فلنعدْ إلي الوراء قليلاً، بضعة أسابيع أو أربعة شهور ليس أكثر، حين سقطت العاصمة العراقية بغداد في قبضة الغزو الأمريكي ـ البريطاني. دويل ماكمانوس، الكاتب في صحيفة لوس أنجليس تايمز الأمريكية، نقل آنذاك عن ضابط في قوّات المارينز الأمريكية قوله، بعد دقائق من توغّل دبابات وحدته في قلب بغداد: ها قد وصلنا. نحن الكلب الذي اصطاد السيّارة. ماذا سنفعل بها الآن ؟ وفي الواقع كان الضابط الأمريكي (الحصيف الحكيم المتطيّر شرّاً، كما يلوح) يعيد باللغة اليانكية صياغة الحكمة الشهيرة التي أطلقها في مطالع القرن التاسع عشر كارل فون كلاوزفيتز، الضابط البروسي الشهير وأحد أعظم أدمغة التفكير في شؤون الحرب ومعضلات السلام الذي يلي الإنتصار العسكري: في الحرب ليس ثمة نتيجة نهائية .
ولنفتح، مرّة جديدة، ملفّ البلاغة الأمريكية الرسمية التي اقترنت باكتمال الغزو العسكري. سيّد البيت الأبيض وإمبراطور العالم ما بعد 11/9، الرئيس الأمريكي جورج بوش، قال إنّ العراق الحرّ سوف تحكمه القوانين، لا الدكتاتور. والعراق الحرّ سوف يكون مسالماً وليس صديقاً للإرهابيين أو تهديداً لجيرانه. والعراق الحرّ سوف يتخلي عن كلّ أسلحة الدمار الشامل. العراق الحرّ سوف يضع نفسه علي طريق الديمقراطية .
وزير خارجيته، سيّد الحمائم آنذاك، قال إنّ ما يريده من العراق هو أمّة خالية من أسلحة الدمار الشامل، أمّة لها شكل تمثيلي في الحكم، تعيش بسلام مع جيرانها، لا تضطهد شعبها، وتستخدم ثروة العراق لصالح شعب العراق. أمّة لا تزال أمّة واحدة، لم تتشظّ إلي أجزاء مختلفة. ولسوف أضيف عنصراً ثانياً: مثال للمنطقة ولبقيّة أرجاء العالم. دولة مارقة ذهبت. مكان كان مصدراً للتوتر وعدم الإستقرار ولم يعد مكاناً للتوتر وعدم الإستقرار .
وزير الدفاع والقائد التنفيذي لفريق الصقور دونالد رمسفيلد، وبعد أن عدّد سلسلة أهداف عامّة تسعي إليها الإدارة من وراء احتلال العراق، اختصر الأمر في أعقاب سقوط بغداد علي النحو التالي: إعادة العراق إلي العراقيين . جيوشه علي الأرض كانت حينها منهمكة في إنزال أحمد الجلبي في الناصرية علي حين غرّة، وتمهيد الأرض لمجيء الجنرال المتقاعد جاي غارنر، وفتح شوارع البصرة وبغداد أمام اللصوص والمشاغبين وناهبي البيوت والدوائر الرسمية (والذين لم يكونوا، بأيّ حال، ممثّلي الشعب العراقي)، وحراسة مبني واحد وحيد في بغداد كلّها: وزارة النفط العراقية!
ولنتذكر، أيضاً، جملة الأفكار الجيو ـ سياسية التي نظّر لها رهط المحافظين الجدد في غمرة تبشيرهم بـ مشروع قرن أمريكي جديد ، والتي يمكن اختصارها اليوم في ثلاثة أهداف استراتيجية علي الأقلّ: 1) تحويل العراق إلي قاعدة عسكرية أمريكية ضخمة وحيوية، تزيل عن كاهل أمريكا أعباء بقاء قوّاتها في دول الخليج، والسعودية بصفة خاصة، وما يشكّله هذا الوجود من ذريعة قوية يستخدمها الأصوليون لتحريض الشارع الشعبي ضدّ الولايات المتحدة وتشجيع ولادة نماذج جديدة من أسامة بن لادن ومنظمات علي غرار القاعدة ؛ و2) السيطرة علي النفط العراقي، التي تشير كلّ التقديرات إلي أنه الآن يعدّ الإحتياطي الأوّل في العالم، أي بما يتفوّق علي السعودية ذاتها، خصوصاً احتياطيّ منطقة كركوك؛ و3) توطيد درس أفغانستان علي صعيد العلاقات الدولية، بحيث تصبح الهيمنة الأمريكية علي الشرق الأوسط، ومعظم أجزاء العالم في الواقع، مطلقة أحادية لا تُردّ ولا تُقاوم.
ويبقي، أخيراً، أن نستعيد أجواء ما قبل الغزو العسكري، حين كانت جميع المؤشرات تقول إنّ أمريكا ذاهبة إلي الحرب بالضرورة، عاد المفتشون إلي العراق أم لم يعودوا، وجري تجريد العراق من أسلحة الدمار الشامل أم لا (مَن يتذكّر هذه الخرافة الآن؟ مَن يعبأ حتي بتلفيق سيناريوهات العثور عليها؟). ذلك لأنّ جورج بوش، كما قلنا مثل الكثيرين سوانا، كان بحاجة إلي هذه المغامرة العسكرية لأسباب ذاتية تخصّ إنقاذ رئاسته ومنحها المضمون الذي تبحث عنه منذ مهزلة إعادة عدّ الأصوات في فلوريدا، وتقوية حظوظه في ولاية ثانية. كذلك كان الحزب الجمهوري بحاجة إليها من أجل الحفاظ علي أغلبيته في انتخابات تجديد الكونغرس، ومن أجل إلهاء الأمريكي عن فضائح المؤسسات المالية والمشكلات الإقتصادية والإجتماعية الأخري التي سكتت الإدارة عنها بذريعة انشغالها بـ الحرب علي الإرهاب .
ولننظر، بعد هذه الرجعة، إلي المشهد الراهن علي الأرض، ولنأخذ البلاغة الرسمية الأمريكية بجريرة أقوالها وأفعالها...
ــ هل يبدو العراق، كما أنبأنا سيّد البيت الأبيض، بلداً حرّاً سوف تحكمه القوانين، لا الدكتاتور؟ هل مجلس الحكم الشائه الصوري العاجز، الذي تمّ تنصيبه علي نحو كاريكاتوري مذهبي ـ طائفي ـ إثني ـ عشائري، والذي لا يختلف أبداً عن حال أية هيئة حكم مأجورة أقامتها أية سلطة احتلال علي مدار التاريخ، هو بديل الدكتاتور؟ وهل العراق تحت الاحتلال هو البلد المسالم، الذي لا يصادق الإرهابيين، ولا يشكّل تهديداً لجيرانه؟ وماذا يقول الرئيس الأمريكي في التقارير الاستخبارية التي أخذت تتكاثر كالفطر، والتي تقول إنّ العراق الراهن بات عشّ الإرهاب بامتياز، وأنّ جميع أفغان العالم يتقاطرون إليه خفافاً وثقالاً، في ضوء توفّر شروط عمل نموذجية لا تُري إلا في الحلم: توفّر الطريدة الأمريكية أينما ولّي الأفغاني وجهه في أرجاء العراق، وتوفّر الفوضي العميمة التي تجعل الرقابة والسيطرة والضبط ألهية عبثية، وتوفّر القاعدة الشعبية المتعاطفة مع مختلف تسميات مقاومة الاحتلال؟
ــ وهل يبدو العراق، كما تعهّد كولن باول، تلك الأمّة التي تخلّت عن، أو تمّ تطهيرها من، أسلحة الدمار الشامل؟ وماذا لو تبيّن أنّ بعض المعلومات التي انطوت عليها حملات واشنطن ولندن بصدد تصنيع وتخزين تلك الأسلحة، ليس صحيحاً تماماً ولكنه من نوع الأكاذيب التي سردها الراعي أكثر من مرّة قبل أن يداهمه الذئب؟ ماذا لو وقعت عملية إرهابية ضخمة، من نوع عمليتَي النجف ومقرّ الأمم المتحدة، مع فارق أنّ السلاح الكيماوي هو الذي سيُعتمد بدل العبوات الناسفة؟ هل قطع الرئيس الأمريكي أو رئيس الوزراء البريطاني توني بلير تعهداً للعالم بأنّ العراق بات خالياً من أسلحة الدمار الشامل؟ وما دام أيّ منهما لم يذهب نحو تلك المجازفة بعد، فما الذي يضمن أنّ العراق ما يزال يحتوي علي بعض، أو الكثير، من تلك الأسلحة القاتلة؟
ــ وهل انقلب العراق، كما أرادنا باول أن نحلم، إلي أمّة تتمتع بأي شكل من أشكال الحكم التمثيلي، بافتراض أنّ أيّ مجنون لن يوافق وزير الخارجية العتيد، و الجمهوري في الانتماء العقائدي، علي أنّ مجلس الحكم هو شكل تمثيلي في الحكم؟ وهل يعيش العراق بسلام مع جيرانه، حقاً؟ ألا يشتكي الأردن من تفجير سفارته؟ ألا تشتكي السعودية، وإنْ خفية، من انخراط أعداد كبيرة من السعوديين في تلك الهجرات الجهادية إلي العراق؟ وهل تُستخدم ثروة العراق لصالح شعب العراق بالفعل؟ أين ومتي وكيف؟ وإذا كان العراق ما يزال أمّة واحدة من حيث الشكل علي الأقلّ، ولم يتشظّ إلي أجزاء مختلفة بعد، فإنّ الشروخات الأفقية والشاقولية أخذت في الازدياد والتفاقم، وليس أكثر حطبها اشتعالاً سوي المقاربات المذهبية والطائفية والإثنية والعشائرية في تشكيل مجلس الحكم، والحقائب الوزارية، والمسؤوليات كافة. وفي كلّ حال، ليس العراق أبداً ما يريدنا باول أن نتطلع إليه: مثال للمنطقة ولبقيّة أرجاء العالم. دولة مارقة ذهبت. مكان كان مصدراً للتوتر وعدم الإستقرار ولم يعد مكاناً للتوتر وعدم الإستقرار .
ــ وهل تحققت أمنية وزير الدفاع الأمريكي في إعادة العراق إلي العراقيين ؟ ما تفعله الولايات المتحدة اليوم ليس النقيض فحسب، أي سلب العراق من العراقيين وتسليمه إلي لصوص غزاة شذّاذ آفاق، بل ما هو أسوأ وأدهي: إغراق البلد في وصايات عسكرية وأمنية عالمية (ومن هنا الدعوة إلي قوّات حفظ سلام !)، ومواصلة نهب ثرواته وتنفيذ أغراض الاحتلال الجيو ـ سياسية تدريجياً ومنهجياً (ومن هنا عودة جاي غارنر إلي العراق، ولكن من باب المال والأعمال!). وليس من المدهش أبداً أن تتحدّث واشنطن اليوم عن دور، أو أدوار، للأمم المتحدة والمجتمع الدولي في ضبط أمن العراق وإعادة إعماره. ولكن... قوّات حفظ سلام بين مَن ومَن؟ وهل انقسم العراق إلي إمارات وجيوش وميليشيات متصارعة، لكي يسارع أهل الخوذات الزرقاء إلي احتلال مواقعهم في العراق، ويرفعوا علم الأمم المتحدة فوق الخراب؟
الحال أن واشنطن تريد احتلال العراق، وتريد من العالم أن يحارب المقاومة العراقية للاحتلال، بالنيابة عنها، في آن معاً. ومدهش أنها تسعي إلي الحصول علي هذا الطلب من المجتمع الدولي، ممثلاً بالأمم المتحدة وأقرب الحلفاء الأوروبيين، وهي التي وضعت هؤلاء خلف ظهرها تماماً، وبالكثير من الغطرسة والتصغير والتحقير. ذلك لأنّ الهيئة الدولية الأعلي، الأمم المتحدة، ليست جزءاً ذا قيمة ملموسة في التخطيط الإستراتيجي الأمريكي، أو هي ليست عائقاً أمام خطط الهيمنة الإمبريالية في عبارة أخري أكثر وضوحاً. وبصدد المسألة العراقية تحديداً، وذات يوم غير بعيد في التاريخ، كان السناتور ترنت لوت، الرئيس السابق للأغلبية الجمهورية في مجلس الشيوخ الأمريكي (والذي أطاحت به مؤخراً تصريحاته ذات الرائحة العنصرية)، قد استفظع أن يثق رئيس الولايات المتحدة برجل يعلن من نيويورك وعلي الملأ الأعلي أنه يثق بقاتل جماعي. وبالطبع، كان الواثق ذاك هو كوفي أنان الأمين العام للأمم المتحدة، وكان الموثوق به هو الرئيس العراقي صدام حسين، وأما الرئيس الأمريكي فيستوي أن يكون جورج بوش الإبن، أو الأب، أو بيل كلينتون.
والحقّ أنّ أداء باول أمام مجلس الأمن الدولي خلال أسابيع الحشد التي سبقت ساعة الصفر لم يكن يرتقي، البتة، إلي أداء مادلين أولبرايت أمام المجلس ذاته في سياقات مماثلة. وكانت وزيرة الخارجية السابقة تعيد وتكرّر ما سبق أن قالته أثناء شهادة تثبيتها في المنصب، مطلع عام 3991، من أنها لن تسمح بالتنازل عن السيادة الأمريكية للأمم المتحدة، في منطقة ذات مصالح حيوية للولايات المتحدة في أي مكان من العالم ، وكانت بذلك تلغي مبدأ التدخل متعدّد الجنسيات... تلغيه تماماً. غير أنّ العودة الأمريكية الراهنة إلي الأمم المتحدة هي العلامة الأولي علي تبدّل خيارات واشنطن في العراق، وبداية إحساس البيت الأبيض بضغوطات ما يجري في الفلوجة والنجف وبغداد، وخطوة التنازل النوعية الأولي منذ سقوط العاصمة العراقية... وأوّل الغيث قطر!
وغداة اكتمال الغزو اعتبرنا أنّ الولايات المتحدة وضعت قدميها في المتر الأوّل من المستنقع العراقي، وهي مجبرة تالياً علي التوغّل أبعد ــ وأعمق وأعقد ــ في مياه أخري غير ضحلة، حيث المفاجيء والطاريء واللامتوقع واللامحسوب. والأشدّ سهولة في تلك المغامرة الأمريكية كان الإنتصار العسكري: شتّان ما بين الآلة العسكرية الأمريكية الأقوي والأعتي، والآلة العسكرية العراقية الصدئة العتيقة. غير أنّ الأوحال الحقيقية في المستنقع العراقي لم تكن تبدأ من حيث يبدأ الشطر العسكري في برنامج الغزو الأمريكي، أو من اكتمال الحجة الأمريكية في تغليب الحرب علي الدبلوماسية، بل من حيث تنتهي أعمال هذَين الشطرين تحديداً، حين يتوجب علي الغازي مواجهة الحقائق العسيرة الشاقة الفعلية، ومعالجتها واحدة تلو الأخري.
ولا ريب في أنّ جميع جنرالات الجيش الأمريكي درسوا عقائد كارل فون كلاوزفيتز، إذا لم يكن بعضهم قد حفظها عن ظهر قلب. هدف الجيوش، قال كلاوزفيتز، يتجاوز بكثير حدود ساحات القتال والإنتصارات العسكرية، فالحرب شكل دبلوماسي أشدّ ضراوة، وساحة القتال ليست أقلّ من امتداد لقاعة المفاوضات، وأمّا الإنتصار الحقيقي فهو بناء سلام من نوع أفضل وأكثر ديمومة. وهيهات أن تنجح واشنطن في مقاربة حرب السلام هذه، فكيف بكسبها!