|
الرحيل إلى المجهول/قبل العفو
آرام كربيت
الحوار المتمدن-العدد: 1968 - 2007 / 7 / 6 - 08:40
المحور:
أوراق كتبت في وعن السجن
مر العام 1988 صعباً وقاسياً. الأكل محدود وقليل. نوعيته سيئة للغاية. كما لا يسمح للأهل أن يدخلوا الطعام في الزيارات إلى الجناح. كل شيء ممنوع. نذهب إلى المطعم ونأكل وجبة الغذاء فيه. لا يسمح لنا أن نأخذ طعامنا معنا. في الصباح لبنة وزيت طوال ثلاثة أعوام، وفي المساء بطاطا مسلوقة. نشتري زيت وبصل وبندورة عبر فاتورة السجن العام لسجن عدرا المركزي. الأكل بدون دسم على الأطلاق لفقدان المواد الغذائية في بلادنا نتيجة الحصار الدولي للنظام. كانت الأمراض المعدية متفشية بيننا لقلة المناعة كالأنفلونزة والرشح وألتهاب القصبات والبلعوم واللوزات. كذك نتيجة العدد الكبير في الجناح. بالاضافة إلى أمراض المعدة والكولون وغيرها من الامراض المزمنة. في هذا العام مات المهندس عبد المجيد أبو شالة. الذي اعتقل على خلفية أنتمائه إلى نقابة المهندسين. مات بسرطان المعدة. لدى أفرجوا عنه قبل أن يموت بشهر حتى يموت بين ذويه. كانت التطورات الدولية ترمي بثقلها علينا. الحرب الأيرانية العراقية.. الأنتفاضة في الاراضي المحتلة والحرب الاهلية في لبنان والحرب في افغانستان. تم ترحيل العديد من المعتقلين إلى سجن تدمر العسكري في قلب البادية السورية منهم إبراهيم بوزان / أبو محمود/ ومحمد عجيل / أبو عدنان/ وأبو مرعي وبعدهم بعام تم ترحيل نور الدين خليل وغيره. لم تكن لي زيارة نظامية مثل بقية السجناء. لهذا لم أرأبي وأمي وأخوتي. العلاقات الأنسانية في المهجع السادس/الإخوان المسلمين/ كانت هادئة. ومعاملتهم لي كانت جيدة وعلى قدرعالي من الأحترام المتبادل. المهجع الثاني عشر/المختلط/ أبسط. فيها شيء من البراءة والطيبة بالرغم من الفوضى والمشاكل المتداخلة والخناقات الكثيرة. لأن قسم كبير منهم دخل السجن في مرحلة المراهقة والطفولة. كنت أحسهم طيبون بالرغم من ثقل السنين التي على كاهلهم في سجن تدمر العسكري. لكن وجوههم كانت بشوشة عندما كنت أتكلم مع أحدهم. وجود سجناء الحق العام بيننا في المهجع الثاني عشر فرض علينا حالة من التوتر نتيجة تصرفاتهم اللأمسؤولة وطرقهم الهمجية في العيش.. وأسلوبهم التافه في التعامل مع الأخرين. مع إطلالة العام 1989 أنتقلت إلى المهجع الثاني.. مهجع الحزب الشيوعي /المكتب السياسي/. كان المهجع هادئاً تماماً. العلاقات الشخصية فيها حدود عالية بالقياس إلى المهجع الثاني عشرأو غيره. بعد أسبوع من وجودي في هذا المكان أحسست بالغربة. غربة قاسية. غربة قاتلة. غربة تكاد تأكلني. الوجوه لا تضحك أبداً. قلت للمرحوم رضا حداد: ــ لماذا هذه الغربة العميقة بين رفاقنا. وتابعت: رفاقنا يتمتعون بثقافة عالية وعمق سياسي ومعرفي رائع.. أنهم متميزون حقيقة. لماذا خلقوا هذه العزلة والحدود العالية بينهم. تأفف ونظرإلى وجهي بحزن عميق وقال: ــ دعها لربك يا أخي. غداً. عندما تتخمر في السجن والمكان ستعرف سبب الغربة التي نحن عليها. بين رفاقي أحسست بالوحدة. لم أحس بالانتماء إليهم. الوجوه عكرة والأمزجة قاسية وحادة والحدود عالية.. مع أستثناءات. كنت أتساءل: لماذا هذه العلاقات معقدة لهذه الدرجة. كأنني أمشي في حقل ألغام. أحسست أن الدنيا مظلمة في عيني. وإنني في المكان الخطأ. أحس بالحزن يأكل قلبي وروحي. أقول في سري: لماذا كل هذه القسوة. لماذا هم جلفون لهذه الدرجة. في هذه الأجواء المشحونة تصبح الحياة لا تطاق على الاطلاق. كيف سأعيش، وكيف ستمضي الايام، ولا يوجد في الأفق ما يشير إلى قرب خروجنا من السجن. إذاً ما هو الحل. علاقاتي مع المهجع محدودة. مقتصرة على التعامل اليومي المباشرة مع الذين فيه.. كالحمام والطبخ والأكل والشرب وتنظيف المهجع. بقيت وحيداً. شعرت بآلآلم والحزن يعتصر قلبي وروحي. لم أكن أتحمل البقاء في المهجع. كنت أهرب إلى الممرأو الباحة أو إلى المهجع الرابع للقاء صديقي مشيل سيروب من مدينة الحسكة. أفرض على نفسي أن أظل بعيداً عن المكان. عندما كنت أذهب إلى المهجع الرابع أجلس على سريرالأخ ميشيل سيروب. أول شيء أعمله.. أطلب منه ان يسقني كأس شاي ساخنة. نغرق في الحديث عن الحسكة. نفرغ الطاقة الحميمية التي تجتاح قلبينا لبلدنا وأهلنا. نتكلم كثيراً.. نخرج الشحنة العاطفية لذلك الأشتياق العميق لكل ما يربطنا بالناس والأرض والمكان. نتكلم فنبعد المرارة والقهر الداخلي والشعوربالغربة من القلب. كنا بعيدون عن مسقط رأسنا وبيتنا مسافة ألف كيلومتر تقريباً كان على الأهل أن يقطعوا مسافة ألف كيلومترحتى يصلوا إلى دمشق. المشقة التي يتكبدوها في رحلتهم الطويلة والمصاريف الباهضة التي يتكبدوها عند نزولهم إلى شوارع العاصمة وفنادقها والطريق الطويل الذي يقطعوه من أجل الوصول إلى فروع الأمن ودق أبوابهم من أجل زيارة لا تسمن ولا تغني عن جوع. وفي كل مرة يخيب أملهم في الحصول على زيارة من أجل رؤيتي. كان والدي ووالدي في عمر متقدم. كانا يتكلفان مشقة السفر وعناه من أجل رؤيتي. كانت الأسر كلها مسجونة مع السجناء. كم كنت أتمنى لو أحد الناس أرسل لي هدية رمزية إلى السجن. طوال الثلاثة عشرة عاماً.. لم أسمع سلاماً من احدهم إننا نعيش في وطن بلا أجنحة. لم يكن لي سوى أن أحلم. كنا نذهب أنا زميشيل إلى البعيد. نذهب ولا نمل من تكرار الحديث عن أيام زمان. نتكلم عن دواليب محشوس وداؤود موريه والنواعير. الجسور.. والنادي الزراعي والتوسع العمراني. رحلاتنا إلى ضيع الخابور شباب وبنات. كيف كنا نحمل زواتنا في سلال من القش ونذهب إلى تل سكرة أوتل مساس أو تل الخريطة وغيرهم. نفترش الأرض والشجر. نغني ونصدح مع الهواء الطلق ورائحة البادية العطرة. نسبح ونلعب ونركض ونمارس ألعاب الحزازير الجميلة. .كنت أقول دائماً أن النهر العظيم هو حدود أيماني المطلق.. أنتمائي كناسك متعبد في محراب جمال وجوده بيننا. دائماً أكون عارياً أمامه. أغتسل في رحمته وبركته وأتبرك به ليخلصني من أدران الوجع. من أجل أن يحملني على كتفيه فوق الريح والمطر. عاشق أنا لحفيف شجره وترابه وهو يحملني دائماً في صدره الحنون. كنت أقول له: أنهار العالم كلها قزمة أمام الخابور. هكذا هو في نظري. كان غزيراً.. صافياً ونقياً. يرد علي ميشيل ويقول: ــ لكنهم يستجرون منه الكثير.. الكثير. هذا يقلل من غزارته. أرد عليه: ــ نعم منذ مجيء هؤلاء الحثالة.. رجال الأستبداد والقهر. أحس أن الخابوريتشوه. تتشوه عظامه وقلبه. زادت أعداد المحركات التي تستجر الماء أكثر من الحد المسموح به مما أثر على منسوبه. وأردف فأقول: ليس مهماً الخابوروالماء والأرض والحيوان.. المهم بقاء اليباب.. رجال الخراب.. رجال المجرم حافظ الاسد. يزرعون القطن بمئات الآلآف من الهكتارات دون مرجعية. الوطن تحول إلى ستارحديدي لممارسة كل انواع الموبقات من قبل الطاغية وأتباعه. في هذا العام مات رئيس التحقيق المركزي للأمن السياسي العميد أمين العلي في المرحاض. أصابته سكتة دماغية فوقع على حجرة المرحاض.. بينما كان يمارس الرياضة في إحدى الصالات. مات غير مأسوف عليه. عينوا بدلاً عنه ضابطاً برتبة عقيد أسمه محمود علقم. جاء هذا العقيد إلى الجناح في جولة برفقة مجموعة من ضباط الأمن السياسي. عندما مات أمين العلي جرى تنسيق مجموعة من أعوانه ونقلهم إلى فروع أخرى ومفارز أخرى. لقد أبتلينا بجلاد متوحش أسمه أبو أيمن. جرى تنسيقه من غرفة التحقيق والتعذيب ووضعه في جناحنا. كان وجهه قبيحاً. عليه هيئة المجرمين. راح يتفنن في إعادة أيام مجده إلى الوراء. يحاول تعذيب السجناء والمعتقلين. كان يختار الأضعف من السجناء ويدفعهم على تكنيس المفرزة والدرج والممربالإضافة إلى الأعمال الخدمية الأخرى. يضرب أحد السجناء لكي يُسمع الجناح. يتفنن في إدخال الخوف والرعب إلى قلوب السجناء. بل حاول أن يخلق من المعتقل فرع تحقيق أخر. الحقيقة لقد حول أيامنا إلى جحيم لا يطاق في تلك الفترة العصيبة من السجن أمتدت إلى سنة تقريباً. كنا متحفزين وعلى أعصابنا. كان لدى الكثير قرار بالرفض لطلبه في حال أراد إرغام أحدنا على السخرة. كنت أجهزنفسي كل ليلة للضرب في حال تعرض لي. لأنني كنت سارفض طلبه بالتأكيد. الكثير أيضاً كانوا يجاملونه من أجل إتقاء شره. كان متمرساً في التعذيب ولديه ذكاء وحدس قوي في معرفة الناس الضعيفة التي تقبل الخضوع. لهذا كان يختارها ليخلق جو من الخوف والتوتر والتحفز لدى الجميع. كان يحن للأيام الماضية. يبدو إنه لم يعد يستطع النوم دون أن يسمع صراخ أو آهات معذبة تتألم بالقرب منه. كان وحشاً على شكل هيئة بني أدم. في نيسان من هذا العام أنعقد مؤتمرالمحامين العرب في دمشق. كان النظام في عزلة دولية خانقة ويحتاج إلى هذا النوع من المؤتمرات من أجل أن يرفع من معنوياته الهابطة. أشترط أحمد خواجة رئيس أتحاد المحامين العرب على حافظ الأسد أن يفرج عن المحامين المعتقلين الموجودين في السجن. لقد قبل حافظ الأسد هذا الشرط وأمر بالافراج عن المحامين: عبد المجيد منجونة وثريا عبد الكريم وسليم/ أبو خالد/. في خريف هذا العام أنهارت أوربا الشرقية وجداربرلين وصار لدى الحميع إحساس كبير بأقتراب الخروج من السجن نتيجة أنتهاء الحرب الباردة. إن إعادة ترتيب العالم من قبل النظام العالمي وقائده المتمثل بالولايات المتحدة تعني ترتيب الأولويات. الأنفراج السياسي في داخل بلدان العالم الثالث واحد من هذه الأشياء. طوى عسكر أمريكا اللاتينية أذنابهم وعادوا إلى ثكناتهم.. وعادت اللعبة الديمقراطية إلى السطح. وفي أفريقية بدات ملامح كثيرة تشير إلى هذا الأمر. كان وضعنا من ناحية الأكل والشرب على ما هو عليه باستثناء إقامة مهجع خاص للقضائيين وفصلهم عن السياسيين وتقليص ساعات التنفس في الباحة. كما تم أستبدال العقيد محمود علقم بالعقيد عدنان محمود. مع إطلالة العام 1990 كان الجميع بحالة نفسية مقبولة لقرب عملية الأفراج.. هكذا كنا نحس! تم الأفراج عن مازن حميدان وأحمد سعدو وبهاء الدين رمضان وإبراهيم ولي عيسى من حزب العمل الشيوعي. يتبع .
#آرام_كربيت (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الرحيل إلى المجهول التحول
-
الرحيل إلى المجهول الوقت
-
الرحيل إلى المجهول في سجن عدرا
-
الرحيل إلى المجهول سجن عدرا
-
الحافلة البرتقالية
-
الرحيل إلى المجهول الترحيل
-
الرحيل إلى المجهول سجن الحسكة
-
الرحيل إلى المجهول غيض من فيض
-
الرحيل إلى المجهول التحقيق
-
الرحيل إلى المجهول 1
-
الحب.. وأشياء أخرى
-
الهرم
-
تحت ظلال بادية تدمر
-
الدولة والمجتمع وفق منظورأخر
-
بعد المعركة الطويلة على لبنان
-
الثائر.. الملك السويدي كوستاف الأول
-
النظام الدولي وآلياته
-
غرفة التحقيق
-
النظام العربي
-
ظلال الوقت
المزيد.....
-
أول وزير خزانة مثلي الجنس.. ماذا نعلم عن الملياردير سكوت بيس
...
-
مقتل واعتقال 76 ارهابيا في عملية فيلق القدس بجنوب شرق ايران
...
-
-الدوما-: مذكرة الجنائية الدولية لاعتقال نتنياهو ستكشف مدى ا
...
-
الداخلية الفنلندية توقف إصدار تصاريح الإقامة الدائمة للاجئين
...
-
الإعلام الإسرائيلي يواصل مناقشة تداعيات أوامر اعتقال نتنياهو
...
-
هذه أبرز العقبات التي تواجه اعتقال نتنياهو وغالانت
-
الأمم المتحدة: إسرائيل منعت وصول ثلثي المساعدات الإنسانية لق
...
-
مقارنة ردة فعل بايدن على مذكرتي اعتقال بوتين ونتنياهو تبرزه
...
-
كيف أثر قرار إصدار مذكرات اعتقال بحق نتنياهو وغالانت على دعم
...
-
سفير ايران الدائم بالأمم المتحدة: موقفنا واضح وشفاف ولن يتغي
...
المزيد.....
-
١-;-٢-;- سنة أسيرا في ايران
/ جعفر الشمري
-
في الذكرى 103 لاستشهادها روزا لوكسمبورغ حول الثورة الروسية *
/ رشيد غويلب
-
الحياة الثقافية في السجن
/ ضرغام الدباغ
-
سجين الشعبة الخامسة
/ محمد السعدي
-
مذكراتي في السجن - ج 2
/ صلاح الدين محسن
-
سنابل العمر، بين القرية والمعتقل
/ محمد علي مقلد
-
مصريات في السجون و المعتقلات- المراة المصرية و اليسار
/ اعداد و تقديم رمسيس لبيب
-
الاقدام العارية - الشيوعيون المصريون- 5 سنوات في معسكرات الت
...
/ طاهر عبدالحكيم
-
قراءة في اضراب الطعام بالسجون الاسرائيلية ( 2012) / معركة ال
...
/ كفاح طافش
-
ذكرياتِي في سُجُون العراق السِّياسِيّة
/ حـسـقـيل قُوجـمَـان
المزيد.....
|