|
عن مهدى بندق ومستويات التلقي
جلال شمس
الحوار المتمدن-العدد: 1952 - 2007 / 6 / 20 - 06:59
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
هذا حديث عن الندوة التى عُقِدت فى إحدى قاعات مكتبة الإسكندرية يوم الخميس الموافق 12 إبريل الماضى ، وكانت هذه الندوة مخصصةً للحديث عن مجلتى " أماكن " و " تحديات ثقافية " . وقد أدار الندوة الكاتب الصحفى الأستاذ سعد هجرس مدير تحرير جريدة العالم اليوم . أما ضيفة الندوة فكانت الأستاذة ماجدة الجندى المحررة بجريدة الأهرام . ولقد أُثيرت قضايا هامة لا يجوز لنا فيها الارتجال أو الإيجاز ، وإنما تحتاج إلى شيء من التفصيل والوضوح . على أن أهم القضايا التى طُرِحت بهذه الندوة ، كانت قضية صعوبة التلقى من قبل القارئ لمجلة تحديات ثقافية. فلقد اعترض الأستاذ أبو العز الحريرى نائب رئيس حزب التجمع على صعوبة أسلوب المجلة ، وصرَّح بأنه لا يفهمها ، ويطالب بتبسيط أسلوبها حتى يفهمها الجميع ، ( ولا نعلم من هم الجميع ؟ ) . والحقيقةُ أن هذه القضية التى أثارها الأستاذ أبو العز الحريرى هى قضية هامة جدا ، و تأخذ أشكالا مختلفة فى شتى نواحى الحياة ؛ ففى مجال الشعر مثلا نجد أن أبا تمام ينظم شعرا رائعا ولكنه صعبٌ جدا لا يفهمه العامة ، فيقولون له : لماذا لا تقول ما يُفْهَم ؟ فيجيبهم قائلا : ولماذا لا تفهمون أنتم ما يقال ؟ ، بينما ينظم ابن نباتة المصرى شعرا عذبا يفهمه الجميع ، ولكنه هيهات أن يرقى إلى شعر أبى تمام . وعلى مستوى الفلسفة ، يطرح برتراند رسل وكارل بوبر فلسفةً صعبةً جدا ، بينما يطرح توماس كون فلسفة أقل صعوبة ، تقرأُ للأولين بضعَ صفحات فيصادفك التعب ، وتقرأ للأخير العديد من الصفحات دون أدنى شعور بالتعب ، ولكن هل بلغ توماس كون ما بلغه صاحباه من عمق النظر واتساع الموضوع؟ وعلى مستوى الثقافة – وهو موضوع الأستاذ أبو العز الحريرى – تقرأ فى مجلة تحديات ثقافية مثلا ، فيصادفك التعب جدا – على حد قوله – ولكنك تقرأ فى مجلة آخر ساعة أو أكتوبر ... إلخ وهى جميعا مجلات ثقافية فلا تشعر بالتعب ، بل تشعر بالراحة والاستمتاع ، وتظل غارقا فى هذه المتعة الثقافية إلى أن يغلبك النعاس – إذا كنت تقرأ فى المساء – فتنام قرير العين ، هادئ البال ، إذ لا مشاكلَ هناك ، فلا كلمات صعبة ولا أفكار معقدة تحتاج إلى إعمالِ الفكر . إن مجلة تحديات ثقافية مهتمة بتقديم تيارات الفكر العالمى المعاصر ، فكيف يتأتى ذلك إلا بالأسلوب الملائم لهذا الفكر ، وهو بالتأكيد لن يكون أسلوبا سهلا ساذجا ؟ والذى نود أن نقوله إن الثقافة – شأنها شأن أى مُعطَى اجتماعى – لها مستوياتُها ؛ فهناك مستوى المجلات والصحف اليومية والإذاعة ، والتليفزيون بما فيه من أفلام وتمثيليات وبرامج رائعة وممتعة مثل المناقشات والحواريات ، وبما فيه من برامجَ علميةٍ مبسطة مثل عالم الحيوان وعالم البحار والحوار الدينى والاجتماعى والسياسى ، وعرضٍ لمشكلات المجتمع المختلفة وطرحها للدراسة والنقد من المتخصصين ، بل أحيانا ما يشترك المشاهدون فى الحوار ،مثل مشاكل المرأة والطفولة والمشاكل العائلية ، وهناك المشاكل البيئية والأمنية ... ، والحقيقةُ أن المرء ليعجز عن إحصاء عدد هذه البرامج الثقافية ، كل ذلك يأتى فى أسلوب سهل مفهوم بالنسبة للمستوى الذى يريده الأستاذ أبو العز الحريرى .ومع كل هذا هناك من يشكو من أنه لا يفهم شيئا من كل ما سبق من مواد ثقافية رغم سهولتها الشديدة بالنسبة لنا على الأقل ، إنهم العمال الذين يكدحون طوال اليوم ويعملون بسواعدهم فى الأسواق والحقول وصيد السمك وأعمال البناء وحفر الترع وتطهيرها ، وغير ذلك من المهن الشاقة ، والأميون الذين لم يتعلموا القراءة والكتابة – وهم كُثْر- فهل نغير كل ما سبق لكى نجعله على قدر أفهامهم ؟ إننى أود أن أٌن أقول للذى يطلب الكتابَ السهل والمجلة السهلة ، إنك إذا قرأت شيئا من هذا القبيل ، وكان سهلا مفهوما ، فاعلم أنك تقرأ شيئا لا قيمةَ له بالنسبة لك، وأن معارفك لن تزداد إلا قليلا جدا ، هذا إذا كانت هناك معارفٌ أصلا ، والدليل على ذلك أنك قد فهمت ما قرأته. فأنت فهمته لأن كلَّ ما فيه – أو أغلبه – معروف لديك ، وليست فيه كلمة واحدة أو فكرة واحدة لا تعرفها . لهذا قلت لك إن هذا الكتاب لا قيمة له بالنسبة لك بالذات ، وقد يكون فيه قيمة لغيرك . ولكنك لو قرأت كتابا فوجدت فيه بعض المصطلحات التى لا تعرفها مثل كلمة ( إمبريقى ) ، أو كلمة ( عقلانى ) ، أو كلمة ( إبستمولوجى ) مثلا ، فانزعجت لوجود هذه المصطلحات ، فأنت واحد من اثنين ؛ إما أن تقف عند حد الانزعاج ، وتغلق الكتاب متهما كاتبه بالصعوبة والتعنت كما فعل الأستاذ أبو العز الحريرى ، وإما أن تبدأ من فورك فى البحث عن معانى تلك الكلمات . وبسؤال الأصدقاء سوف تعرف أنها تقع فى نطاق الفلسفة ، فتسعى للحصول على أحد الكتب المبسطة فيها ، وبعد أن تقرأه تكون قد قطعت شوطا وارتقيت درجة فى مضمار الثقافة ، ولا بأس بعد أن أصبحت الصورةُ مشرقةً أمامك أن تحصل على مدخل من مداخل الفلسفة – وهى كثيرة – لكى تتعمق أكثر فى فهم مثل هذه المصطلحات وفهم الأفكار التى تدور حولها . عندئذ نستطيع أن نقول إنك قد أصبحت مثقفا ، فالمثقف ليس هو الشخص الذى يعرف كثيرا من المعارف فى كل فرع من فروع المعرفة ويتباهى بهذه المعارف فى مجالسه الخاصة ، بل المثقف حقا هو الذى يكون مستعدا لبذل المزيد من الجهد الشاق لكي يعرف أكثر وأكثر من أجل فهم العالم . إنك لا تستطيع أن تلتحق بكلية من الكليات إلا إذا كنت مؤهلا لدخول هذه الكلية بجملة معينة من المعارف العلمية ، فلا تستطيعُ مثلا أن تلتحق بكلية الهندسة أو كلية العلوم وأنت من طلبة القسم الأدبى ... وهكذا ، وأقول للأستاذ أبوالعز الحريرى وغيره من القراء الذين يجدون مشقة فى قراءة مجلة تحديات ثقافية ، إن هناك حدا أدنى من المعرفة التى يجب تحصيلها قبل قراءة هذه المجلة ، وعليك أنت أن تسأل عن هذه المعارف ،وتحاول أن تحصلها من جانبك مهما بذلت من جهد ، إذ لابد أن تكون مستعدا للتضحية ما دمت قد حددت هدفا لك وهو أن تكون مثقفا ، وعلى قدر طاقتك للتضحية تكون قدرتك على اكتساب الثقافة . ولعلنا نستطيع الآن أن نجيب على السؤال الذى طرحناه فى أول هذا المقال : هل للتلقى مستويات ؟ نقول : نعم للتلقى مستويات وهى عديدة لا يمكن حصرها . وأن مسئولية تحديد المستوى تقع على عاتق القارئ وليس الكاتب ، والمثقف الحق هو الذى يحاول أن يرفع من مستوى تلقيه بصفة دائمة عن طريق التعلم المستمر . د. جلال شمس الدين
#جلال_شمس (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
السعودية.. شقيقة الأمير الوليد بن طلال وابنة الأميرة منى ريا
...
-
البحرية الكورية الجنوبية تجري أول مناوراتها في 2025
-
عبد العزيز آل سعود: كيف استطاع -نابليون العرب- توحيد المملكة
...
-
في ذكرى 6 يناير.. ذكريات الهجوم على مبنى الكابيتول الأمريكي
...
-
عودة ترامب تربك حسابات أوروبا في علاقاتها بروسيا وأوكرانيا
-
عاصفة تهدد 62 مليون أمريكي
-
انهيار جسر في ولاية أوريغون أثناء مرور قطار شحن عبره (صورة)
...
-
أنقرة: نحو 40 ألف سوري عادوا من تركيا إلى وطنهم منذ الإطاحة
...
-
مشروب بثلاث مكونات قد يساعدك على -تنظيف القولون وفقدان الوزن
...
-
-آبل- تتوصل لتسوية بقيمة 95 مليون دولار في قضية التجسس على م
...
المزيد.....
-
تداولية المسؤولية الأخلاقية
/ زهير الخويلدي
-
كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج
/ زهير الخويلدي
-
معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية
/ زهير الخويلدي
-
الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا
...
/ قاسم المحبشي
-
الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا
...
/ غازي الصوراني
-
حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس
/ محمد الهلالي
-
حقوق الإنسان من منظور نقدي
/ محمد الهلالي وخديجة رياضي
-
فلسفات تسائل حياتنا
/ محمد الهلالي
-
المُعاناة، المَعنى، العِناية/ مقالة ضد تبرير الشر
/ ياسين الحاج صالح
-
الحلم جنين الواقع -الجزء التاسع
/ كريمة سلام
المزيد.....
|