رشيد هارون
الحوار المتمدن-العدد: 1964 - 2007 / 7 / 2 - 10:31
المحور:
الادب والفن
لا ريب أن الحديث عن الأعمال الروائية حديث مشوب بالخطورة , إذ غالبا ما يتم تناسي طبيعة العقلية التي تنتج الرواية وهي عقلية ذات زوايا نظر متعددة, تتيح لها صنع أبطال متعددين ونماذج شتى من الأحداث, تقيم أواصر صلاتها باولائك الأبطال على نحو تبدو شخصية الروائي مغيبة حد التصديق, وعلى نحو يبدو أن الابطال يصنعون احداثهم بانفسهم حد الغواية بالتصديق ايضا !
مبعث التصديق بغياب المؤلف هو عدم انفعاله او تحيزه لاحد الابطال شريرا كان ام طيبا ,وهذه السمة مدعاة للتفريق بين كل من العقلتين تلك التي تنتج الشعر, وتلك التي تنتج الرواية , بين التي توميء وتشير لعوالم مفترضة وتاخذ اسباب نجاحها من الافتراضات تلك , ممتاحة من الواقع وغائرة فيه , ومستعينة بالخيال وسابحة فيه , وبين تلك التي تنزع الى ترتيب الواقع والغريب من المواقف والفنتازي من الوقائع بفعل عقلية متفكرة متأملة منظمة , تتحكم بالعاطفة والخيال , وتستعين بهما على حين لا يقودانها . فكيف تبدت عقلية الروائي في (لعنة ماركيز) للروائي ضياء الجبيلي الصادرة عام 2007 ؟
اولاـــــــــ
أ-ــــــــ انتخب ضياء الجبيلي (لعنة ماركيز ) عنوانا لروايته ، وهو عنوان ظل فاعلا وحاضرا حضورا واسعا ، وكان ومناسبة لبث افكار نقدية وسياسية واجتماعية ودينية ، هو اتاح الفرصة للمؤلف ليعرض صورة ماركيز في ثنايا (لعنته) وماهو مهم بصريا عرضه للترجمة باللغة الانكليزية او العكسية كما اسماها ، لما لذلك من وقع بصري اخاذ ، عد واحدا من اساليب التكنيك التي اقترحتها العقلية الروائية ، واذ كسرت نمط الكتابة العربية التي كتبت بواسطتها الرواية ، شدت المتلقي الى شيء ما ظل خفيا ، وما انفك يشدنا لهذا الخفاء ، يقينا من المؤلف بضرورة كل من الخفاء والوضوح في موضعه وحينه ومتطلباته الحسية والنفسية . يقول مسعود ملمحا لأجواء ادبية : ( انت كفنان لاتستطيع التجذيف في نهر صغير له نهاية ، انت تكرر ولا تنتج) ص 29 وتنظر الصفحات (17 ، 27، 30 ، 42 ، 33، 2، 49 ، 70 ،73 )انموذجا لذلك .
ب ــــــــ افادة العقلية الروائية من لفظة (اللعنة) فأفضت ( بحذر)على لسان احد ابطالها ما أفضت به ، ناقدة الواقع السياسي : (لست مشتاقا للموت ! كما لست معنيا بالعالم ، بقدر ما انا معني بهذا الوطن الجاحد ابونا الذي شردنا ) ص 28-29 ، فعدم الانفعال والتعقل باديا في جملة :(لست مشتاقا للموت ) وهي قراءة من لدن الروائي للثقافة العراقية ، لفكر يتوق الى السلام والحياة ، من ناحية اخرى ،لم تتجاهل هذه القراءة مكنونات النفس حين تحاصر، وذلك ما بدا في (الوطن الجاحد ابونا الذي شردنا ) وبذلك تتجلى العقلية الروائية موضوعية ومقنعة ،لاتسند لابطالها ما لا يمكن ان يتحقق في الواقع ، ولا تسلب منهم ما يمكن ان يخالجهم حين يختلون بانفسهم اناسا يتسامون ، يتسامون ، ثم لانبعد ان يضيقوا ضرعا بأحب الاشياء واقربها الى ارواحهم ،على اننا لابد ان نعي بأن تعبير (الجاحد ، وابونا الذي شردنا )لايشير اشارة قطعية الى الوطن نفسه ، فقد ينزاح الى سواه ، وهذا ما لم تشي به جملة بعينها ، انما وشت به اجواء الرواية !
يمكنني القول ان اسناد الخوارق للابطال ، بل للبطل الواحد ، ثقافة لم تنتهجها العقلية التي كتبت رواية (لعنة ماركيز ) ولقد بدا لي ان العقلية هذه عالجت الموضوعة السياسية ، اخذة في مسها مسا ، كي لا تجر الى منطقة الانحياز او الضد ، بيد انها كانت تحيل الى واقع بعينه والى زمن يمكن تلمسه دون عناء ، ليس بسبب تشديد الروائي عليه ، انما بسبب وضوحه هو، وطغيان صفاته التي تشير كل منها الى الاخريات ، على ان العنوان واحداث الرواية التي تقوم هي الاخرى على كتابة رواية من قبل مجموعة من الشباب ، هو الذي منح المجال امام المؤلف ليعبرعن السياسي : ( لقد كان نزار ، قائد السرب بامتياز مع انه مفرط في الحساسية ، لكنه ذو نظرة ثاقبة وثقافة واسعة ، ملم بكل شاردة وواردة في عالم الادب والمعرفة الادبية ، فكان بمثابة (العراب) بالنسبة لنا ، ومنذ ذلك اليوم الذي أفاق فيه على وهم مفاده : ان ثمة من صار في نيته كتابة رواية عن ماضينا وحروبنا المجانية ونحن منغمسون في الكتابة من اجل وضع رواية جماعية ، نسبق فيها مشروع ماركيز) ص33 لأكثر ابطال الرواية حساسية ما من السياسي ، ولذلك ظلت ملامحه ترد هنا وهناك ،هذه الملامح كان ثمة من يستدعيها ويتطلبها من المواقف ، ولهذا لم تبد فائضة عن حاجة الرواية ، فيما لم تشكل حساسية من قبل ضياء الجبيلي ، ذلك ان واقع الرواية هو من فرض حضور هذا السياسي ، وبذلك يبدو جليا اننا لم نوقع انفسنا في التناقض ،لاسيما وقد خضنا في عقلية الروائي وطبيعتها غير المنحازة ، لان الامر يتعلق بالاحداث والابطال :(بعد بحث مضن بين الاف الاوراق والملفات والسجلات والتقارير والاضابير القديمة منها والحديثة عثرت على اضبارة كتب عليها "نزار صابر معتوق "سبقته كلمة كلمة متهم )ص103 .
ج-ــــــــ الاجتماعي
ان الواقع العراقي ، واقع متشابك فعند حديثك عن الواقع الاقتصادي مثلا لاتجد مناصا من الحديث عن الواقع السياسي والاجتماعي والجغرافي أحيانا ، فقد تدخل السياسي بجغرافية المكان وتدخل بالطبيعة فاصاب (المجتمع )بضرر اقتصادي ، وهلم تشابكا وتعقيدا وألما . يشير الروائي الى واقع مسعود الاجتماعي : ( كان مسعود في قمة معاناته وعدم قدرته على البوح بما لايمكن اطلاقه الا بأباحة دمه الفقير / صار يعاني من فقر الدم مؤخرا / وكثير مايردد مقولته :(وحدهم المجانين يعرفون الطريق ، لكنهم يجهلون الوجوه ، ففي هذه المحرقة ، كل يستهلك مقعده ليتوسد التراب ) ص49 ، هذا اقبل ان يجن ، اما بعد ذلك ، أي حين جن فكانت درجة البوح على اشدها فضحا واستثمارا لعالم الجنون (الحر) . يقول : ( الرئيس يسكن في قصور منيفة ، وانا اسكن في الخرائب مع الكلاب ! الرئيس ينام على فراش من القطن الزراعي الناعم وانا انام على جلد الحمار !الرئيس ينهش باسنانه البيض من فخذ غزال مشوي ، وانا العق العظام ، الرئيس يتعطر باجود العطور الفرنسية وانا اتعطر بالخراء !) ص ، 50 .
د-ــــــــــ الديني
لان الواقع السياسي في ظرف كالذي كتبت فيه وعنه (لعنة ماركيز)هو المؤثر في الاقتصادي والاجتماعي والديني ، وهو الموجه لها سلبا وايجابا ، لم ترد الاشارة الى الواقع الديني كما هو الحال مع ظروف الواقع الأخر ، وقد تقشفت الرواية تقشفا مسوغا ، نظرا للعقلية الروائية التي وعت ضرورة هذا التقشف ، وحين اثار نزار سؤالا مفاده :(ترى ما الذي يميز ماركيز عنا ) ص 34 . (انفجر ماجد مصعوقا ، شاتما نزار .... وسرعان ما عاد ماجد يقسو عليه اكثر فاكثر ،قسوة من تطوع للدفاع عن دين او مذهب ..) ص35 وتنظر ص25 نموذجا لذلك .
ثانيـــــا : في الاستثمار الجنسي .
يعد الجنس وسيلة اثيرة عند كثير من القصاصين والروائيين ليقينهم بانها اثيرة عند المتلقين ، بيد ان طبيعة العقلية الروائية التي كتبت لعنة ماركيز، لم يكن من وكدها استمالة المتلقي من خلال استثمارها لموضوعة الجنس ، ولم تتدخل في الاحداث وصولا الى غاية المتلقي ، ذلك ان واحدا من ابطال الرواية – الشبيهه بالرجل ـ نائل – هو من اضطلع بهذه المهمة بسبب من طبيعته الفلسجية ، وكان سببا في حل اهم عقدة فيها ، وهو مايتصل بسرقة فصول الرواية التي انجزها الادباء الشباب ، اذ كانت السلطة الجنسية طريقا للوصول الى المبتغى ، فضلا عن أن نقل المشهد الجنسي جاء تاليا من قبل جار مسعود -- مسعود المجنون -- وبهذا نأت العقلية الروائية عن الاستثمار الكمالي ، لتعلق على هذا الموضوع التعلق كله في سير الأحداث وتفاقم الغموض والمجاهيل فيها ، ثم تدخله - الموضوع الجنسي – في إضاءة ماهو غامض ، وأعراب ماهو مجهول : ( بعد ذلك سمعت مسعودا يخرج زفيرا عاليا اختلط مع الصوت الأنثوي ، ثمّ ما فتئ أن تحول إلى عواء خفيض ثم إلى هسيس شهويّ تحتضنه نبرة هستيرية غريزية جامحة ، وإذا بالصوت يترنح بين التلذذ والاحتظار،قبل أن يعانق الصوت الأخر فيغوران في آتون سحيق صار فيه الاثنان على شفى ذروة بلغته شهوة كلا منهما ، وهي التي توقف بعدها كل شيء ! ولم تخرج المراة من الخريبة إلى بعد مضي نصف ساعة تقريبا سوى الوقت الذي أمضته في ترويض جنون الرجل ، ثم رايتها تركض مسرعة قبل أن تعود الكلاب إلى مخبئها لتجد صاحبها مجرد الثياب ، مرميا على الأرض دون حراك ! " )
ثالثــــــا :- تكنيك الرواية .
أـــــ التأجيل
واعني به عدم التسرع بنقل خبرأو حادثة ما ، وتأجيلها حتى الانتهاء من تفاصيل اخرى ، وهو تأجيل لا يبدو مقحما مفتعلا ، ليؤكد طبيعة العقلية التي بسطت هيمنتها على ادارة الاحداث والمواقف , واعطاء كل حدث زمنه ومكانه المناسب , وانما اعطيت التاجيل نعت التكنيك لانه يكشف عن الحرفة التي تتمتع بها هذه العقلية ، ويبدو التاجيل واضحا في بداية القسم الاول من الرواية تحت الرقم (1 ) : ( حين بلغنا الخبر , اهتز المقهى . ليس مقهى حسين عجمي او .....الخ) (ص 24 ) حتى نهاية الصفحة الخامسة والعشرين حيث كتب اخر سطر منها : الخبر ــــــــ
ثم في الصفحة السادسة والعشرين في اول سطر منها : ( اعدم نزار ! نزار سمكة ) (ص 26 ) وقد صار المؤلف الى هذا التاجيل في غير موضع ومنه : ( وما يهمني في الحكاية الان هو ان اروي حادثة وقعة بين اسكندر وماجد ) (ص36) وتبدا الحادثة فعلا في الصفحة التاسعة والثلاثين : ( قاما وتشابكا بالايدي ) (ص39) وهكذا .
ب –ـــــــ التعامل مع الابطال
ظلت لفظة ( اللعنة ) احدى لفظتي العنوان تلقي بظلالها على الكيفية التي تعاملت فيها العقلية الروائية مع الابطال , فكان موت البعض وجنون الاخر متوقعا ، تشي به ظروف احداث الرواية , و ثمة ما لم يجعل الموت والجنون ديدنا ( للتخلص ) من الابطال ، وهو تكنيك كاسرللتوقع وقد تبدى ذلك ببقاء نائل على قيد الحياة وتحوله الى انثى , واستحواذه على فصول الرواية بالطرائق التي تم الاشارة اليها بالسرقة والاستمالة عن طريقة الجنس ..... الخ وبذلك لم يتحول الابطال الى هم بل آلوا الى ضرب من التكنيك ليغدو بناء العمل متماسكا بعضه يفضي الى بعض ، ومفارقا بعضه يكسر رتابة ونمطية بعض لأعمال وديمومة جذوة التلقي .
ج-ــــــالتعامل مع الاخطاء الاملائية والنحوية .
كان يمكن للعقلية الروائية ان تأتي على اخطائها النحوية والاملائية التي قد يشترك بها معها (المنضد ) لكنها نزعت الى تكنيك جميل في بابه ، وهو ان عمد المؤلف الى مايسمى بالتسطير في مصطلح عالم الحاسوب ، أي وضع خط تحت الخطا الاملائي والنحوي ، وذلك مع اللغة (العكسية ) التي جاءت في الصفحات الاول من الرواية والصورة الصغيرة التي أطرت بمربع كبير، فضلا عن ثمة اشارة الى مسعود (قبل ) الجنون وبعد ، وقد جاء كالاتي : مسعود قبل ، تسيطر أي خط تحت مسعود قبل وكذلك الحال مع مسعود بعد ، وكل هذه المسميات تعبر عن وعي جمالي بالكتابة ووعي في التعامل مع البصر، وهو دأب من لدن العقلية الروائية لاستثمار ممكنات التوصيل والايحاء والتواصل ، لعلم تلك العقلية بان ثمة ذائقة في التلقي تستهلك ابدا ، وتتوق لما هو جديد مضمونا وشكلا .
وبعد : هل غادرت العقلية الروائية حياديتها وهي ترسم احداثا عن واقع غاية في الاثارة والاستفزاز ؟ ( قد ) يكون الجواب بالايجاب اذا لم نتجاهل القراءة النفسية لاي عمل ادبي . هل نجحت تلك العقلية بالتحكم بطبيعة تفكير الناثر المتأمل القارىء للواقع السياسي والاقتصادي والاجتماعي ...؟ الجواب بالايجاب من دون الاستعانة بـ (قد) هل احكم المؤلف على الاخطاء النحوية والاملائية وتابع تكنيكه الجديد بالاشارة الى تلك الاخطاء ؟ لم يكن الجواب عندي بالايجاب قطعا . هل ان (لعنة ماركيز) لضياء الجبلي استنفدت مديات ما يمكن التوصل اليه يقينا ، لا انا ، ولا هي تقول ذلك
#رشيد_هارون (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟