|
الشباب العربي وسؤال المعرفة الضائعة
أيوب المزين
الحوار المتمدن-العدد: 1950 - 2007 / 6 / 18 - 05:16
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
شحيحة هي الأبحاث والدراسات التي تناولت الشباب العربي بالتحليل والنقد. وعلى نُدْرَتِها، نصادف من حين لآخر باحثين نفسيين يحاولون استقراء عينات من الشباب على النحو السيكولوجي الضيق (=الاقتصار على المراحل الحياتية من طفولة ومراهقة وغيرهما) أو علماء اجتماع يعمدون إلى تفسير الظاهرة الشبابية في عموميتها السوسيولوجية (=تعميم الدراسة الأكاديمية وضياعها وسط الاستشكالات المجتمعية اللامنتهية)، ومنه فإن القراءة المتأنية كانت دائما عرضة للتقزيم بالتخصص أو التضخيم بالشمولية. في حين، كان الجدير بنا وضع كل أسئلة الشباب العربي داخل قوالب الثنائية التحليلية لتسهيل منهج البحث وجعل اهتمامات هذه الشريحة الحساسة من المجتمع في صُلْبِ العملية الانتقالية التي تدعي كل الأنظمة السياسية سعيها الحتيت لتكريسها. وكان الأجدر كذلك، أنْ نبدأ بالمعرفة كحلقة فُقدت داخل المنظومة الإدراكية للثقافة العربية: فقد غُيبَتْ الشروط اللازمة لممارسة الحريات العلمية والبحثية، التي تُعد ركيزة من ركائز مجتمع الإعلام والمعرفة، وتم تعويضها بآليات التسلط والقمع المعرفي كسبيل من سُبل إسكات الرأي الآخر وتنشئة أجيال عديمة الرؤية الدقيقة/الصائبة. كما احتكرت النخبة البورجوازية منابع المعرفة التكنولوجية ووسائطها المتجددة لصعوبة الوصول إليها من طرف عامة أبناء الشعب العربي نظرًا لإكراهات مادية ومؤسساتية...فما محل شبابنا من كل هذا؟ وهل يمكننا التسليم بكونه الجاني وليس المَجْنِي عليه؟. وإنْ كان حائرا بينهما، كيف نبعث فيه القلق الفلسفي بكل ما يحمله من عمق معرفي ودلالات علمية يتأكد يوما بعد يوم أنها مفتاح النهضة الحضارية؟... .
:المعرفة وفهم الشباب
يحدد الفيلسوف "ميشيل فوكو" علم المعرفة (أو المعرفة مرفوعة للقوة 2) على أنه نِتاج التدافع بين الإنسان وصراعات القوة الإدراكية، والمعرفة بذلك هي ما يترتب عن صدام بين المُكتشِف وعَالَمِ الاكتشاف فيخلق الثقافة المعرفية بأسُسِها النظرية ومبادئها العامة ومعطياتها المفاهيمية. إقحام الشباب هنا يستلزم استقصاء قابليته التعليمية وحضوره المبدئي (كمُكتشف) داخل الحقل الفكري (عالم الاكتشاف): للأسف، تُطرح عدة تساؤلات حول هذا الحضور/الغائب تارة والمُغيب تارات أخرى، فالشباب العربي - كما ورد في مؤشرات التنمية العالمية - متهم بتراجع إقباله على المطالعة وبانكبابه على سلبيات التكنولوجيا وبكونه عازف، بجهل، عن السعي وراء المعرفة الحقيقية والتي تشمل على وجه الخصوص العلوم الإنسانية (فلسفة، لاهوت، تاريخ، أدب،...) والنظم المعلوماتية الحديثة. علاوة على ذلك، يتعمد الجيل السابق خلق عقدة التفوق على حساب شباب العصر الحالي ويُلصق به كل النتائج القدحية التي آلت إليها الأمة !، مع أنه (الجيل السابق) كان طرفا في تكوين فراغ نقدي قتل العقل المدقق وأحيى على أنقاضه العقل الخرافي الذي استمد معرفته الرجعية من العادات والأساطير البائدة. والحقيقة، بعد رفع اللوم عن الطرفين، بعيدة أن تكون على هذا النحو، فلا يمكننا التسليم أن أحفاد فلاسفة وعباقرة الفكر العربي والإسلامي تخلوا عن كنز أجدادهم وتراثهم الحضاري بهذه السهولة التي تعْرضها التقارير الرسمية ولو كانت مؤشرات إحصائية مضبوطة !. نعم، الضرورة التأسيسية لأجيال شابة تمتلك ميكانيزمات التنظير، القيادة والتطبيق، تستدعي العودة إلى الذات المبدعة في شبابنا لفهمه، وليس الحُكم عليه من خلال المسح الميداني الذي يكتفي بجرد القدرات الظاهرة ولا يراعي عادة الطاقة الدفينة للعمل والقدرة المُخزنة لدى الشباب على التأثير العملي داخل المجتمع. لكن هذا لا يعني القفز على المشاكل الحقيقية، التي أعتبرها آنية فقط، من غياب نسبي للوعي السياسي وانتشار ممنهج للأمية وتغييب مُتعمد للمناخ الملائم لممارسة البحث العلمي وتفجير الطاقات الشبابية المتوفرة، سواء من طرف الأنظمة القمعية أو المشروع الغربي الهدام.
:احتكار المعرفة وتسييس مقاصدها
خرجت المجتمعات العربية من مرحلة الاستعمار الترابي مثقلة بشتى أنواع العلل الثقافية، ولم تَكَدْ تعزم على بناء الأوطان المنهكة حتى أدخلها القادة في متاهة نزاعات سياسية مشؤومة، نأت بالأجيال السابقة عن السعي وراء المعرفة الحقيقية، وجعلتها تتخبط بين ثقافة كولونيالية فاسدة ومعرفة دينية مشوهة. وباشرت النخبة، التي ادعت أحقيتها بالحكم، حجز مقاعد المؤسسات التعليمية لأبنائها على حساب باقي أبناء الشعب. والتاريخ المغربي، على سبيل المثال، يذكر ما مارسه الفاسيون (المزورون) من عنصرية معرفية وسياسية على باقي شباب المناطق المغربية الأخرى. وكيف أنهم كانوا يَدْعُونَ البدويين، كما يروي جدي الشُورٍيُ (حزب الشوري والاستقلال)، إلى رعي الأبقار عوض الاهتمام بالعلم !. من المعلوم أن الشباب يشكل الأغلبية الساحقة داخل المجتمعات العربية، وتؤكد دراسات الجغرافية البشرية أن قاعدة الهرم السكاني العربي في اتساع مستمر رغم شيوع القيم الفردية وما يتبعها من تحديد للنسل. وعليه، عمدت كل الجهات التي لا ترى مصلحتها في زواج يجمع الشباب بالمعرفة البناءة إلى وضع عراقيل عديدة: من جهته، عَمِلَ المشروع الغربي، بتواطئ مع عدد من الحكومات المغاربية على وجه الخصوص، على الترويج لسمومه الفرنكوفونية عبر مراكز الثقافة الفرنسية التي سعت طوال تمركزها في بلداننا نحو محو الهوية العربية لشبابنا واستغلال التهميش الذي يتعرض له اقتصاديا واجتماعيا لشراء ذمته الثقافية وكينونته الإنسانية أيضًا !، مستفيدة من ثغرات المؤسسة التعليمية العربية وعدم نجاعة مقرراتها الدراسية من حيث الجودة البيداغوجية والضبط المعلوماتي: فالتعليم عندنا ما زال مبنيا على منطق التلقين الأستاذي المكدس والجاف، ما يحد من تفاعل المتلقن مع الدرس ورغبته في التعلم. من جهة أخرى، بقيت غالبية الأنظمة العربية متخوفة من بزوغ جيل من الشباب يفقه ما شاء الله في حقوقه ومطالبه المشروعة، فكانت تفرض رقابة على دروس الفلسفة واللغة العربية ونهجت سياسة تقشف ماكر (عقب برنامج التقويم الهيكلي من 1982 إلى 1983 في المغرب) امتنعت بموجبها عن بناء الجامعات ومراكز الأبحاث العلمية. بل وشجعت في مرحلة من المراحل هجرة الأدمغة الشابة إلى الخارج لترتاح من وِزْرِها المادي.
:بعث الشباب العربي
يشكل مفهوم البعث تطلعا وجوديا متجدداً للحياة بعد الموت. واستعارته هنا من باب التأكيد على الأمل الكبير الذي يشكله الشباب العربي كمنقذ بطولي للأمة العربية. لكن هذا الانقاذ لن يتأتى بمنح المعرفة لطبقة اجتماعية دون أخرى، أو بالتطبيل والتزمير لموجة الـ"الهيب-هوب" التافهة وغيرها من حركات "الغربنة" التي ألهت شبابنا عن الاعتكاف على التراث المعرفي العربي والعمل على تجديده. وما دمنا ندعي الاندماج في مجتمع الإعلام والمعرفة، سنكون مطالبين بـ"دمقرطة" المعلومة وحسن توزيعها بشكل عادل يراعي الوضعية الحياتية للشباب. وسيصبح لازما على الوزارات المعنية الاهتمام بالمواضيع المحورية بالنسبة للأجيال القادمة كالتعليم العالي والبحث العلمي والصرف عليهما. وكذا دمج التكنولوجيا المتطورة في لائحة منابع اكتساب المعارف، مع الحرص على رفع النخبوية عنها بجعلها في متناول العموم داخل المكتبات العامة وفي دُورِ الثقافة... . الأهم من كل هذا، هو إعادة الثقة لنفوس الشباب وتشجيعهم على أخذ المبادرة المعرفية والتخصص في الشُعَبِ الفلسفية والأدبية لكونها اللبنة الأولى لإحداث الانفراج الحضاري المنشود. إن الشباب العربي ليسوا مريدين يتحكم بهم شيوخ الزوايا الدينية ولا مناضلين بلداء يقودهم الكهلة من زعماء الأحزاب السياسية، وإنما هم صناع المستقبل المشرق وحاملو المشعل التغييري لهذه الأوطان المجروحة. وإنْ كان السحيق من العهود قد حمل لنا –نحن الشباب- من الإقصاء الكثير فإن اللاحق منها سيجلب لنا من الحضور الإيجابي الكثير..الكثير.
#أيوب_المزين (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
العلمانية التي ندافع عنها !
-
شباب الثورة أم ثورة الشباب؟
-
همس عاشق
-
قسم المسيرة المظفرة...مسيرة حب
-
عرب بلا نظم سياسية ولاتنمية حقيقية
-
ظاهرة الحِجاج اللغوي ونشأة منطق اللغة
-
الوحدة المغاربية ومشروع النهضة في الوطن العربي
-
قراءة نقدية في تراتيل عبد الحميد العوني الشعرية مدرسة الصورة
...
-
الحسناء التي... -إلى كوثر
-
قراءة في مقال (*)-إعلان العاصفة على المؤسسات الدولية-
-
أهذه مبادرتك الوطنية لتنمية البشر يا ملك؟
-
الدخول المدرسي على الطريقة المغربية !!!
-
من -كفاية- في مصر إلى -باراكا- في المغرب: على طريق تأسيس وعي
...
-
حجاب المرأة بين ستر المفاتن وإخفاء القذارات
-
قراءة في كتاب البطن العالمى بين الولائم والوضائم
-
لاجئ طبيعي
-
الرجل المثمر- المهدي المنجرة
-
مجلس النوام _ عن كتابي: صرخات حق يحتضر
-
فاس العتيقة بعد مجيء القمر وبعد هروبه
-
حبيبة القلب
المزيد.....
-
كازاخستان تحسم الجدل عن سبب تحطم الطائرة الأذربيجانية في أكت
...
-
الآلاف يشيعون جثامين 6 مقاتلين من قسد بعد مقتلهم في اشتباكات
...
-
بوتين: نسعى إلى إنهاء النزاع في أوكرانيا
-
-رسائل عربية للشرع-.. فيصل الفايز يجيب لـRT عن أسئلة كبرى تش
...
-
برلماني مصري يحذر من نوايا إسرائيل تجاه بلاده بعد سوريا
-
إطلاق نار وعملية طعن في مطار فينيكس بالولايات المتحدة يوم عي
...
-
وسائل إعلام عبرية: فرص التوصل إلى اتفاق في غزة قبل تنصيب ترا
...
-
الطوارئ الروسية تجلي حوالي 400 شخص من قطاع غزة ولبنان
-
سوريا.. غرفة عمليات ردع العدوان تعلن القضاء على المسؤول عن م
...
-
أزمة سياسية جديدة بكوريا الجنوبية بعد صدام البرلمان والرئيس
...
المزيد.....
-
تداولية المسؤولية الأخلاقية
/ زهير الخويلدي
-
كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج
/ زهير الخويلدي
-
معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية
/ زهير الخويلدي
-
الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا
...
/ قاسم المحبشي
-
الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا
...
/ غازي الصوراني
-
حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس
/ محمد الهلالي
-
حقوق الإنسان من منظور نقدي
/ محمد الهلالي وخديجة رياضي
-
فلسفات تسائل حياتنا
/ محمد الهلالي
-
المُعاناة، المَعنى، العِناية/ مقالة ضد تبرير الشر
/ ياسين الحاج صالح
-
الحلم جنين الواقع -الجزء التاسع
/ كريمة سلام
المزيد.....
|