من حق الولايات المتحدة الأمريكية ، وسائر الدول الحائزة على عضوية نادى الأغنياء وأهل القمة المتربعين على عرش النظام العالمى القديم والجديد ، ان تتحدث عن " فشل " المؤتمر الوزارى الخامس لمنظمة التجارة العالمية الذى عقد مؤخراً فى مدينة كانكون المكسيكية .
فهؤلاء قد " فشلوا " فعلاً فى تمرير سياساتهم وفرض مطالبهم على باقى دول المنظمة ، التى يبلغ عدد أعضائها 148 دولة ، اكثر من 90% منهم تنتمى الى البلدان " النامية " .
اما الأمر الغريب حقاً ، وغير المفهوم بالفعل ، فهو ان يستخدم ابناء العالم الثالث ، ومنهم مصريون وعرب ، نفس التعبيرات التى تتحسر على " فشل " مؤتمر كانكون .
فى حين ان هذا المؤتمر شهد " انتفاضة " حقيقية من الدول النامية ضد غطرسة الغرب الغنى .
وشاركت فى هذه " الانتفاضة " 21 دولة من بينها مصر والصين والهند والبرازيل ، وهى دول تضم اكثر من نصف تعداد البشرية ، ونحو ثلثى المزراعين فى العالم .
وكانت الصخرة التى تحطمت عليها المفاوضات والمساومات فى كانكون هى مسألة الدعم الذى تقدمه الدول الغنية لمزراعيها ، وبالذات دعم القطن ، وهو الدعم الذى يصل الى مليار دولار يوميا ، ومن جرائه تعجز البلدان النامية عن المنافسة فى السوق العالمى .
تـحــالــف الفــقــراء
والأرجح ان نادى الدول الأكثر غنى كان يتوقع ان تنهار مقاومة البلدان النامية ، التى أصبحت كالأيتام على مائدة اللئام فى ظل العولمة وطوفان امركة العالم ، وفرض المشيئة الإمبراطورية الأمريكية على سائر خلق الله .
وكانت المفاجأة التى لم يتوقعوها – على الأقل بهذا الحجم وبهذا الإصرار – فى كانكون ، هى تبلور هذا التحالف الجديد ، الذى يمكن تسميته بـ "تحالف الفقراء" .
وبالطبع فان " اهل القمة " لم يقفوا مكتوفى الأيدي أمام هذا التحالف "المتمرد" ، بل حاولوا شق صفوفه بشتى السبل ، وبمختلف الأسلحة ، بما فى ذلك سلاح الرشوة !
فقد وجهت وكالة " اكشن ايد " الدولية للإغاثة الاتهام الى الوفد الامريكى فى كانكون بمحاولة تضليل الدول الفقيرة والاستئساد عليها لإجبارها على الانسحاب من مجموعة الـ 21 .
بل ان نفس الوكالة مضت ابعد من ذلك واتهمت الممثل التجارى للولايات المتحدة الامريكية ، روبرت زوليك ، بانه حاول رشوة بعض الدول لكى تنسحب من المجموعة عبر تقديم حوافز تجارية لها . وخصت بالذكر كوستاريكا والسلفادور وجواتيمالا وقالت ان هذه الدول الثلاث تلقت عروضا بحصص تجارية اكبر فى حالة انسحابها من " تحالف الفقراء " .
استـــغراب غــريـب !
ورغم ان الناطق باسم الوفد الأمريكي قال ان "هذا اتهام شنيع لا أساس له" فان نائب الممثل التجارى الامريكى ، بيتر الجيير ، حاول تسفيه فكرة تحالف البلدان النامية قائلا " ليس من الواضح لنا ما هو المبدأ الذى يوحد صفوف تلك البلدان " .
وهو استغراب يبعث على الدهشة والاستغراب فعلاً لان الدعم الذى تقدمه البلدان الغنية لمزراعيها ، والذى يزيد عن ستة أضعاف ما تقدمه للدول الفقيرة فى صورة " مساعدات " ، يتكفل – وحده – بإقصاء البلدان النامية من المنافسة فى السوق العالمى للمنتجات الزراعية . وهذه مسألة واضحة وضوح الشمس ، وتمثل مصلحة مشتركة لبلدان مجموعة الـ 21 ، فلماذا استغراب السيد بيتر الجيير ؟!
وبطيعة الحال فان محادثات منظمة التجارة العالمية فى المكسيك لم تتحطم فقط على صخرة الدعم الزراعى ، بل كانت هناك اسباب اخرى ، من أبرزها ما يسمى بـ " قضايا سنغافورة " التى تنصب على كيفية تعامل شتى الدول مع المستثمرين الاجانب وسياسات المنافسة .. الخ .
تـمـــرد الضـعـفاء
ورغم ان البلدان النامية لم تحقق أهدافها الرامية الى تبنى وجهات نظرها خاصة فيما يتعلق بالدعم الزراعى فانها أظهرت – لاول مرة منذ فترة طويلة – "اتحادا فى ممارسة الضغط" على حد تعبير وزير خارجية البرازيل ، واظهرت ان " الدول النامية لم تعد تتلقى الأوامر " على حد تعبير وزير التجارة الماليزي .
الجديد هنا هو تبلور هذا " التحالف " الجديد الذى يعبر عن إرادة جماعية للتصدى للابتزاز وسياسات الاملاء ولى الذراع التى دأبت الدول الغنية على ممارستها فى السنوات الأخيرة ، بالتوازي مع صعود النزعة الإمبراطورية الرامية لامركة العالم وفرض الهيمنة الامريكية على سائر القارات .
وهذا التحالف "المتمرد" لم ينشأ فى كانكون من فراغ أو بالصدفة ، بل إن ارهاصاته قد ظهرت منذ سنوات ورصدنا بعض امثلتها من قبل ، وكان من أبرز تجلياتها التى أسهبنا فى الحديث عنها على هذه الصفحة "روح باندونج" التى تعود بصورة حثيثة.
كما كان من أمثلتها التى لا نكف عن رصد ملامحها تلك الحركة المدنية "الكوكبية" ، التى يمكن تسميتها بـ "العولمة البديلة" ، وتضم شبكة من آلاف مؤلفة من المنظمات الأهلية من سائر أنحاء العالم ، ضد "العولمة المتوحشة".
هذه "العولمة البديلة" شدت الأنظار بقوة فى سياتل ، وكانت أحد أسباب فشل الاجتماع الوزراى لمنظمة التجارة العالمية الذى عقد بهذه المدينة الأمريكية الغنية عام 1999.
وكاد هذا المصير نفسه أن يتكرر فى الاجتماع الوزارى للمنظمة الذى عقد فى الدوحة عام 2001 ، لولا المناورات الكثيرة التى وصلت إلى حد اللعب بالبيضة والحجر ، والثلاث ورقات ، لدرجة أن نتائج مؤتمر الدوحة لم يتم إعلانها إلا بعد 24 ساعة من انتهاء أعمال المؤتمر رسميا، وبعد مغادرة معظم رؤساء الوفود لتك الدولة الخليجية.
ضمـــير العــالـــم
وربما اعتقد الأمريكيون أن سياساتهم العدوانية فى العراق ، بعد أفغانستان، كفيلة بإخماد أى مقاومة ، عملاً بالمثل القائل "اضرب المربوط يخاف السايب"، لكنهم نسوا أن نفس هذه السياسات العدوانية الخارجة على الشرعية الدولية كانت أحد أسباب تشكيل رأى عام عالمى تعاظم بصورة غير مسبوقة فى تاريخ البشرية ، حتى أن صحيفة أمريكية ، مثل نيويورك تايمز ، لم تملك إزاء ضخامته وتزايد تأثيره، سوى أن تقول بأن العالم المعاصر أصبحت به قوتان عظميان : الولايات المتحدة والرأي العام العالمى.
ويبدو أيضاً ان الأمريكيين قد نسوا ، او تناسوا، أن الرهبة التى حاولوا وضع العالم بأسره تحت جبروتها وسطوتها طيلة السنوات الماضية ، قد بدأت تفقد قدراً لا يستهان به من تأثيرها تحت وقع ضربات المقاومة الوطنية العراقية التى تسددها يومياً إلى قوات الاحتلال الأمريكية المدججة بأحدث الأسلحة وأكثرها فتكاً.
ثم إن ما هو أقوى من ذلك كله هو قسوة الواقع نفسه ، حيث 20% من الأغنياء يسيطرون على 80% من ثروات العالم ، وحيث الدول الخمسين الأكثر فقراً والتى تضم نحو 10% من البشر، لا تسيطر إلا على أقل من نصف فى المائة من التجارة الدولية ، وحيث يعيش نحو 100 مليون شاب فى الشوارع ، وحيث يموت كل عام ما يزيد على 585 ألف امرأة حامل ، وتعانى 7 ملايين امرأة من مشاكل صحية خطيرة كما تعانى 50 مليون امرأة من آثار صحية مختلفة نتيجة الولادة ، وتجرى نحو 20 مليون عملية إجهاض غير مأمونة فى البلدان النامية كل سنة ، يموت خلالها حوالى 70 ألف امرأة ، اى 13% من مجموع وفيات الأمهات فى العالم.
هذا هو الأساس الموضوعى لقيام "تحالف الفقراء" الذى يتساءل نائب الممثل التجارى الأمريكي عن سبب قيامه ، معرباً عن استغرابه من السبب الذى يمكن أن يجمع بينهم!
عـــودة العــقـلانـــية
وقد كان مما يبعث على الاستغراب فعلاً أن يكون هذا الخلل الفادح فى النظام العالمى قائماً بينما البلدان النامية التى تدفع ثمن هذا الخلل صامتة ومستسلمة.
.. والآن .. ومع نبذ هذه السلبية ، نبذ النواة ، تستعيد البشرية عقلها ومنطقها وحسها السليم ، وتبدأ رحلة جديدة من التاريخ الإنساني .
ونحن فى مصر لسنا بعيدين عن هذه العملية التاريخية، بل نحن فى القلب منها ، ليس فقط بحكم انتمائنا للبلدان النامية يصيبنا ما يصيبها ويفيدنا ما يفيدها، وليس فقط بحكم دورنا السابق فى حركة باندونج وعدم الانحياز ، وأنما أيضاً بسبب الثقة التى وضعتها فينا أغلب دول مجموعة الـ 21 فى كانكون ، وهى ثقة غالية يجب ألا نخذل من أولانا إياها.
ولا أبالغ اذا قلت أننا أهل لهذه الثقة ، فلدينا من التجارب ومن الكوادر البشرية المتمرسة ما يؤهلنا لان نلعب دوراً رائداً بهذا الصدد.
وعلى سبيل المثال ، فان السفير المصرى الدكتور منير زهران ، الذى يوجد بمقر الأمم المتحدة حالياً مقدما خبراته الدبلوماسية للجنة الاستشارية لقضايا الإدارة والميزانية (ACABQ) ، يعد أحد أهم المفاوضين الدوليين فى قضايا العلاقات الاقتصادية الدولية ، وأحد أبرز المدافعين عن مصالح البلدان النامية المتمرسين بكشف ألاعيب الدول الكبرى فى مثل تلك المؤتمرات والمنظمات .
وأدعو بهذه المناسبة لاستدعائه وتكليفه بهذا الملف الخطير.
وليس منير زهران هو المثل الوحيد ، فهناك غيره العشرات والعشرات من الكفاءات المصرية التى يمكن أن تلعب دوراً بارزاً فى الدفاع عن مصالح مصر التى لا تنفصل عن مصالح البلدان النامية فى هذه الغابة الدولية.
ونقطة البدء أن ندرك أن مؤتمر كانكون لم تكن حصيلته هى "الفشل"، بل كانت بالأحرى عودة الروح وتدشين تحالف جديد يفيد أكثر من نصف البشر ، وثلثى مزارعي العالم ، وربما يستطيع أن يعيد كتابة تاريخ هذا الكوكب المنكوب والمختل، مع العلم بان القوى الكبرى لن تتوقف عن محاولة تفكيكه والانفراد بالدول المنضوية تحت لوائه ووضعها على قرنى الإحراج .. بين الترهيب والترغيب .