رام الله المحتلة
بغض النظر عن الاتفاق والاختلاف، وحتى عن المستوى الفكري لأي حوار، فإننا في كنعان نعطي اهتماماً خاصاً لحوار المرأة وخاصة العربية. لم أكن أعرف موقع إيلاف بين العديد من المواقع الالكترونية، إلى ان حول لي الصديق عبد الباسط الحبيشي من سان فرنسيسكو (هو من اليمن ولكنه كملايين العرب لم يجد له في وطنه مكاناً)، مقالتين واحدة لسيدة يمنية وأخرى، رداً على الأولى لسيدة سعودية.
لعله من الجميل ان يكون هذا الاهتمام النسائي العربي بالعراق، فهو برأيي أولا وقبل كل شيىء محفوز بحرقة وانتماء قوميين وهذا حجر اساس. ولكن ما لفت نظري ذلك المستوى من النَزَق في رد السيدة فاطمة من جهة (مثلاً عدم استراحتها لقول رؤوفة ان طريق تحصيل حقوق المرأة العربية شاق)، وحماس السيدة فاطمة الهائل لما طرأ من تحسن على وضع المرأة في مصر (التي اصبحت قاضية...) والمرأة في الغرب (التي اصبحت رئيسة وزراء...).
لا شك ان تسجيل هذا التقدم امر علمي وضروري ولو من قبيل الرياضة الذهنية. ولكن إيراده صافٍ معافاً هكذا هو موقف خطير وذكوري ورأسمالي في نفس الوقت. إنه انتصار للذكورية في عصر راس المال المعولم على حساب الذكورية في نمط الانتاج البطريركي! وهو انتصار بغير وعي لصالح الذكورة، من إمرأة تعتبر نفسها نسوية!
فالسيدة فاطمة على حق إذا كان المطلوب تحسين وضع المرأة وليس مساواتها حقا بالرجل. أما اذا كان المطلوب المساواة، فإن المرأة في الغرب الراسمالي لم تحقق المساواة، ولا أدل على هذا من ان جسدها مصلوب 24 ساعة يومياً عارٍ على شاشات التلفاز، ناهيك عن الاعلانات في الصحف وعلى الجدران، وكذلك العنف ضد المرأة، وأخيرا وليس آخراً فإن نفس الطبقة الراسمالية الامريكية والغربية التي احتلت العراق تعتبر (اليوم في حقبة العولمة) ان المرأة الجيدة هي التي تبقى في البيت لترضع اطفالها وتربيهم. كل هذا بالطبع كي لا تذهب للعمل لأن العمل الآن شحيحاً نظراً للازمة الاقتصادية. فالمرأة باختصار هي التي يجب ان تدفع ثمن الازمة الاقتصادية. ولا ننسى ان المرأة، في اي مكان، التي تصل الى منصب رفيع، تتحول، سياسياً وايديولوجياً الى رجل وتخون جنسها، حيث تصبح جزءاً من المروجين والمدافعين عن نظام الحكم الذكوري. وربما لهذا السبب إذا كنت تتابعين تطور اوضاع الحركة النسوية في الغرب، أن هذه الحركة قد تراجعت الى حد يقارب التلاشي. وحبذا لو تتابع السيدة فاطمة اخبار اغتصاب النساء العراقيات في ظل الاحتلال الذي يقوده ممثل العدو الامريكي "بريمر".
وفي هذه السياق أرجو ان أذكر السيدة فاطمة بان ما كتبته : "المرأة العربية قد "حققت العولمة الصحافية" ليس دقيقاً، وربما كتبت ذلك وهي منفعلة. ان هذا المستوى من التحقيق هو "العالمية الصحافية". ان الفارق هائل بين المفردتين. فالعالمية امر ضروري وموجود منذ الامبراطوريات القديمة، اما العولمة فهي حقبة في تطور راس المال وهيمنته على العالم. وبالمناسبة، فإن احتلال العراق هو عدوان من قبل الراسمالية المعولة. لا بد لمن يعرف من ان ينقل امورا مركزية كهذه لابنائنا من القراء.
تبارك السيدة فاطمة تعيين ثلاث نساء في مجلس الحكم الانتقالي في العراق، وترفض اعتراض رؤوفة، رغم انه اعتراض مرن وهادىء. لكن فاطمة تغاضت عن انه معين وعلى يد محتل! وحيث لا ترى هذين الامرين او تقبل بهما، فإن السيدة فاطمة إنما ترى أن استبدال البطريركية/الرأسمالية المحلية بالرأسمالية الاستعمارية المعولمة والذكورية الاجنبية ايضاً، خطوة الى الامام، لا بل خطوة ثورية. هذا مع العلم بأن للعرب تجربة مع الاستعمار طوال ثلاثة قرون. وأن الرأسمالية في مراحلها الثلاثة (الراسمالية الاستعمارية ثم الراسمالية الامبريالية والآن الراسمالية المعولمة) ليست هي فقط التي تحتل الوطن العربي بل تُنيخ على كاهله نفس الانطمة الكمبرادورية التي ترغم السيدة فاطمة وبنات العرب في السعودية على التعلم من وراء التلفاز! لماذا لا يكون تمثيل النساء في المجلس المذكور ديكورا. وراس المال الغربي عودنا على الديكور فالمرأة هناك، في الغرب، مصلوبة على شاشات التلفاز في وضع أشبه "بالبغاء الاعلاني" والغرب وخاصة امريكا هي التي خلقت دول النمور الآسيوية "كديكور على النمو الاقتصادي" ومن ثم ضربتها عام 1997 ضربة لم تتعافى منها بعد.
أما حينما ترى السيدة فاطمة ان الاحتلال الاميركي للعراق أكثر من عيد وطني بل تراه نهضة عربية، وتكيل كل ذلك المديح لامريكا، فإنها في الحقيقة تقدم نموذجاً لم يسبق له مثيل على انفلات التفكير من مختلف الضوابط ليصبح عواطف لصالح العدو. ان هذا نموذج لم نر مثله في كافة الاحتلالات التي مرت على الوطن العربي بدءاً من احتلال عدن 1839 وصولا الى مذبحة جنين. ولكن رغم مبالغة السيدة فاطمة في مدح "الخواجا محرر العراقيات" فإن لها اسلافاً في هذا المستوى. ويكفي ان نذكر منهم الكثير من المثقفين العرب الذين باركوا العدوان على العراق عام 1991، وهو العدوان الذي شاركت فيه انظمة عربية وخاصة من تلكم الذكورية البطريركية التي تتحالف معها الولايات المتحدة التي تسبح السيدة فاطمة بحمدها!. وطالما ان الولايات المتحدة قد "حررت العراق" فلماذا لم تحرركِ أنت يا سيدتي في السعودية بعد؟
من يفكر بطريقة السيدة فاطمة، قد يكون من الافضل له ان يتقدم بعريضة الى واشنطن ولندن لاحتلال بقية الوطن العربي كما فعل 55 "مثقفاً" في فلسطين حيث وقعوا عريضة شجبوا فيها العمليات الاستشهادية!
قد يكون للسيدة فاطمة ان تُعجب بامريكا والغرب الراسمالي عامة. أما ان تعجز عن رؤية الجانب الاستعماري الاستغلالي، وعن رؤية الهدف الاقتصادي والمالي والنفطي والنقودي للاحتلال الاميركي للعراق، فهذا عمىً كبير لا يُجدي النقاش فيه. ان ما يهمنا من إثارة النقاش ليس الرد على فاطمة وغيرها، بل توضيح جوهر الاطماع الاميركية والراسمالية الغربية عموماً. أما التغزُّل بأمريكا والتشفي بالاسلام والقومية العربية فهذا مجرد إنشاء لا موزون ولا مقفى لدرجة ان امريكا لا تطرب له كثيراً.
وإذا كانت مئات الطالبات قد عُدن في افغانستان بعد الاحتلال الى المدارس، فإن امريكا نفسها هي التي كانت قد أخرجتهن من المدارس عندما دعمت نفس الاصوليين لاسقاط النظام "الاشتراكي" هنك. نأمل ان تكون فاطمة قد سمعت عن هذا الامر.
يذكرني حديث فاطمة ومن استشهدت بهم/ن بواقعة مشابهة في بدايات احتلال عام 1967 للضفة والقطاع؛ حيث استقبلت الشاعرة فدوى طوقان وزير الحرب الصهيوني موشيه ديان في نابلس. وذكرت في إحدى قصائدها ما معناه ان : "ليت لنا رجالاً مثل الفيتناميين" على اعتبار ان هؤلاء هم الرجال القادرين على تحرير بلادهم.
كان على السيدة فدوى طوقان ان لا تلتقي وزير حرب الاحتلال على الأقل لأنها تنتقد "تقصير" الرجال، وكان عليها ان تفهم بأنه إذا لم تقم البرجوازية والارستقراطية الذكورية بالمقاومة، فذلك لا يعني ان الطبقات الشعبية لن تقاوم. أذكر انني كنت آنذاك في المعتقل (وكنت في اوائل العشرينات)، وقد نقدت السيدة طوقان في حلقات التثقيف في المعتقل. وصدف عام 1978 ان انشئت مكتبة في رام الله (اغلقتها واعتقلتني سلطات الاحتلال بعد شهرين). وذات يوم دخلت سيدة متقدمة في العمر بعض الشيىء. وبعد ان نظرت الى الرفوف :
قالت: أنا فدوى طوقان.
قلت: أنا اسمي عادل سمارة. (اضع كلمتي "أنا اسمي" عندما اقدم نفسي لأنني لا اعتبر نفسي عَلَماً). فارتبكت السيدة واهتزت يدها في يدي
قالت: انت هاجمتني وأنت في السجن.
قلت: نعم/ ولكن ليس لأنك إمرأة، بل لأنك استقبلت موشيه ديان، بينما نحن نقاوم الكيان الهسيوني. انا يا سيدتي لست من طبقة متصهينة او متخارجة لصالح الاجنبي.
أدارت السيدة وظهرها ومضت.
ظلت فدوى طوقان شاعرة كبيرة ومن اسرة ارستقراطية، ولكن يا سيدة فاطمة ظل الشعب الفلسطيني يقاوم. ومتى؟ ظل يقاوم في حقبة العولمة والثورة المضادة وارتباك كثير من المثقفين وتقلبهم من الماركسية الى اللبرالية ومن التحرر الوطني الى خدمة الامبريالية، ولكن ظل الشعب يقاوم، وها هو شعب العراق يقاوم، فأرجو ان لا تقعي في خطيئة شتم المقاومة.
لقد شطَّت السيدة فاطمة كثيراً حيث قارنت محمد علي ببريمر. ان الموقف لا يسمح هنا بقراءة في التنمية وتجاوز احتجاز التطور...الخ وتكفي الاشارة هنا الى ان الطرف الذي دمر تجربة محمد علي هو الطرف الذي دمر عراق صدام حسين. (يمكن الرجوع الى كتاب مكسيم رودنسون: الاسلام والرأسمالية، للاطلاع على الشروط التي فرضت على محمد علي من الانجليز والفرنسيين آنذاك ليجد القارىء ان الشروط هي نفسها تقريباً التي فرضت على صدام حسين عام 1991).
كانت المقابر الجماعية من القضايا التي اثارتها السيدة فاطمة. وقد يكون هذا صحيحاً، ولا سيما في اعقاب عدوان 1991 حيث جرى تحريك شمال العراق وجنوبه ضد نظام بغداد، ولا أدري ماذا كانت ستفعل فاطمة لو كانت هي الحاكمة في بلد كهذا. لا شك ان قتلا كثيرا قد حصل، ولا شك ان نظام الرئيس صدام لم يكن ناعما ولا ورديا ولا ديمقراطياً. ولكن هل قرأت السيدة فاطمة كم عدد الامريكيين ، حتى البيض، الذين ذبحهم اراهام لنكولن ليضم جنوب امريكا الى شماله؟ وهل تدرك ان ابراهام لنكولن نفسه رفض مساواة الجنود السود بالبيض داخل الجيش الامريكي، وأن هذا بقي معمولا به حتى العدوان الامريكي على العراق عام 1991. ثم هل تعلم ان البيض المعجبة بهم قتلوا 75 مليون هندي أحمر حتى أقاموا امريكا الحالية!
بصدد المقابر الجماعية فان محيي الدين عميمور يشير الى:
"...واللامبالاة التي قوبلت بها اقتراحات الفحص الطبي الدقيق للرفات تجعلني اتفهم ما كتبه الدكتور لطفي ناصف في صحيفة الجمهورية القاهرية حيث يقول:
" بان المقابر الجماعية هي اسلوب خبيث اتبعته الادارة الاميركية (...) فقد عشت في العراق يقول (وشاركت في جنازات بعض المعارف من العراقيين، فطبيعة المقابر ونظام الدفن هو وجود مساحات كبيرة كمقابر عامة يتم الدفن فيها بلا شواهد/ حيث تحفر فيها حفر متساوية في صفوف متوازية/ ويتم الدفن فيها ثم ردمها حتى ينهي الصف فيبدأون بالصف الذي يليه، فهي فعلا مقابر جماعية ولكنها ليست مقابر سرية لدفن ضحايا النظام... وفي حالة تعرض بعض المعتقلين للموت في السجون العراقية كنت السلطات تستدعي اقارب الضحية وتأمرهم باجراء مراسم الدفن في هدوء".
ويتابع:
"هذا نوع من حالات الدفن/ والنوع الثاني هو ان المقابر المكتشفة كانت منظمة فعلا في صفوف في حين ان المقابرالجماعية الاجرامية ، كتلك التي دفن فيها الفرنسيون ضحايا الثورة الجزائرية / كانت حفرا كبيرة تكوم فيها الجثث وتلقى عليها مواد كاوية للاسراع بتحللها/ وكثيرا من الرفات التي عثر عليها كانت تحمل بقايا القيود الحديدية وتشير نوعية الاصابات المسجلة في الجماجم ان الطلقات النارية وجهت من الخلف. وهذه اهمية فحوص الطب الشرعي وهناك صور مشابهة لهذه تتمثل في المقابر الجماعية التي دفن فيها مجرمو الصرب ضحاياهم من المسلمين، وهذه وتلك صور مختلفة عما شاهدناه في العراق" (الحرب النفسية على الوطن العربي، د. محيي الدين عميمور، القدس 18-5 203).
بقي ان نقول، إن للمرأة العربية الحق، ربما اكثر من الرجل، في نقد الذكورية والتبعية والبطريركية وغيرها. ولكن أن تصل او يصل الى هذا الحد من الكره للذات وعشق سيادة المحتل، فهذا أمر يقود الى تبعية لا فكاك منها، وإالى خنوع يبدو لفرط عمقه ثورة!
لا خيار يا سيدتي سوى للمقاومة، مقاومة الطغاة وعبيد الاستعمار وذكورية الرجال ورأس المال ولكن أيضاً ذكورية النساء اللواتي يدعمن انظمة الحكم الذكورية او يدعمن الاستعمار الذكوري.
كنعان