اتسمت العلاقات العراقية الإيرانية ،لسنوات طويلة ،بالتوتر ،والصدامات العسكرية على الحدود في عهد الشاه [محمد رضا بهلوي ] وقد تصاعد التوتر والصراع بعد
أن أقدم الحكام البعثيون في العراق بإلغاء معاهدة 1937 العراقية الإيرانية ،المتعلقة باقتسام مياه شط العرب،بموجب خط التالوك الوهمي الذي يقسم شط العرب إلى نصفين ،أحدهما للعراق والآخر لإيران ،وقد سبب الإجراء العراقي إلى قيام حرب استنزاف بين البلدين على طول الحدود ،واستمرت زمناً طويلاً ،ووصل الأمر إلى قرب نفاذ العتاد العراقي ،واضطر حكام بغداد إلى التراجع ،ووسطوا الرئيس الجزائري [ هواري بو مدين ] لترتيب لقاء بين صدام حسين وشاه إيران لحل الخلافات بين البلدين .
وبالفعل تمكن الرئيس الجزائري من جمع صدام حسين وشاه إيران في العاصمة الجزائرية ،وإجراء مباحثات بينهما انتهت بإبرام اتفاقية 16 آذار 1975،وعاد حاكم بغداد إلى اتفاقية عام 1937 من جديد ،ووقفت حرب الاستنزاف بينهما ،ووقف الدعم الكبير الذي كان الشاه يقدمه للحركة الكردية ،حيث استطاع البعثيون إنهاءها ،وإعادة بسط سيطرتهم على كردستان من جديد .وفي عام 1979 .
وفي أواخر عهد أحمد حسن البكر وقعت أحداث خطيرة في إيران ،فقد اندلعت المقاومة المسلحة ضد نظام الشاه الدكتاتوري ،المرتبط بعجلة الإمبريالية الأمريكية .
أتسع النشاط الثوري ،وبات نظام الشاه في مهب الريح ،وسبّبَ ذلك الوضع الخطير في إيران أشد القلق لأمريكا ، فقد كانت مقاومة الشعب الإيراني لنظام الشاه قد وصلت ذروتها ،وبات من المستحيل بقاء ذلك النظام وبدت أيامه معدودة .
كان هناك على الساحة الإيرانية تياران يحاولان السيطرة على الحكم ،الأول تيار ديني يقوده [آيه الله الخميني ] من منفاه في باريس ،والتيار الثاني يساري علماني يضم الحزب الشيوعي ،وأحزاب وتنظيمات يسارية أخرى .
وجدت الولايات المتحدة نفسها أمام خيارين أحلاهما مُرْ، لكن التيار اليساري كان يقلقها بالغ القلق ،نظراً لموقع إيران الجغرافي على الخليج أولاً ، ولكونها ثاني بلد منتج للنفط في المنطقة ثانياً ،ولأن إيران تجاور الاتحاد السوفيتي ثالثاً . وبناء على ذلك ،فإن مجيء اليسار إلى الحكم في إيران سوف يعني وصول الاتحاد السوفيتي إلى الخليج ،وهذا يهدد المصالح الأمريكية النفطية بالخطر الكبير ولذلك فقد اختارت الولايات المتحدة [أهون الشرين ] بالنسبة لها طبعاً ،وهو القبول بالتيار الديني خوفاً من وصول التيار اليساري إلى الحكم ،وسهلت للإمام للخميني العودة إلى إيران من باريس ، لتسلم زمام الأمور ،بعد هروب الشاه من البلاد .وهكذا تمكن التيار الديني من تسلم زمام السلطة ،وتأسست الجمهورية الإسلامية في إيران في آذار 1979 .
إلا أن الرياح جرت بما لا تشتهِ السفن ،كما يقول المثل ،فلم تكد تمضي سوى فترة قصيرة من الزمن حتى تدهورت العلاقات بين الولايات المتحدة وإيران ،بعد أن أقدم النظام الجديد على تصفية أعداد كبيرة من الضباط الكبار الذين كانوا على رأس الجيش الإيراني ،كما جرى تصفية جهاز [ السافاك ] الأمني ،الذي أنشأه الشاه بمساعدة المخابرات المركزية الأمريكية ،وجرى أيضاً تصفية كافة الرموز في الإدارة المدنية التي كان يرتكز عليها حكم الشاه .
وجاء احتلال السفارة الأمريكية في طهران ،من قبل الحرس الثوري الإيراني ،واحتجاز أعضاء السفارة كرهائن ،وإقدام الحكومة الإيرانية على طرد السفير الإسرائيلي من البلاد وتسليم مقر السفارة الإسرائيلية إلى منظمة التحرير الفلسطينية ،والاعتراف بالمنظمة كممثل شرعي للشعب الفلسطيني ،كل تلك الأحداث المتتالية أثارت قلق الولايات المتحدة ،ودفعتها لكي تخطط لإسقاط النظام الجديد في إيران ،قبل أن يقوى ،ويشتد عوده ،أو على الأقل إضعافه وإنهاكه .
وتفتق ذهن المخابرات المركزية إلى أن خير من يمكن أن يقوم بهذه المهمة ،هو صدام حسين وبهذه الوسيلة تضرب الولايات المتحدة عصفورين بحجر واحدة .فالعراق وإيران دولتان قويتان في منطقة الخليج ،ويملكان إمكانيات اقتصادية هائلة ،ولحكامهما تطلعات خارج حدودهما ،إذاً يكون إشعال الحرب بين البلدين ،وجعل الحرب تمتد لأطول مدة ممكنة ،بحيث لا يخرج أحد منهما منتصراً ،ويصل البلدان في نهاية الأمر إلى حد الإنهاك ،وقد استنزفت الحرب كل مواردهما ،وتحطم اقتصادهما ،وهذا هو السبيل الأمثل للولايات المتحدة لبقاء الخليج في مأمن من أي تهديد محتمل .
وهكذا خططت الولايات المتحدة لتلك الحرب المجنونة ،أوعزت لصدام حسين، بمهاجمة إيران ،والاستيلاء على منطقة [ خوزستان ] الغنية بالنفط ،واندفع صدام حسين لتنفيذ هذا المخطط ،يحدوه الأمل بالتوسع صوب الخليج ،وفي رأسه فكرة تقول ،أن منطقة [خوزستان] هي منطقة عربية ،تدعى [عربستان ] .
لم يدرِْ بخلد صدام حسين ما تخبئه له الأيام ؟ ولا كم ستدوم تلك الحرب ؟ وكم ستكلف الشعب العراقي من الدماء والدموع ،ناهيك عن هدر ثروات البلاد، واحتياطات عملته ،وتراكم الديون الكبيرة ،التي تثقل كاهل الشعب العراقي واقتصاده المدمر .
لقد سعت الولايات المتحدة ،بأقصى جهودها لكي تديم تلك الحرب أطول فترة زمنية ممكنة،وهذا ما أكده عدد من كبار المسؤولين الأمريكيين أنفسهم،وعلى رأسهم [ريكان] و[كيسنجر]،وغيرهم من كبار المسؤولين الأمريكيين .
فلقد صرح الرئيس الأمريكي [ ريكان ] حول الحرب قائلاً :
{ إن تزويد العراق بالأسلحة حيناً ،وتزويد إيران حيناً آخر ،هو أمر يتعلق بالسياسة العليا للدولة } .
وهكذا بدا واضحاً أن الرئيس ريكان كان يهدف إلى إطالة أمد الحرب ،وإدامة نيرانها التي تحرق الشعبين والبلدين معاً ،طالما أعتبر البلدان ،بما يملكانه من قوة اقتصادية وبشرية ،خطر على المصالح الإمبريالية في الخليج ،وضمان وصول النفط إلى الغرب ،وبالسعر الذي يقررونه هم ،لا أصحاب السلعة الحقيقيين .
أما الصهيوني [هنري كيسنجر]،وزير الخارجية ،ومنظّر السياسة الأمريكية ،فقد تحدث في مذكراته عن الحرب قائلاً :
{ إن هذه هي أول حرب في التاريخ تمنينا أن لا يخرج أحد منها منتصراً وإنما يخرج الطرفان منها مهزومين } .
وطبيعي أن هذا الهدف لا يمكن أن يتحقق إذا لم تستمر الحرب إلى أمد طويل ، وإضافة إلى كل ذلك كان سوق السلاح الذي تنتجه الشركات الغربية مزدهراً ،ومحققاً أرباحاً خيالية لتجار الحروب والموت ،في حين استنزفت تلك الحرب ثروات البلدين المادية والبشرية ،وسببت من الويلات والماسي والدموع ما لا يوصف ،فلم تترك تلك الحرب عائلة في العراق وإيران دون ضحية .
لكن الإمبريالية لا تفهم معنى الإنسانية ،فقد كان الفرح يغمر قلوبهم ،وهم يشاهدون كل يوم على شاشات التلفزيون،وصور الأقمار الصناعية ،تلك المجازر التي بلغ أرقام ضحاياها حداً مرعباً ،فقد قتل في يوم واحد من أيام المعارك أكثر من عشرة آلاف ضحية ،وقد كانت مصالحهم الاقتصادية تبرّر كل الجرائم بحق الشعوب ،ولو أن تلك الحرب وقعت في أوربا ،أو أمريكا ،أو بين العرب وإسرائيل ،لسارع الإمبرياليون إلى وقفها فوراً ،وبذلوا الجهود الكبيرة من أجل ذلك .
أن الحقيقة التي لا يمكن نكرانها ،هي إن تلك الحرب كانت من تدبير الإمبريالية الأمريكية ،وشركائها ،وأن صدام حسين قد حارب نيابة عنهم ،ولمصلحتهم بكل تأكيد ،وأن لا مصلحة للشعب العراقي إطلاقاً في تلك الحرب ،ولا يوجد أي مبرر لها،وإن الشعب الإيراني شعب جار ،مسلم ،وتربطه بنا علاقات تاريخية ودينية عميقة،تمتد جذورها لقرون عديدة ،كما أن إيران لم تكن مستعدة لتلك الحرب ،ولم يعتقد حكام إيران أن النظام العراقي يمكن أن يقدم على مثل هذه الخطوة ،وهذا ما يؤكده اندفاع القوات العراقية في العمق الإيراني خلال أسابيع قليلة ،دون أن يلقى مقاومة كبيرة من قبل الجيش الإيراني .
وهكذا أستمر تفوق الجيش العراقي خلال العام 1981 ،حيث تمكن من احتلال مناطق واسعة من القاطع الأوسط منها [سربيل زهاب ] و[الشوش] و[قصر شيرين] وغيرها من المناطق الأخرى . كما تقدمت القوات العراقية في القاطع الجنوبي ،في العمق الإيراني ،عابرة نهر الطاهري ،وكان ذلك الاندفاع أكبر خطأ أرتكبه الجيش العراقي ،بأمر من صدام حسين !!!، حيث أصبح في وضع يمكن القوات الإيرانية من الالتفاف حوله ،وتطويقه ،رغم معارضة القادة العسكريين لتلك الخطوة الانتحارية التي دفع الجيش العراقي لها ثمناً باهضاً من أرواح جنوده جاوزت العشرين ألفاً ،وما يزيد على هذا العدد من الأسرى،ومن الأسلحة والمعدات التي تركها الجيش ،بعد عملية التطويق الإيرانية ،والهجوم المعاكس الذي شنه الجيش الإيراني في تموز من عام 1982 ،والذي استطاع من خلاله إلحاق هزيمة منكرة بالجيش العراقي ،واستطاع تحرير أراضيه ومدنه في منطقة خوزستان ،وطرد القوات العراقية خارج الحدود .
واستمرت الحرب سجالاً بين الطرفين ،واستمرت الولايات المتحدة في تقديم السلاح والمعلومات الاستخبارية العسكرية لكلا الطرفين من أجل استمرار لهيب الحرب وزودت صدام بتكنلوجيا أسلحة الدمار الشامل عندما بدا الجيش العراقي في حالة من الإنهاك ،وبدأت حرب الصواريخ تنهمر على مدن البلدين منزلة الخسائر البشرية بالسكان المدنيين ،وهكذا توالت سنوات الحرب الثمان دون أن تسعى الولايات المتحدة ولا المجتمع الدولي إلى وقفها إلا حينما تحولت الحرب إلى حرب الناقلات التي تحمل النفط إلى الغرب ،واصبح تأمين إمدادات النفط بالغ الصعوبة ،عند ذلك أصدر مجلس الأمن قراره بوقف الحرب ،واضطرت الحكومة الإيرانية إلى القبول بوقف إطلاق النار على مضض ،بعد أن أدركت أن الولايات المتحدة لن تسمح باندحار القوات العراقية ،ووقوع العراق لقمة سائغة بيد النظام الإيراني ،وتم وقف الحرب في الثامن من آب 1988 بعد أن أنهكت الحرب اقتصاد البلدين ،وبعد أن تكبد الطرفان خسائر مادية وبشرية جسيمة ما يزال البلدان يعانيان من آثارها حتى يومنا هذا .