفولة ومنها قادمون. ننطق بالحِلم إنْ أُضرِمت نيراننا ونعبر بأحلامنا بحار الجنون. خذينا أيتها الغيوم المتناثرة العابرة في الغفلة، العابثة بالزرقة.. خذينا إلى حيث نتبعثر في المسافات.. خذينا لكي نعود محملين بطاقات من هذيان سعيد وقافلة من أفيون نطلق بها إلى التيه زماننا المتعفف. خذينا.. خذينا، فنحن لم نعد نقبل النزول ".
وكما يتأتى على رجل آثار أن يبحث في آثار حضارة على ما يتبقى منها: قطع متكسرة، مهشمة وربما شبه سليمة، ليتمكن من رسم صورة تلك الحضارة الزائلة، يقف الناقد والقارئ من " أثار" لغة النص أمام مهمة مشابهة، وإذا ما استطاع أي منهما تلميم الناقص من الملفوظ السردي، وترميم المنكسر وتأويل شبه المهشم، ستأتيه، عندئذ، متعة ولذة لغة النص، لغة لا تعني بالوقوف عند مادة الشعر المعروفة، إنما تجهد في أن تمنح الشعر مهمة مبتكرة، مهمة سرد صور ماض غائب، لا تريد إعادة تمثيله، كما هو شأن السرد النثري، إنما تعيد استحضاره من ذاكرة، وتدوين ما يمكن، فقط، استحضاره من بقايا صور زمن هارب، يعود على شكل ومضات، تجعل من لغة السرد الشعري، وهي تقوم بعملية الاستحضار، ذاتها هدف السرد، طالما يبقى ما يسرد، أمام الذاكرة، عاجز عن مماثلة أحداث زمنها الزائل.
" هاهو السور، هاهي الباب تفتح ذراعيها. ادخلي يا خولة. هل رأيتِ كيف هبطنا بلمح البصر ؟ ".
فمن جهة تبدو اللغة وكأنها لا تستطيع أن تستحوذ على ما تريد أن تسرده، لكنها، وبسبب ذلك، تضاعف من قدرتها على التعبير، لآن الجملة تفقد أهميتها، إذا عرف معناها في منتصف الطريق، وهي إذ تلجا إلى الشعر-كما يرى فاليرى- لا تريد تقديم المعنى، إنما تحاول أن تدل عليه، أثناء ما تغرق في دلالتها الخاصة، التي تبتكر نصا يولي مكانه للرؤية أو للصورة البصرية.، نصا نكتشف فيه "افتتان" الكاتب بقدرة الكلمات على خلق الفكرة عند اللجوء إلى كثافة المجاز والاستعارة والكناية، ويبدو أن منشأ ذلك الافتتان يأتي عنده من أن اللغة نفسها ذات طبيعة دالة، فالكلمة تعني شيئا قبل أن تستعمل. إذن سيذهب الكاتب في بحثه عن دوال مبتكرة إلى لغة شعرية، لغة تعتمد في حيويتها وإيحاءها على ما يمكن أن يعطي القارئ متعة بديلة، متعة لا تنتج من حبك ما تبقيه الذاكرة من الحكاية، إنما متعة الكيف الذي تسرد فيه الحكاية، الكيف بين ما يقال والطريقة التي يقال فيها. لذلك تصبح عملية إنتاج المعنى جزءا أساسيا من فعالية النص، وليست تابعا ثانويا لمدلول جاهز. وسيضع القابل للكتابة، حسب بارت، أمام القارئ نفسه وظيفة، يمكن له أن يؤديها، لكي " يلج في سحر الدال، في لذة الكتابة "، لذة تأتيه، في عملية إنتاج المعنى، من تركيبات شعرية مبتكرة وموحيّة، تركيبات وظيفتها نقل العدوى إليه كقارئ، عدوى ذاكرة سارد تصيب ذاكرة أخرى، تتعرف هي، بتجربتها، على ما يمكن أن يستكمل مما هو ناقص في السرد. عدوى استحضار صور ذاكرة ضائعة، تدفع مخيال القارئ، كما هو حال مخيال الكاتب، إلى أن يأخذ معه مفتاحا لذاكرة وشيئاً من الحنين إلى ماض، يوشك أن يضيع في النسيان.
وبما أن الحكاية هي بنية ذاكرة تنظم مجموع عناصر السرد المستترة والظاهرة، ليس بفعل التجاور فقط، إنما بفعل تباعد العناصر السردية ذاتها عن بعضها البعض، عندها تبدو الوحدات السردية، بالنسبة للنسيج الحكائي، متقطعة، لكنها من جهة أخرى، تنتظم في برنامج سردي، ينتج عنه نموذجه الخاص، الذي يحول الحبكة المألوفة إلى شبح يظهر مرة ويختفي، طالما يتناسب الأمر مع موضوع، أساسه، رحلة بحث تقوم بها ذاكرة، ليس في ماضيها، إنما في الذاكرة نفسها.
ويلعب الكاتب، بذلك، لعبة أخرى، انه يحول متعة الحبكة،إلى متعة من نوع آخر، متعة صيد صور ذاكرة، تتشكل من عناصر سردية شعرية، تريد خلق مشاركة ممكنة بين سارد الرواية وبين متلق لا يراد له أن يكون أسيرا للسرد، إنما تحاول طريقة السرد، أن تدفعه إلى استحضار صور أحداث من ذاكرته، لتجعله يساهم في إتمام حكاية السارد.
المراجع:
1. سعيد يقطين. الكلام والخبر- مقدمة للسرد العربي. المركز الثقافي. بيروت- 1997 ص 179 2. معجم المصطلحات الأدبية. إعداد. إبراهيم فتحي. دار شرقيات للنشر والتوزيع. القاهرة 2000 ص 96 3. تزفتيان تودوروف. الشعرية ت. شكري المنجوت ورجاء بن سلامة دار توبقال للنشر.المغرب.1990 ص36 4. القصة الرواية المؤلف. دراسات في نظرية الأنواع الأدبية المعاصرة مجموعة من الكتاب ت. د. خيري دومة دار شرقيات للنشر والتوزيع القاهرة 1997 قارن: ص 175 5. تزفتيان تودوروف. ميخائيل باختين. المبدأ الحواري. ت. فخري صالح. المؤسسة العربية للدراسات والنشر/ بيروت 1996 ص 163- 165. 6. جيل دولوز المعرفة والسلطة مدخل لقراءة فوكو. ت. سالم يفوت المركز الثقافي العربي بيروت 1987 7. جوناثان كلر . الشعرية البنيوية. ص 231ت السيد أمام شرقيات القاهرة عام 2000 8. آن جفرسون وديفيد روبي النظرية الأدبية الحديثة. 1992 منشورات وزارة الثقافة دمشق. ت. سمير مسعود ص 188- 189 9. تزفتيان تودوروف . الأدب والدلالة. ت د.محمد نديم خشفة مركز الإنماء الحضاري. حلب 1996 ص 15 10. جيرار جينيه عودة إلى خطاب الحكاية ت محمد معتصم المركز الثقافي العربي الدار البيضاء 2000) ص206-207 11. راجع القصة الرواية المؤلف، ص 123 12. رينيه ويليك اوستن وارين نظرية الأدب ت محي الدين صبحي المجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب والعلوم الاجتماعية 1972 سوريا ص 295
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ * قيس الزبيدي مخرج سينمائي وكاتب عراقي مقيم في برلين [email protected] email :
#قيس_الزبيدي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
وفاة الأديب الجنوب أفريقي بريتنباخ المناهض لنظام الفصل العنص
...
-
شاهد إضاءة شجرة عيد الميلاد العملاقة في لشبونة ومليونا مصباح
...
-
فيينا تضيف معرض مشترك للفنانين سعدون والعزاوي
-
قدّم -دقوا على الخشب- وعمل مع سيد مكاوي.. رحيل الفنان السوري
...
-
افتُتح بـ-شظية-.. ليبيا تنظم أول دورة لمهرجان الفيلم الأوروب
...
-
تونس.. التراث العثماني تاريخ مشترك في المغرب العربي
-
حبس المخرج عمر زهران احتياطيا بتهمة سرقة مجوهرات زوجة خالد ي
...
-
تيك توك تعقد ورشة عمل في العراق لتعزيز الوعي الرقمي والثقافة
...
-
تونس: أيام قرطاج المسرحية تفتتح دورتها الـ25 تحت شعار -المسر
...
-
سوريا.. رحيل المطرب عصمت رشيد عن عمر ناهز 76 عاما
المزيد.....
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
المزيد.....
|