عشر سنوات على أوسلو
تغييب أسس الحل المتوازن، والمرجعيات أسقطت رحلة الأوهام
( في النقد والنقد الذاتي )
(1 / 2)
المراجعة النقدية ضرورة وطنية وقومية، استخلاص الدروس والعبر في مجرى الصراع الدائر مع الاستيطان والاحتلال ضرورة لتجاوز التدهور والخطر الكامن أمامنا.
لماذا وصلنا إلى ما نحن فيه وعليه ؟ في مسار منظمة التحرير، الانتفاضة، المقاومة، معارضات وانقسامات وتناقضات، لماذا و إلى أين؟ والآن أزمة انقسامات السلطة الفلسطينية ومحاور كتل فتح، والحوارات الوطنية المتعددة لتجاوز ما نحن عليه نحو: برنامج وطني جديد وموحد، قيادة وطنية موحدة، حكومة وطنية أم حكومة اللون الواحد. إن مراجعة حاضرنا والقادم علينا ترتبط بأمسنا حتى يومنا تتجاوز أخطاءنا والفتح على سياسة وطنية وقومية مسؤولة، عملية، واقعية، توحيدية تشكل خشبة الخلاص الوطني، وأعمدة القياس في صياغة قوانين التقاطع والتناقض مع المحاور الإقليمية والدولية الضاغطة، والحافرة يومياً في عمق اتجاهات الحركة الوطنية الفلسطينية والصراع الفلسطيني ـ الإسرائيلي.
في الدورة الثامنة عشرة للمجلس الوطني الفلسطيني (12 ـ 15 تشرين أول/ نوفمبر 1988) خضنا صراعاً مريراً، الخلاف على الصياغات الملتبسة للقرارات كما أرادها البعض لم يكن خلافاً شكلياً، وهذا ما أظهرته الوقائع لاحقاً. ففي أسس الدعوة لعقد مؤتمر دولي جاء ربط اليمين في المجلس بين القرارين 242 ـ 338 وبقية القرارات الأممية الأخرى ذات الصلة بالقضية الوطنية الفلسطينية متراخياً. يومها وقفت وطالبت بربط جدلي بين هذين القرارين، وبقية القرارات الأخرى، مؤكداً في ذلك على كلمة الجبهة الديمقراطية التي ألقاها في المجلس فهد سليمان عضو المكتب السياسي للجبهة، ومع فعل ملاحظاتنا التطويرية اللازمة فقد حمل القرار السياسي بحدود معقولة ما يكفي من الشفافية والواقعية، والإصرار على دور الأمم المتحدة والدول دائمة العضوية (محاضر الدورة)، وهذا ما جعلنا نصوت لصالح القرارات بصيغتها التي صدرت حفاظاً على الوحدة الوطنية، ولكن رغم كل ذلك فإن المحذور الذي حاولنا تجنبه سريعاً ما وقع بعد أيام معدودات من صدور هذه القرارات، فلقد كسرها فريق تونس، وتراجع عنها تحت ضغط صفقة شروط الإدارة الأمريكية "لتأهيل منظمة التحرير الفلسطينية" دون علم مؤسساتها ومن وراء ظهرها، باتجاه ما يجري طبخه على مساحة شهور سبقت أعمال مجلسنا الوطني، باتجاه حلول خارج إطار ومرجعية الشرعية الدولية فضلاً عن الفلسطينية والعربية، وبإخراج تكتيك الصدمة الساداتية، صدمة المفاجأة والأمر الواقع، والقرار الانفرادي دون الاحتكام للمؤسسات الوطنية، واحترام قراراتها والالتزام بها، وتمثل ذلك بالرسالة التي وقع عليها عرفات في استوكهولم 7 كانون أول/ ديسمبر 1988، والموجهة إلى ستين أندرسون وزير خارجية السويد، والنص المرفق بهذه الرسالة المصاغ باللغة الإنكليزية والبارز فيه:
"إن منظمة التحرير الفلسطينية على استعداد للتفاوض مع "إسرائيل" على أساس قراري الأمم المتحدة 242 ـ 338 " .
"تتعهد منظمة التحرير الفلسطينية أن تعيش مع إسرائيل ضمن حدود آمنة ومعترف بها".
" تنبذ منظمة التحرير الفلسطينية العنف الفردي والجماعي، وإرهاب الدولة في كل صورها ولن تلجأ إلى شيء من ذلك".
ويلاحظ هنا أنه تم اشتقاق سياسة على النقيض من قرارات مجلسنا الوطني، التي لم يمضِ عليها عشرون يوماً، وتم إخراج هذه السياسة وكأنها بنت لحظتها وساعتها، وبتكتيك الصدمة إياها لتوليد الذهول والارتباك (shock and awe).
الإدارة الأمريكية اعتبرت الرسالة والتعهد خطوة إلزامية قبل الجلسة الخاصة للجمعية العامة للأمم المتحدة في 13 كانون أول/ ديسمبر 1988 في جنيف، وطالبت بإعلان لا يحمل أدنى التباس به في خطاب عرفات، وعندما ضمَّن عرفات خطابه الشروط الأمريكية الثلاثة كما وردت في النص الذي حمله وليم كوانت (عضو مجلس الأمن القومي الأمريكي في عهد كارتر) إلى شولتز (وزير الخارجية) في 12 أيلول/ سبتمبر 1988، ونص الرسالة إلى أندرسون في 7 كانون أول/ ديسمبر 1988، اعتبر شولتز أنها غير كافية، ولذا لن تكون منظمة التحرير مؤهلة للحوار مع الإدارة الأمريكية، وعلى هذا الأساس طالب شولتز من جديد بإعلان دقيق من عرفات، وبعبارات مركزة لقبوله الشروط الثلاثة، ووقع ما طلب فعلاً في 14 كانون أول/ ديسمبر 1988 في المؤتمر الصحفي لعرفات بجنيف، حيث قرأ عرفات النص المطلوب والمكتوب بالإنكليزية كما وضعته واشنطن (الاعتراف بحق "إسرائيل" في الوجود، والتسوية على أساس القرار 242، نبذ العنف الفردي والجماعي). وفي تونس دافع عرفات عن خطواته في جنيف فضلاً عن ما سبق واصفاً إياها بأنها كانت بنت ساعتها، وتذرع بعدم معرفته الدقيقة بالإنكليزية، لذلك لم يستطع أن يميز مضمون الكلمة التي تبدأ بالحرف (R ) عن تلك التي تبدأ بالحرف (D ) ؟!! والواقع أن نزول اليمين ويمين الوسط عند شروط "تأهيل منظمة التحرير الفلسطينية" هو الذي أنتج خطوة أثر خطوة اتفاق أوسلو 1 و2 بعد حرب الخليج الثانية وانهيار التضامن والتوازن العربي الذي جعل "إسرائيل" تصوغ سياسة تفاوضية وإقليمية معتبرة نفسها "الوريث الوحيد لفلسطين الانتدابية"، وأوصل فريق أوسلو الفلسطيني إلى الموافقة على أوسلو 1 و 2 بعد حرب الخليج الثانية وانهيار التضامن والتوازن العربي، الذي جعل من الأراضي الفلسطينية المحتلة أراض "متنازع عليها"، (راجع كتاب حواتمه " أوسلو والسلام الآخر المتوازن" فصل الوثائق).
إن سياسة التنكر للبرامج والقرارات الوطنية المشتركة هي التي أوصلتنا إلى الكوارث، بالإضافة إلى ضمور ومصادرة هامش الديمقراطية في صنع القرار الوطني، وحلول التفرد مكان القيادة الجماعية. لاحقاً حصرت الإدارة الأمريكية الحوار الرسمي مع منظمة التحرير الفلسطينية بقناة روبرت بيللترو السفير الأمريكي في تونس، بينما الحوار الملموس يدور في ذات القنوات السرية التي تحدثنا عنها، الحوار الذي أصبح حوارات متوازية مع قناة بيللترو لم يكن أكثر من تواصل أسئلة وعمليات جمع معلومات عن الأوضاع الداخلية الفلسطينية والعربية، والضغط لوقف الانتفاضة تحت عنوان "تنفيذ شرط نبذ العنف الفردي والجماعي في الضفة والقطاع"، إلى أن تم تجميد الحوار في 30 أيار/ مايو 1990 بقرار من جيمس بيكر وزير الخارجية الأمريكي، في أعقاب عملية أكيلي لاورو (جبهة التحرير الفلسطينية ـ أبو العباس)، لكن القنوات السرية تواصلت ولم تتأثر بوقف الحوار الرسمي، ونشط فيها الرئيس الروماني الأسبق شاوشيسكو وخاصة بعد اندلاع الانتفاضة، تقدمت حكومة الليكود ـ العمل الائتلافية بمشروع شامير 14 أيار/ مايو 1988 وعناصره الأساسية كانت كما يلي:
حكم ذاتي موسع للسكان ( لاحظ للسكان دون سيادة على الأرض) استناداً لاتفاقيات كامب ديفيد، وانتخاب "مجلس فلسطيني" في الضفة والقطاع يتحمل مسؤولية الحكم الذاتي. مرحلة انتقالية من خمس سنوات للحكم الذاتي.
لا وقف للاستيطان وشق الطرق الالتفافية للربط بين المستوطنات.
مفاوضات الحل النهائي مع بدء السنة الثالثة من اتفاق الحكم الذاتي، ووقف الانتفاضة عند الاتفاق على مبادئ الحكم الذاتي.
وبعدها طرحت العديد من الأوراق والمبادرات والبدائل أبرزها مشروع النقاط العشر للرئيس المصري حسني مبارك، لكنها كانت كلها مشروطة بالتالي:
1 ـ أن تكون المفاوضات مع شخصيات من الضفة والقطاع، فالمفاوضات حول الحكم الذاتي لسكان الضفة والقطاع.
2 ـ لا أحد من القدس، ولا أحد من اللاجئين، ولا أحد من أعضاء المجلس الوطني الفلسطيني.
3 ـ دور منظمة التحرير الفلسطينية من تحت الطاولة، سري غير مرئي.
4 ـ وقف الانتفاضة.
5 ـ "مناطق مقابل السلام" وليس "المناطق المحتلة مقابل السلام".
ونلاحظ في الأوراق والمشاريع المطروحة، أنها الحلقة الثانية من التسويات الثنائية المنفردة، بعد أن سقطت حلقة 17 أيار/ مايو 1983 اللبنانية ـ الإسرائيلية، وعلى النقيض من القرار السياسي لمجلسنا الوطني حول التسوية السياسية، والمؤتمر الدولي للسلام (15 تشرين أول/ نوفمبر 1988).
أهل أوسلو يوقعون أنفسهم بالشَرَك
مثلت مبادرة الرئيس بوش الأب التي أطلقها في 6 آذار/ مارس 1991 امتداداً لسياسة واشنطن في الشرق الأوسط، وحلولها التي طالما سعت إلى فرضها، استناداً إلى كامب ديفيد ومشروع ريغان، واتفاقية 17 ايار/ مايو 1983، وجاءت صيغة مدريد نسخة عن "صيغة ريغان ـ غورباتشوف في قمة واشنطن أيلول/ سبتمبر 1987 التي عطلتها حكومة الليكود خشية من دور الاتحاد السوفيتي آنذاك. بعدها قام بيكر بجولات مكوكية في منطقة الشرق الأوسط بلغ مجموعها ثمانية، وفي الجولة الثالثة كان قد بلور صيغة لمؤتمر السلام على الأسس الآتية: جلسة افتتاحية برعاية الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفيتي، الأمم المتحدة مراقب صامت، أساس المؤتمر القرارين 242 ـ 338 فقط، والمفاوضات على المسار الفلسطيني ـ الإسرائيلي على مرحلتين: المرحلة الأولى مفاوضات على الحكم الذاتي لسكان الضفة والقطاع بالاستناد إلى اتفاقيات كامب ديفيد وبمدة خمس سنوات. المرحلة الثانية مرحلة مفاوضات الحل النهائي وتبدأ بعد السنة الثالثة من الحكم الذاتي وتنتهي بسقف خمس سنوات، وتتم على أساس القرار 242، التمثيل الفلسطيني يكون بشخصيات من الضفة والقطاع غير أعضاء في المجلس الوطني الفلسطيني، لا أحد من الشتات، لا أحد من القدس، يندرج الوفد الفلسطيني ضمن عضوية وفد أردني فلسطيني مشترك. الحدود، القدس، اللاجئون، الاستيطان، المياه، السيادة على الأرض، السيادة السياسية، كلها مواضيع يتم ترحيلها إلى مفاوضات المرحلة الثانية (الحل النهائي)، ودارت صراعات واسعة في الصف الفلسطيني ومؤسسات منظمة التحرير وبين فصائل المقاومة الفلسطينية بأمل مواجهة هذه الخطة لم تحسم، فانسحب بعد الجولة الثالثة من لجنة الحوار مع بيكر ممثلوا كل من الديمقراطية، الشعبية، حزب الشعب، حيدر عبد الشافي، وتواصل طبخ الحوار مع وفد فتح فقط برئاسة فيصل الحسيني. وهكذا وصلنا إلى المجلس الوطني الفلسطيني بدورته العشرين 23 أيلول/ سبتمبر 1991 بانقسام تمثل بثلاثة تيارات:
1 ـ التيار الساعي للانخراط في التسوية الأمريكية بالشروط وشكل التمثيل الذي يطرحه بيكر ـ شامير.
2 ـ التيار الوطني الديمقراطي الواقعي الداعي للمشاركة في مؤتمر السلام على قاعدة الشرعية الدولية، ومرحلة تفاوضية واحدة مثل الأردن، وسوريا، ولبنان، وضمان وقف الاستيطان.
3 ـ التيار القومي العام الرافض للمفاوضات من حيث المبدأ.
وبرز في المجلس تيار أوسع لتطويق سياسة التسليم بشروط بيكر وشامير، شمل التيار الديمقراطي الثوري والقوى الوطنية المدافعة عن قرارات الإجماع الوطني، واتجاه من فتح وقوى قومية وشخصيات وطنية. قرارات المجلس قدمت حلولاً ملموسة ومتوازنة مستندة للشرعية الدولية والإطار الذي أعلنه جورج بوش للتسوية السياسية الشاملة 242، 338، والأرض مقابل السلام، فأسس مؤتمر مدريد لا تشمل مبدأ "الأرض مقابل السلام". وجاء في نص القرار استعداد منظمة التحرير الفلسطينية للمشاركة في مؤتمر السلام في حال توفرت الأسس التالية:
1 ـ تطبيق الالتزام بتطبيق قرارات الشرعية الدولية على قاعدة الأرض مقابل السلام، والحقوق الوطنية المشروعة للشعب الفلسطيني.
2 ـ ضمان حق منظمة التحرير الفلسطينية في تشكيل وفدها من داخل الوطن وخارجه، بما فيها القدس، ومشاركته على قدم المساواة مع سائر الأطراف.
3 ـ وقف الاستيطان كشرط لا غنى عنه لبدء عملية السلام.
4 ـ ضمان حضور القدس موضوعاً وتمثيلاً، واستبعاد الحلول الجزئية المنفردة، وضمان التنسيق العربي على هذه الأسس.
في الجولة المكوكية الثامنة لجيمس بيكر، طلب لائحة بأسماء الفريق الفلسطيني وفق المعايير الأمريكية، (شخصيات من الضفة والقطاع دون القدس لا أحد من منظمة التحرير الفلسطينية)، وطالب بالموافقة على المشاركة في المؤتمر تحت سقف وفد أردني فلسطيني، ورقة الدعوة الأمريكية أساس التفاوض حول الحكم الذاتي للسكان، خمس سنوات قبل الانتقال إلى المرحلة الثانية، بدون وقف الاستيطان وبدون حضور القدس موضوعاً أو تمثيلاً. لكن المجلس الوطني الفلسطيني رفض شروط بيكر، وأكد على ضرورة تشكيل الوفد من الداخل والخارج بما فيها القدس، وحق تشكيل الوفد يعود لمنظمة التحرير الفلسطينية، حضور القدس موضوعاً وتمثيلاً، ضمان وقف الاستيطان مع بداية أعمال المؤتمر، لكن وبعد ثلاث ساعات فقط من انتهاء الاجتماع علمنا أن بيكر قد أعلن أن فيصل الحسيني سلمه لائحة بأسماء الوفد الفلسطيني مكونة من (7) أعضاء داخل الوفد الأردني ـ الفلسطيني + (7) خارج الوفد المشترك والكل من الضفة والقطاع وفق المعايير الأمريكية ـ الإسرائيلية الليكودية، وهكذا ذهب جناح فتح ومن حوله إلى مؤتمر مدريد وفق صيغة ورقة الدعوة الأمريكية، في الإطار السياسي والتمثيلي والتفاوضي خلافاً لقرارات مؤسسات منظمة التحرير الفلسطينية (القيادة الفلسطينية، المجلس الوطني، المجلس المركزي)، وبدأ ركضه وراء سراب رحلة الأوهام الأوسلوية.
عشر سنوات على أوسلو
النهاية التي وضحت منذ البداية
( 2/ 2)
بقلم: نايف حواتمه
النزول عند الشروط الأمريكية وقبول جناح اليمين ويمين الوسط المتنفذ في منظمة التحرير الفلسطينية المشاركة بمؤتمر مدريد وفق صيغة الورقة الأمريكية في إطارها التفاوضي والتمثيلي أتت بقرار منفرد، ومهدت لذلك بخروج صارخ عن كل قرارات الإجماع الوطني الفلسطيني، بدءاً من ما ورد في المؤتمر الصحفي لعرفات 14 كانون أول/ ديسمبر 88، وصولاً إلى 18 تشرين أول/ أكتوبر 1991 يوم تبيلغ الحسيني لجيمس بيكر لائحة بأسماء الوفد الفلسطيني المفاوض، الذي شكل ضمن الأسس والشروط التي حددتها الإدارة الأمريكية. لم يستسلم الشعب لهذا الارتداد والتراجع عن القرارات الوطنية للمجلسين الوطني والمركزي، ولم يستسلم التيار الوطني الواقعي لهذا "الانقلاب السياسي على القواسم المشتركة وعلى الائتلاف الوطني العريض"، الذي بنى منظمة التحرير الفلسطينية وطور برنامجها السياسي. واصلنا سياسة "الأطواق" الوطنية لوقف التدهور، ودعونا القيادة الموحدة للانتفاضة للنضال من أجل "انتزاع شرط وقف الاستيطان، وحضور القدس التمثيل الموحد للشعب" تعبيراً عن برنامجها (الحرية والاستقلال وليس الحكم الذاتي المحدود للسكان) وبالتزامن مع الدفاع عن قرارات المجلس الوطني المركزي لتطويق سياسة الصفقات السريّة المدمرة والبعيدة عن قرارات مؤسسات منظمة التحرير الفلسطينية، وواصلنا الجهد مع العواصم العربية للربط بين مسارات الحل بين الوطني والقومي على قاعدة الشرعية الدولية، وفي هذا السياق جاءت اللقاءات على مدى أشهر قبل "مؤتمر السلام" مع عواصم عربية عديدة، وخاصة الأردن وسوريا ولبنان، حيث الأراضي العربية المحتلة، والترابط بين القضية الفلسطينية، والمصالح العربية من المسؤولية القومية المشتركة إلى حقوق اللاجئين والنازحين بالعودة وفق القرارين الأمميين 194 ـ 237، إلى مشاريع التهجير والتوطين والأوطان البديلة. وفي كل حواراتنا كنا نؤشر إلى المصير المأساوي للقدس العربية كلما تم تأجيل البحث بها، فالتهويد المتسارع زاحف وبالتأهيل خمس سنوات أخرى تصبح أرض القدس مهودة، ومصير القدس في مهب الريح.
ظل اليمين ويمين الوسط في منظمة التحرير الفلسطينية يعيد إنتاج تبرير التنازلات بعد حرب الخليج تحت شعار دفع فاتورة الرهان الخاسر على جواد العاصمة العراقية كما كان يقول عرفات، أو كما قالوا له، وانهيار التضامن العربي، ولم يتمكن من التسلح بقرارات مؤسسات منظمة التحرير الفلسطينية الائتلافية المشتركة، والشرعية الدولية لتبرير التراجع عند شروط بيكر/ شامير في لحظة اختلت فيها المعادلة لهذه الشروط، كان فيها التضامن العربي ممزقاً تحت وقع ما جرى في حرب عاصفة الصحراء. لم تكن هذه النتائج المرّة "قدراً محتوماً" على المستوى الوطني العام والعربي والدولي، فهذه النتيجة هي نتاج عمليات التأهيل للجناح المتنفذ في منظمة التحرير الفلسطينية على مساحة سنوات ما بعد الغزو الشامل للبنان، وخروج قوات المقاومة والانشقاق الكبير في فتح، والتي تكثفت عشية وبعد الانقلاب السياسي في المجلس الوطني الفلسطيني في الجزائر أيلول/ سبتمبر 1988. ولم تتوقف عمليات التأهيل والانقلابات السياسية عبر القنوات السرية قبل حرب الخليج الثانية وبعدها، ثم اندفع اليمين ويمين الوسط بعد جولة بيكر الثالثة، بعد فشله في جرّ كل الائتلاف الوطني ومؤسسات منظمة التحرير الفلسطينية إلى سياسته الانقلابية الفئوية.
وكان ممكناً بالتأكيد المشاركة في مؤتمر مدريد على أسس تفاوضية وتمثيلية في إطار قرارات الشرعية الدولية مثل الأردن وسوريا ولبنان، وعلى قاعدة الرئيس بوش الأب 242 ـ 338 والأرض مقابل السلام وبمرحلة واحدة، لكن الجناح اليميني في منظمة التحرير الفلسطينية ضيع هذه الفرصة على شعبنا والعرب، وقبل المشاركة على أساس ورقة الضمانات الأمريكية، وضمن الإطار التفاوضي والتمثيلي الذي فرضته الولايات المتحدة الأمريكية، وقد كشف جيمس بيكر في مذكراته (أنه لم يكن ممكناً للدول العربية المجيء لمؤتمر السلام والمفاوضات الثنائية المباشرة بدون الفلسطينيين) مذكرات جيمس بيكر، مكتبة مدبولي، القاهرة، 1996.
مدريد فصل المسارات
أخطر ما حملته صيغة الدعوة بالإضافة إلى شكل الإطار التفاوضي والتمثيلي للجانب الفلسطيني هو فصلها لمسارات الحل بحيث تتمكن "إسرائيل" من الاستفراد بكل طرف على حده، وجاء في صيغة مؤتمر مدريد: جلسة واحدة افتتاحية وبعدها كل مسار يأخذ دورية وحيداً لا رابط بين المسارات، ولذا لا حقّ بيد الذين يتساءلون الآن عن تشظي صيغة مدريد، فمؤتمر مدريد تأسس على مايلي:
• تطبيق القرارين الأمميين 242 ـ 338 على المسارات الأردنية والسورية واللبنانية (إضافة للقرار 425)، وهذا ما تؤطره رسائل الدعوة الأمريكية ـ السوفيتية المشتركة للدول الثلاث و"إسرائيل".
• مفاوضات ثنائية مباشرة وعلى مرحلة واحدة وصولاً لتسوية ثنائية شاملة، وخاصة مع كل دولة عربية على حده و"إسرائيل"، ولا ترابط بين مسارات الحل الأربعة، ولذا أصرت حكومة "إسرائيل" منذ اتفاقيات الهدنة (عامي 1948 ـ 1949) وحتى الآن على المفاوضات والحلول الثنائية المباشرة، ورفضت دائماً التفاوض مع وفد عربي مشترك.
• فك ارتباط كل جبهة عربية بالقضية الفلسطينية، وفك ارتباط المسألة الفلسطينية بالمفاوضات العربية ـ الإسرائيلية.
أما على الجبهة الفلسطينية ـ الإسرائيلية:
• مفاوضات على مرحلتين: مرحلة الحكم الذاتي لسكان الضفة والقطاع، دون سيادة سياسية على الأرض، والحكم الذاتي مدته خمس سنوات، والمرحلة الثانية (الوضع الدائم) يبدأ بالتفاوض عليها بعد بدء السنة الثالثة من الحكم الذاتي، وتأسيس هذا على كامب ديفيد (الحكم الذاتي للسكان، ومشروع شامير).
• لا حضور للقدس موضوعاً وتمثيلاً في كل مرحلة مفاوضات وفترة الحكم الذاتي، ولا تعهد بوقف الاستيطان.
• النازحون بلجنة رباعية (إسرائيل، سلطة الحكم الذاتي، الأردن، مصر) وبدون مرجعية القرار الأممي 237، بل وفق ما تتفق عليه الأطراف الأربعة، ولذا بعد عشر سنوات كاملة على مدريد لم تتفق لجنة النازحين على تعريف من هو النازح ؟!
• اللاجئون في إطار اللجنة المتعددة الأطراف تحت سقف ورقة الدعوة الأمريكية ـ الكندية لتأهيل اللاجئين (أي المعالجة الاجتماعية) بدون مرجعية القرار الأممي 194. وفعلاً تم رفض إدراج القرار 194 على جدول أعمال لجنة اللاجئين، وكل الذي دار ويدور حتى يومنا في إطار (التأهيل، الإسكان، الظروف الاجتماعية).
• اللاجئون مع أقطار اللجوء (الأردن، سوريا، لبنان) في إطار القانون الدولي باعتبارها قضية ثنائية إقليمية بين كل من أقطار اللجوء وإسرائيل (وهذا ورد في الاتفاقية الإسرائيلية ـ الأردنية) وليس في إطار القرار 194 باعتبارها قضية حقوق وطنية وسياسية فلسطينية، عملاً بالقرار 194 القاضي بحق عودة اللاجئين إلى وطنهم، أو تعويض من لا يرغب بالعودة.
• القدس الأرض (المصير والسيادة) الحدود، المياه كلها مؤجلة لمرحلة مفاوضات الحل الدائم، وبهذا فإن القرارين 242 ـ 338 وعدم جواز الاستيلاء على أراضي الغير بالقوة، ومبدأ الأرض مقابل السلام (أي مبادرة بوش) كلها غائبة عن مسار المفاوضات الفلسطينية ـ الإسرائيلية في مرحلة الحكم الذاتي للسكان، وتسلم الصلاحيات الستة المدنية. وبذات الوقت لا وقف للاستيطان، وسياسة خلق الأمر الواقع لتغيير الطابع الجغرافي والديمغرافي للضفة المحتلة بما فيها القدس وكذلك قطاع غزة، واعتبار كل الأرض المحتلة أرض "متنازع عليها عملاً بأسس مدريد واتفاقات أوسلو" والبناء عليها في كامب ديفيد2، في حين وضعت مسألة معالجة قضية اللاجئين في قطاع غزة والضفة، كما في الشتات في إطار اللجنة المتعددة الأطراف.
اتفاق أوسلو ـ تراجع عن مسار مفاوضات مدريد/ واشنطن
مثل اتفاق أوسلو 1 ـ 2 ترجمة ناقصة "لممر" مفاوضات الحكم الذاتي في واشنطن، ولكن من وراء ظهر الدكتور حيدر عبد الشافي وفريقه بعد أن دخلت مفاوضات واشنطن في استعصاء تحت ضغط المعارضة الجماهيرية في الوطن والشتات، والمساءلة لفريق المفاوضات من شعب الانتفاضة، ومحاولات د. عبد الشافي الربط بين عناصر الحكم الذاتي، ووقف الاستيطان. في الجولة الثانية قدم الفريق "الإسرائيلي" مشروعه للحكم الذاتي للسكان، وفي الجولة الرابعة أخذ د. حيدر عبد الشافي يطالب القيادة بتعليق المفاوضات إلى حين وضع استراتيجية تفاوضية موحدة وتوحيد البيت الفلسطيني، ووقف الاستيطان. ولكن دعواته ذهبت أدراج الرياح في تونس، واستمر عرفات، واصل السير في طريق مفاوضات القنوات السرية، وتم تعطيل الجولة السادسة بطلب من حزب العمل مع مركز القرار الانفرادي في تونس، حتى لا يستغلها شامير في انتخابات الكنيست الجارية، ووقع ذلك فعلاً، وعندما نجح حزب العمل في انتخابات يونيو 1992 واصل رابين ذات السياسة، فلقد كانت له خارطة لحدود توسع الدولة أوسع مما يطرحه حمائم العمل وميرتس، ولذا أعلن تمييزه بين مستوطنات وخطوط أمنية ضرورية "لإسرائيل" وأخرى سياسية لا ضرورة لها، كما أعلن في برنامجه الانتخابي بأنه سيحقق الحكم الذاتي للسكان دون سيادة على الأرض خلال تسعة أشهر، وهذا ما تم فعلاً بالقنوات السرية بين تل أبيب وفريق تونس من وراء ظهر فريق د. عبد الشافي في واشنطن، ومن وراء ظهر كل مؤسسات منظمة التحرير والائتلاف الوطني العريض.
انعقدت مفاوضات أوسلو تحت عنوان "ندوة الموارد البشرية تنظمها الفافو" في فيلا منعزلة في سارسبورغ على مقربة من أوسلو، وجدول المفاوضات خيار غزة ـ أريحا أولاً، وخطة مساعدات دولية للضفة الغربية وغزة، تعاون اقتصادي متين بين "إسرائيل" وسلطة الحكم الذاتي، وسارت الأمور منذ الجولة الثانية وقدم الفريق الإسرائيلي ثلاثة مشاريع:1 ـ مسودة إعلان المبادئ.2 ـ خطوط عريضة لخطة مارشال لتنمية الضفة والقطاع. 3 ـ التعاون الاقتصادي الإسرائيلي ـ الفلسطيني وبرنامج العمل.
استعصاء مفاوضات واشنطن دفع حكومة رابين ـ بيريس لتفعيل وتسريع قناة أوسلو الخلفية، التي كان الغائب الأكبر فيها مؤسسات منظمة التحرير الفلسطينية، في 19 آب/ أغسطس 1993 ثم التوقيع بالأحرف الأولى على اتفاق أوسلو 1. وقعه عن الجانب الفلسطيني أحمد قريع، ومن الجانب "الإسرائيلي" أوري سافير ويوئيل زينغر وهولست وزير خارجية النرويج كشاهد. ورفض بيريز التوقيع، أو إلقاء كلمة قبل عرضها على الكنيست. استقبلت الإدارة الأمريكية بارتياح كبير إعلان أوسلو، ولذا تبنت الإعلان في واشنطن بكرنفال استعراضي دولي وألغت تجميدها للحوار مع منظمة التحرير الفلسطينية بطلب من بيريس الذي التقى سراً وارن كريستوفر ودينس روس في كاليفورنيا بقاعدة عسكرية بعيداً عن الأضواء، لمس فريق واشنطن (عبد الشافي) بأنه كان حصان طروادة، لذلك قدموا استقالاتهم واستقالت أكثرية اللجنة التنفيذية، ولم يتمكن عرفات من عقد أي اجتماع لها حتى عام 1996 وتشكيل لجنة تنفيذية أخرى. وفور توقيع اتفاق أوسلو في واشنطن 13/9/1993 انسحبت فتح وحزب الشعب من القيادة الوطنية الموحدة للانتفاضة عملاً بالرسائل المتبادلة بين عرفات ورابين، وتراجعت انتفاضة الشعب إلى خندق الانتفاضة المغدورة، وفشلت جهود الديمقراطية والشعبية مواصلة الانتفاضة في ظل الانقسام الرهيب في صف الشعب والقيادة الموحدة للانتفاضة، وبذلك أطلق اتفاق أوسلو1 الرصاصة الأخيرة على صيغة مدريد صيغة التجاور والتنسيق العربي بحدوده الدنيا، والمعتمد على النوايا فقط، ووضع نهاية للأمل بدفع وتطوير صيغة التحاور، وانتهت صيغة مدريد واشنطن.
مدريد استعصاء ومن ثم سقوط
بعد سبع سنوات تقريباً من توقيع اتفاق أوسلو وصل إلى الطريق المسدود في مباحثات كامب ديفيد (تموز/ يوليو 2000). بعد أن استطاعت "إسرائيل" أن تغرق المفاوضات بالتفاصيل التفاوضية الصغيرة، وفي ظل استفراد الولايات المتحدة الأمريكية بالقضية الفلسطينية ورفضها أي تدخل للأمم المتحدة وفرض أسس تتيح للطرف الإسرائيلي الأقوى فرض شروطه على الطرف الفلسطيني الأضعف، خارج إطار الاعتراف المسبق بأي حق وطني فلسطيني، وخارج إطار اعتبار الوجود "الإسرائيلي" في الضفة والقطاع احتلالاً، واعتبار مرجعية المفاوضات ما يتم الاتفاق عليه وليس تنفيذ قرارات الشرعية الدولية، وإحلال الحلول الأمنية محل الحلول السياسية، وأمام تواصل زحف الاستيطان وتهويد القدس ومطالبة "إسرائيل" بشطب حق العودة، وضم مساحات واسعة من الأراضي الفلسطينية المحتلة، والمراوحة عند حدود القبول بسيادة فلسطينية منقوصة في السيادة على الأرض والحدود والمياه، سقط اتفاق أوسلو 1 ـ 2 والمفاوضات التي تلته في كامب ديفيد2 وطابا (تموز/ يوليو ـ آب/ أغسطس 2000) لأنها بنيت على برنامج فئوي انفرادي غابت عنه قرارات الشرعية الدولية والأسس التي تحددها قرارات الإجماع الوطني الفلسطيني المستندة لسلام الشرعية الدولية، التي تؤطر نضالات شعبنا وقواه الحية والمقاومة في سبيل انتزاع حقوقه الوطنية المشروعة، وغياب المرجعيات الوطنية والدولية.
نهضت الانتفاضة الجديدة رداً على وبديلاً عن بؤس سياسات عشرية أوسلو البائسة، وقدمت الانتفاضة راية "برنامج الحرية والاستقلال" وعناصر الوحدة الميدانية للخلاص من الاستيطان والاحتلال، ولكن أهل أوسلو لم يستفيدوا من سنوات القحط الأوسلوي، التي أضرت كثيراً بقضية شعبنا، لم يستخلصوا الدروس والعبر حتى نعيد معاً بناء عناصر القوة الفلسطينية ببرنامج سياسي جديد وموحد، عملي واقعي برنامج الشرعية الدولية، وقيادة وطنية موحدة وحكومة وحدة وطنية، لذا نراهم قد عادوا مرة أخرى إلى ثابت سياساتهم مع انطلاق العملية التسووية التي جاءت مع إعلان خارطة الطريق.
الآن الشعب والوطن، الانتفاضة والمقاومة، الكل مهدد بمشروع شارون الدموي التوسعي، مشروع "دعوا الجيش ينتصر"، وعلى الضفة الأخرى مشروع حكومات سلطة اللون الواحد وتناتش الصلاحيات بين رئيس السلطة ورئيس الحكومة، بعيداً عن برنامج موحد وقيادة موحدة، فتعالوا جميعاً ومعاً لتصحيح المسار والمصير الفلسطيني ـ الفلسطيني.