|
غزة – المشهد الجزائري
يعقوب بن افرات
الحوار المتمدن-العدد: 1959 - 2007 / 6 / 27 - 12:21
المحور:
القضية الفلسطينية
هربت اسرائيل من غزة وأخلت المستوطنات، ولكن ما يحدث اليوم في غزة واحتمال استئناف القصف على سديروت لجرّ اسرائيل الى الوحل، يمكن ان يدفعها بالفعل للقيام بمغامرة عسكرية كبرى. اسرائيل تريد التخلص من عبء غزة، ولكنها تضطر ان تعود اليها في كل مرة من جديد ولكن بشكل اعنف.
يعقوب بن افرات
بعد اندلاع الانتفاضة الاولى اواخر عام 1987، توصلت المؤسسة السياسية والامنية في اسرائيل للاستنتاج بانه ليس هناك حل عسكري للقضية الفلسطينية. وتزامن هذا مع قيام دار النشر التابعة للجيش اسرائيلي بإصدار كتاب للكاتب اليستر هورن "حرب وحشية من اجل السلام" حول حرب الاستقلال في الجزائر، حظي حينها بصدى اعلامي كبير جدا.
ملخص الكتاب والعبرة المقصودة من نشره هما ان فرنسا انتصرت عسكريا، ولكنها خسرت سياسيا. فقد تمكن الجيش الفرنسي من تصفية المقاومة التابعة لجبهة التحرير الجزائرية حتى آخر مقاوم فيها، وذلك في المعركة الشهيرة التي دارت رحاها في العاصمة الجزائرية. ولكن الالتفاف الشعبي التام حول جبهة التحرير، حسم مصير الاحتلال وانتهت المواجهة بتوقيع اتفاقات ايفيان، التي تم بموجبها جلاء الاحتلال الفرنسي عن الجزائر، واعادة مقاليد الحكم لقيادة جبهة التحرير.
العنصر المقابل لجبهة التحرير الجزائرية كان دون شك منظمة التحرير الفلسطينية. فقد تمكنت من استقطاب دعم شعبي فلسطيني مطلق، بعد ان تغلبت على مؤيدي المملكة الاردنية في الضفة الغربية والعناصر المتعاونة مع الاحتلال. وكانت انتفاضة عام 1988 في المناطق المحتلة تعبيرا عن الاجماع الوطني العام، واشارة واضحة الى ان ايام الاحتلال الاسرائيلي باتت معدودة وان مصيره سيكون مصير الاستعمار الفرنسي.
ولكن المقارنة، مثل كل مقارنة، تبقى امرا نسبيا، وفي حالتنا نسبيا جدا. صحيح ان الاحتلال الفرنسي اعتبر الجزائر جزءا من ارضه ووطّن فيها مليون فرنسي، الا ان الجزائر تقع في الطرف الآخر من البحر المتوسط، وهي في نهاية المطاف دولة افريقية؛ اما الضفة الغربية فهي جزء من فلسطين الانتدابية التي يزعم اليهود انها اسرائيل التاريخية، ووطنهم حسب الإرادة الالهية. القرب الجغرافي اضافة للنزاع التاريخي المعقد، يجعل اسرائيل ترفض الانسحاب من الضفة، ومنحها كامل الحرية والسيادة، لان ما يحدث فيها سيؤثر بالضرورة عليها.
بدل اتفاق ايفيان الذي منح الاستقلال للجزائر، اكتفت اسرائيل بتوقيع اتفاق اوسلو الذي لم يمنح الفلسطينيين سوى حكم ذاتي محدود جدا، في ظل استمرار الاستيطان. كان هذا شكل الحل السياسي، ابتكرته اسرائيل لادامة احتلالها وسيطرتها بشكل غير مباشر، من خلال منح منظمة التحرير سلطة شكلية. وكان قبول رئيس منظمة التحرير الراحل ياسر عرفات بمثل هذا المخطط بداية نهاية المنظمة، وضربة قاضية لمصداقيته التي تآكلت بعد سنوات قليلة من انشاء السلطة الفلسطينية في المناطق المحتلة.
العبرة الجزائرية الثانية
ما حدث في الجزائر بعد تولي جبهة التحرير الحكم، صار تاريخا معروفا. فقد افسدت السلطة القياديين الذين نسوا انهم هناك لخدمة الشعب وليس العكس. الجزائر، مثل بقية الدول العربية، اصبحت دولة الحزب الواحد، وتم تقسيم ثرواتها بين ازلام السلطة واعوانهم. الفقر والاستهتار بمصالح الناس فتحا المجال واسعا لنمو عنصر جديد على الساحة، هي الجبهة الاسلامية للانقاذ. وقد نشأت هذه الحركة في نفس الفترة التي تم فيها تأسيس حركة حماس في فلسطين عام 1988. والحركتان امتداد للاخوان المسلمين الذين عادوا للنشاط في تلك الفترة في مواقع مختلفة من العالم العربي.
دخلت جبهة الانقاذ الاسلامية المعترك السياسي وحققت نجاحا باهرا في الانتخابات المحلية، ثم احتلت البرلمان الجزائري واوشكت على تشكيل الحكومة، كما حدث مع حماس عام 2006. غير ان جبهة التحرير الجزائرية التي حررت الوطن، واعتبرت نفسها سلطة ابدية، رفضت القبول بنتائج الانتخابات. النتيجة ايضا صارت معروفة: حربا اهلية أودت بحياة عشرات الآلاف من الجزائريين.
المعادلة الجزائرية واضحة جدا: حزب اسلامي يرفض الديموقراطية من منطلق عقائدي ويعتبرها بدعة، ولكنه يستغل العملية الديمقراطية كوسيلة لاحتلال السلطة. هذه المعادلة الصعبة التي لا حل لها تتكرر في كل البلدان العربية، وفي مقدمتها مصر حيث يسن النظام الحاكم قوانين غير دستورية لسد الطريق امام الاخوان المسلمين.
ويشهد الاردن حالة شدّ وجذب بين البلاط الملكي وبين البرلمان الذي تسيطر عليه الحركة الاسلامية. وفي سورية تعتبر الحركة الاسلامية محظورة تماما، والقمع يمارَس ضدها بلا حدود. اما في فلسطين فقد اعتبرت حماس جزءا عضويا من الحركة الوطنية، لذا حظيت دون مشكلة بالشرعية الشعبية، واستطاعت السيطرة على المجلس التشريعي من المعركة الانتخابية الاولى التي قررت المشاركة فيها.
حماس تنقلب على السلطة
فوز حماس باغلبية المقاعد في المجلس التشريعي تحقق لسببين، الاول الانقسام الداخلي في حركة فتح الناجم عن فشل اتفاق اوسلو والمسار التفاوضي من جهة والاقتتال الداخلي على المناصب من جهة اخرى؛ السبب الثاني هو اسهم حماس التي ارتفعت نظرا لانتهاجها مسار المقاومة والعمليات الانتحارية التي ضربت في العمق الاسرائيلي واثارت لفترة معينة الانطباع الكاذب بان حماس تمكنت من خلق توازن استراتيجي مع اسرائيل. ولكن هذه العمليات الانتحارية التي اثرت بلا شك على اسرائيل وزعزعت استقرارها، قوّضت في نفس الوقت مكانة وهيبة السلطة الفلسطينية وفتح التي واصلت تعاونها مع امريكا واسرائيل.
المشكلة الثانية، وهي الامر الاساسي، تكمن في مجرد مشاركة حماس في الانتخابات التشريعية التي تستند الى اتفاق اوسلو كمرجعية. فقد قاطعت حماس الانتخابات التشريعية الاولى عام 1996 بالذات لانها تعتمد على الاتفاق الذي تعارضه بضراوة. ولكن مرجعية الانتخابات التي انعقدت عام 2006 لم تتغير، فما الذي جعل حماس تشارك؟ لقد ارادت حماس حصد الثمار السياسية لشعبيتها التي بنتها على اساس مقاومتها للاتفاق. هذا التناقض يشير الى انتهازية حماس، وهو الوضع الذي خلق المحنة الدموية الذي يشهدها الشعب الفلسطيني الآن.
ولكن هذا التناقض ما كان من الممكن ان يستمر طويلا. فمن اليوم لفوز حماس بأغلبية المقاعد في المجلس التشريعي، سعت ان تكون حكومة ومقاومة في آن. فقد كان عليها التعايش مع رئيس السلطة المنبثقة عن اتفاق اوسلو والمخوّل بصلاحية تكليف رئيس الحكومة، ومن جهة اخرى ارادت الحفاظ على سبب وجودها وهو سياسة المقاومة للاتفاق. وتعارض هذا مع سياسة فتح ومنظمة التحرير التي تبنت نهج المفاوضات مع اسرائيل برعاية امريكية كطريق وحيد للحل.
ولم يُبقِ هذا الخلاف الحاد مجالا كبيرا للتعايش بين الموقفين، مما انتهى الى حالة الحسم الدموي. منظمة التحرير سارت في اعقاب جبهة التحرير الجزائرية، ورفضت عمليا نتائج الانتخابات والتنازل عن السلطة. في حين لجأت حماس لاسلوب جبهة الانقاذ الاسلامية في الجزائر، وأشهرت سلاحها ل"حل" الخلافات الداخلية.
"دولة غزة الاسلامية"
بعد ان فشل الحصار المالي والسياسي في جرّ حماس نحو مواقف اكثر "اعتدالا"، وبعد فشل حكومة الوحدة التي تشكّلت على اساس اتفاق مكة، قررت حماس نسف الحل من اساسه وفرض معادلة سياسية جديدة. احتلال قوات حماس العسكرية لقطاع غزة وتقويض ما تبقى من اجهزة الامن الفلسطينية، يخلق واقعا جديدا لم يكن بمقدور احد ان يتخيله عندما قررت حماس المشاركة في العملية الديمقراطية وفازت بأغلبية المقاعد.
لقد مثلت حماس امام خيارين، إما الرضوخ للواقع السياسي والقبول باتفاقات اوسلو وبالتالي الحصول على الاعتراف والدعم الدولي على حساب مبادئها، او الثبات على موقفها المقاوم والدخول في مواجهة داخلية يمكن ان تؤدي لتقويض السلطة الفلسطينية بالكامل.
توقعت حماس ان مجرد تهديدها بحرق الاخضر واليابس سيجبر فتح ومن وراءها، من امريكا واسرائيل والدول العربية، على القبول بنتيجة الانتخابات والاعتراف بحكومة اسماعيل هنية دون فرض شروط الرباعية عليها، وهي الاعتراف باسرائيل والاتفاقات الموقعة معها ونبذ العنف. وكانت حماس مستعدة بالمقابل ان تسمح لأبي مازن بالتفاوض مع اسرائيل، ولكن دون ان تلتزم كحكومة بنتائج المفاوضات.
ولكن في الواقع تمكنت حماس بتصرفاتها من تحقيق حلم اسرائيلي قديم هو فصل قطاع غزة عن الضفة الغربية. ففي غزة تأسست بقوة السلاح سلطة فلسطينية اسلامية لا يعترف بها احد، وفي الضفة الغربية تواصل فتح سلطتها على اساس اتفاق اوسلو. ولكن من الواضح ايضا، ان هذا الوضع لن يكون محتملا لا من الفلسطينيين ولا من اسرائيل. وكما فهمت اسرائيل متأخرة بان الحل العسكري ليس حلا، كذلك فان انتصار حماس على فتح في غزة، سيكون "انتصارا" مضرا بالشعب الفلسطيني وسيبقى جرحا مفتوحا لسنوات طويلة.
اسرائيل المسؤولة الاولى
قِصر الرؤية الاسرائيلي ادى للنتيجة التي نحن بصددها الآن. لا يمكن التكهن بالشكل الذي كانت ستنتهي اليه الامور لو ان الحكومة الاسرائيلية استغلت الفرصة مطلع التسعينات، وانسحبت، جيشا ومستوطنين، من المناطق المحتلة برمّتها. ولكن لم تكن في اسرائيل الرغبة السياسية لمواجهة اليمين المتطرف، وتوصلت لاتفاق رسّخ الاستيطان والسيطرة الاسرائيلية على المناطق المحتلة، وحتى هذا الاتفاق الهزيل لم يرضِ اليمين الذي اغتال رئيس الوزراء يتسحاق رابين. ومن جهة اخرى، يصعب فهم الاعتبارات التي جعلت عرفات يوافق على مثل هذا الاتفاق، وقد يكون اعتقد انه مع الوقت ستوافق اسرائيل على منحه المزيد من السيطرة والسيادة على كافة المناطق المحتلة وستزيل المستوطنات.
ولكن بغض النظر عن التوقعات، فان اسرائيل بسياستها المتعنتة هي التي مهدت الطريق امام نشوء التيار الديني المقاوم، والذي تغذى من خيبة امل الشعب من الاتفاق الذي عمّق الاحتلال ومصادرة الاراضي، وزادت الفقر والبطالة بفعل سياسة الطوق التي سدت طريق العمل امام العمال الفلسطينيين. كما ساهمت اسرائيل في إفساد السلطة الفلسطينية من خلال الرشاوى والمبادرات المشتركة والتعاون الامني، والتي ضربت جميعها بمصداقية السلطة وأبعدت الناس عنها. اسرائيل اذن تتحمل المسؤولية الكبرى عن الوضع، لان حل النزاع من جذوره كان بيدها، ولكنها اختارت المماطلة والتهرب من مواجهة الجمهور الاسرائيلي اليميني.
عودة الاحتلال الاسرائيلي لغزة صار احتمالا واردا، رغم كل محاولات اسرائيل الهروب من غزة ورفضها تحمل المسؤولية المدنية عن مليون ونصف فلسطيني. لقد هربت اسرائيل من غزة وأخلت المستوطنات بعد ان ادركت انها فقدت السيطرة فيها وانه لا منفعة من استمرار احتلالها. ولكن ما يحدث اليوم في غزة واحتمال استئناف القصف على سديروت لجرّ اسرائيل الى الوحل، يمكن ان يدفعها بالفعل للقيام بمغامرة عسكرية كبرى في محاولة لاعادة العجلة الى الوراء. اسرائيل تريد إخراج غزة من تل ابيب، بمعنى التخلص من عبئها، ولكنها تضطر ان تعود اليها في كل مرة من جديد ولكن بشكل اعنف.
#يعقوب_بن_افرات (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
انقلاب فتحاوي فاشل
-
الاول من ايار - حق العمال اولا
-
السياسة الامريكية تصحح مسارها
-
زلزال سياسي يزعزع مكانة بوش
-
انقلاب سياسي محتمل في امريكا
-
حرب بوش الخاسرة
-
حرب جديدة لماذا؟
-
فتح - حماس: صراع على السلطة
-
عنوان سياسي للعمال
-
حزب دعم العمالي - لماذا الآن؟
-
شارون يورّث حكمه لاولمارت
-
كاديما: اجماع اسرائيلي جديد
-
باريس تشتعل مرة اخرى
-
حرب اهلية فلسطينية على الابواب
-
كاترينا تعصف بشعبية بوش
-
نشوء وسقوط الامبراطورية الرأسمالية
-
شارون يرسم الحدود وحده
-
شرق اوسط جديد؟
-
امريكا:مجتمع المُلكية ينقلب على دولة الرفاه
-
هبوط الدولار يهز العالم
المزيد.....
-
لبنان: غارة مسيّرة إسرائيلية تودي بحياة صيادين على شاطئ صور
...
-
-لا تخافوا وكونوا صريحين-.. ميركل ترفع معنويات الساسة في مخا
...
-
-بلومبيرغ-: إدارة بايدن مقيدة في زيادة دعم كييف رغم رغبتها ا
...
-
متى تشكل حرقة المعدة خطورة؟
-
العراق يخشى التعرض لمصير لبنان
-
مقلوب الرهان على ATACMS وStorm Shadow
-
وزارة العدل الأمريكية والبنتاغون يدمران الأدلة التي تدينهما
...
-
لماذا تراجع زيلينسكي عن استعادة القرم بالقوة؟
-
ليندا مكمان مديرة مصارعة رشحها ترامب لوزارة التعليم
-
كيف يمكن إقناع بوتين بقضية أوكرانيا؟.. قائد الناتو الأسبق يب
...
المزيد.....
-
الحوار الوطني الفلسطيني 2020-2024
/ فهد سليمانفهد سليمان
-
تلخيص مكثف لمخطط -“إسرائيل” في عام 2020-
/ غازي الصوراني
-
(إعادة) تسمية المشهد المكاني: تشكيل الخارطة العبرية لإسرائيل
...
/ محمود الصباغ
-
عن الحرب في الشرق الأوسط
/ الحزب الشيوعي اليوناني
-
حول استراتيجية وتكتيكات النضال التحريري الفلسطيني
/ أحزاب اليسار و الشيوعية في اوروبا
-
الشرق الأوسط الإسرائيلي: وجهة نظر صهيونية
/ محمود الصباغ
-
إستراتيجيات التحرير: جدالاتٌ قديمة وحديثة في اليسار الفلسطين
...
/ رمسيس كيلاني
-
اعمار قطاع غزة خطة وطنية وليست شرعنة للاحتلال
/ غازي الصوراني
-
القضية الفلسطينية بين المسألة اليهودية والحركة الصهيونية ال
...
/ موقع 30 عشت
-
معركة الذاكرة الفلسطينية: تحولات المكان وتأصيل الهويات بمحو
...
/ محمود الصباغ
المزيد.....
|