|
واختفى الكاتب والحمامة
عبد العزيز نايل
الحوار المتمدن-العدد: 1965 - 2007 / 7 / 3 - 06:04
المحور:
الادب والفن
تهيأ للكتابة بعد أن اغتسل وارتدى عباءته البيضاء الفضفاضةً ، وها هي منضدةُ الكتابةِ قد تهيأت له أيضا ، بعد أن قضى وقتا وهو يزيحُ من فوقها بقايا خبز قديم وأطباقٍ تراكمت على أجنابها ، ثم انتهى من تصنيف الأوراقِ المتناثرةِ عليها , والتي وجد في بعضها مفتتحاً لقصائدَ لم تكتمل وفي البعض الآخر وجد أفكارا مسجلة لمقالات قد لا ترى النور أبدا .فأحداث عالمنا ، تجري بسرعة فلا تنتظر التنقيح والمراجعات اللغوية في مقالاتنا ، لذلك لا نفهم إلا الماضي .....قالها و أسرع في تهيئة المناخ الملائم للكتابة ، لعله يستطيع في هذه المرة اللحاق بالحدث ، فكان لزاما أن يبدأ بمغازلة الفوضى الجاثمة على كل ركن حوله ، فما استجابت لرجائه ولا حتى لقدرته ، وها هي تُخرج لسانها له متشمتةً بمحاولاته الفاشلة في استحداث الجمال على المكان ، هذه الفوضى لن تتخلى عن مرافقته إلا إذا استحضر دولابا كبيرا ، لكي يجتمع فيه شمل ملابسه التي تتفرق هائمة في كل ركن من الغرفة ، وعلى المسامير التي امتلأت بها حوائطُ غرفته ، مصلوبةً بوسخ قديم وهو لا يجد وقتا لغسلها ، ثم تغاضى عامدا متعمدا ألا يقترب من هذه الكتبِ النائمةِ بعضها فوق بعض متلامسةً بأكتافٍ وأطرافٍ ، محترسا حتى من الهواء الذي تضخه المروحةُ أن يقترب من هذه الكتب فتميدُ وتتساقطُ فاضحةً هشاشةَ تنظيمها وترتيبها
،كان إصراره على الكتابة دافعا لأن يتجاهل كل شيء ، ويكفيه لأن يكتب هذه المساحة التي فرّغها من على طاولة الكتابةِ مكاناً على قدر أوراقه البيضاء والتي أعدها لمقاله ، في الجريدة الكبيرة ، ستُنشرُ المقالةُ لتؤسس لمفاهيم السلام الشامل بعد غدٍ ، احتفاء بمناسبة كبيرة عن السلام ، بعدها سيدفع إيجار غرفته ، وسيشتري مخزونا من الحبوب والأطعمة لكامل الشهر ، ثم يرسل لأولاده البؤساء والمختطفين لدى أمهم ، مبلغا بسيطا من المال ، فربما أحيا هذا الفعل صورة أب ميت في خيالهم وذكرياتهم ، جلس على طاولة الكتابة وقد عقد العزم ألا يبرح مكانه إلا منتهيا من المقال ، في منتصف الصفحة رسم العنوان رسما ، أطلق في المقدمة الجملة خلف الجملة كأفراس تتسابق مؤكدة حتمية العيش في سلام بين الشعوب ، فتنتفي الحروب والمنازعات وفصّل في ذلك تفصيلا ، ثم عرج على حتمية السلام بين الإنسان ونفسه لتنتفي كافة الإمراض مُفصِّلا في أن منشأ الأمراض جميعها في جسد الإنسان إنما هو راجع إلى الحروب الدائرة بين الخلايا والتي تعبر بدورها عن تناقضات بين النفس والعقل والروح والجسد ثم جاء الفصل الثالث في المقال عن السلام بين الإنسان والكون والطبيعة بكل ما فيها , وأي انتقاص في هذه المنظومة ، يعني أن الإنسان مازال تائها في عالمه الجديد بعد أن تنكر لطبيعته التي كانت ناعمة ومنعمةً في توحدها مع الطبيعة والكون ، بقيت جملة الختام ، شرع في تأليف الديباجة ، فأوقفته هذه الذبابة من الحجم الكبير ، وهي تطن طنينا رقيقا في أذنيه ، ثم تحط على ورقه ، وتنظف أيديها وأرجلها ، بدت مطمئنة وهي تفعل ذلك ، وعندما هش بها فارتفعت هاربة ، فوجدها تطير كالمجنونة بين نظارته وعينيه ، ولما أراد إبعادها عن عينيه ، أطار نظارته حيث طارت هي ، التقط نظارته ، وضعها على عينيه ليجد الذبابة مرة ثانية تنظف أرجلها ولكن لماذا بدت قلقة في هذه المرة فوق أوراقه , جرى حيث ، جمّع " الكراكيب " والأشياء المهملة على طاولة أخرى ، صار يلقي بالكراكيب على الأرض باحثا عن مضرب الذباب ، التقطه واستدار فإذا بالذبابة ما زالت موجودة على ورقه ، وفوق المقال تحديدا ، فكانت ضربته قاضية ، تمزقت الذبابة أشلاء في دمها ، طَمستْ دماؤها كلماتٍ من المقال ، لم يهتم ، فهو يقدر على استرجاعها أثناء مراجعته ، عاد إلى محاولة الكتابة ، أمسك بقلمه ، وقبل أن يتمكن من صياغة جملته التالية ، رأى ذبابا كثيرا ، وكان له طنينٌ عالٍ ، يحوم حوله ويهبط على الورق رآه يشم رائحة دماء الذبابة الكبيرة ، ثم يرتفع ليحوم في كل اتجاه ، فانفجر الكاتب غيظا ،و وقف محتدا , منتظراً إلى أن يهبط سربُ الذباب على الدماء ، فلما هبط على الورق ، أعمل مضربه على أجسادها قتلا وتمزيقا ، ثم وهو يجِّمع جحافل القتلى فوق مقاله ، تأمل مليا في الذباب الذي لم يمت و افتقد اجنحته ، وتأمل ذبابا أصابه بمضربه في نصفه الأسفل فالتصقت أمعاؤه على ورق مقاله ، جَّمع كلَّ الضحايا وأزاح بهم في "طفاية سجائره " تأسى كثيرا على مقاله وعلى كلمات وجمل كثيرة ، قد اختفت تحت الدماء والأعضاء المبتسرة ، وإذا به وهو واقف يتأمل الخسائر ، التي نتجت عن معركتين ، محدثةً ضياعا لكلمات كثيرة من كلمات السلام ، أفواج جديدةٌ من الذباب تتأتى من عقب " شيش " شباك غرفته فارتاع منها ، قفز فوق سريره رافعا للأعلى مضرب الذباب الملوث بالدماء ، رأى كل الذباب يهبط فوق المقال ، ذهب إلى كراكيبه ، احضر مضربه الثاني ، اقترب من صفوف الذباب المقاتلة ، وقد انتظمت صفوفا ، كل صف منها فوق سطر من سطور المقال ولم يتحرك لها ساكن ، وثب مقتربا منها ، مهتاجا ، ويضرب صفوفها ، فتتفجر بالدماء تحت مضربه ، قتل الجميع ، أفسد عليه انتصاره منظر الدماء التي طَمرت تحت لزوجتها كامل المقال ، صرخ قائلا يا لها من خطة ماكرة، إنها الأسراب الانتحارية ، فقد قَبِلتْ الموتَ فوق جميع اسطر المقال ، لتمحو بدمائها جميع الكلمات والمعاني للسلم والسلام ، وما تبقى من كلمات المقال رآه سابحا في لزوجة الدم الساخن ، ليسيل مع الدم السائل على ارض الغرفة العريانة ، ومَنْ !!! تبقى من كتائب الذباب ، أخذ يتطاير حول رأسه ، فمنه الذي يدخل إلى أذنيه ومنه الذي يدخل من تحت نظارته مستهدفا عينيه ، ومنه الذي يجلس على صلعته ، فيعتقد إنها أرادت أن تثقب رأسه ، فيتقلَّب في غرفته وبنفس مضربه يضرب فوق رأسه وعلى أذنيه وفوق نظارته لتسقط على الأرض فتنكسر ، التقط هاتفه ليرد على هذا الرنين المتواصل ، سمع صوت مدير التحرير للجريدة الكبيرة وهو يؤكد عليه ، أن يحاول جاهدا تسليم المقال غدا في الصباح الباكر ، نهنه بكلمات غير مفهومة ، ثم نظر إلى مقاله فوجد الكلمات التي كتبها كلها تطفو على الدماء التي تسيل من دفتره على أرضية الغرفة ، كان في انتظارها النمل الأبيض والأسود ليحملها ميتة مضرجة في الدماء إلى جُحْره خال انه في قلب معركة غير متكافئة ولابد من الإمدادات ، صرخ في الهاتف مستغيثا بمدير التحرير ، احتاج إلى قوة يا سيدي ، لم يفهم مدير التحرير شيئا ، تزحلق الكاتب في لزوجة الدم على أرضية الغرفة ، رأى نفسه وهو محمول على أكتاف النمل الأبيض والأسود ، مخدرا وواهنا ، والذباب يتخطفه لحما ودما ، ومازال مدير الجريدة يناديه باسمه ، أما هو فلا يدري كيف امتلأت الغرفة بملاين من الذباب ومن النمل الأبيض والأسود ، متعاونين في إدخاله جُحر النمل الأبيض والأسود ، عَبَر النمل بما تبقى من الكاتب إلى الداخل ، سقط الهاتف منه ، ومازال مدير التحرير يصرخ ، أين أنت ،،، أين المقال ........ أغلق النمل باب جحره ..كان آخر ما رأت عينا الكاتب في الجحر .... حمامةً مجففةً .. وفي اليوم التالي كُتِب في الصفحة الأولى في الجريدة الكبيرة "لغز اختفاء رجل السلام "..... ومن مقالاته القديمة تم فبركة الموضوع الكبير عن السلام.....ولم تذكر الجريدة شيئا عن اختفاء الحمامة .........
#عبد_العزيز_نايل (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
حدث في جزيرة الطوابية
-
بوابته في الخلاء الرمادي
-
فوق السطح لا يتشاركون
-
بوووووه ...توت ...مات
-
الدكاترة
-
العرباوي..!!
-
مصر التي تسرطنت
المزيد.....
-
-قصتنا من دون تشفير-.. رحلة رونالدو في فيلم وثائقي
-
مصر.. وفاة الفنان عادل الفار والكشف عن لحظات حياته الأخيرة
-
فيلم -سلمى- يوجه تحية للراحل عبداللطيف عبدالحميد من القاهرة
...
-
جيل -زد- والأدب.. كاتب مغربي يتحدث عن تجربته في تيك توك وفيس
...
-
أدبه ما زال حاضرا.. 51 عاما على رحيل تيسير السبول
-
طالبان تحظر هذه الأعمال الأدبية..وتلاحق صور الكائنات الحية
-
ظاهرة الدروس الخصوصية.. ترسيخ للفوارق الاجتماعية والثقافية ف
...
-
24ساعه افلام.. تردد روتانا سينما الجديد 2024 على النايل سات
...
-
معجب يفاجئ نجما مصريا بطلب غريب في الشارع (فيديو)
-
بيع لوحة -إمبراطورية الضوء- السريالية بمبلغ قياسي!
المزيد.....
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
-
ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو
...
/ السيد حافظ
المزيد.....
|