الطائفية، أي تشخيص وأي علاج؟
محمد علي مقلد
الحوار المتمدن
-
العدد: 8565 - 2025 / 12 / 23 - 08:41
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
من أجل تصويب بحثي، قبل نشره، عن الطائفية وعن الحلول وعن المسؤولين عن عقم المعالجات السابقة، آمل أن تشاركوني في نقاش هذه الظاهرة.
استناداً إلى فرضيتي أدناه، توصلت منذ بداية التسعينات إلى شعار لا حل للطائفية ولسواها من الأزمات اللبنانية المتناسلة إلا بالدولة، وقد أوقعني هذا الاستنتاج في خصومة مع رفاق وأصدقاء ومع كل الأحزاب والميليشيات، بدءاً بالحزب الشيوعي الذي انتميت إليه. الحياة أقنعت الجميع، باستثناء القابضين على السلطة، بأهمية الدولة، أما موضوع الطائفية فما زال يرزح تحت وطأة تكرار ممل يستعاد فيه التشخيص ذاته والعلاجات ذاتها منذ الاستقلال حتى اليوم. بدوري سأعيد طرح فرضيتي ذاتها، وهي مفصلة في كتابي أحزاب الله، لتشكل مدخلاً للنقاش.
الطائفية، لغةً، إسم يشبه في تركيبه كل المصطلحات التي تعبر عن مذهب فكري أو اجتماعي أو سياسي، مثل الاشتراكية، الماركسية، المانوية، الأرستقراطية، الرأسمالية، العنصرية، الصهيونية وغيرها. وهي وإن كانت ظاهرة لبنانية بالدرجة الأولى إلا أنها موجودة، كصيغة تعددية، في سائر البلدان العربية وإن اتخذت أشكالاً متنوعة كالطوائف والإتنيات في لبنان، والتنوع الديني والإتني واللغوي في البلدان العربية الأخرى، من الأكراد في المشرق إلى الأمازيغ في المغرب، مروراً بالأقباط في مصر والانتظام العشائري الممتد من بادية الشام حتى الصحراء في الشمال الإفريقي. أما في بلدان العالم فأشكال التنوع لا تحصى ولا تعد. انطلاقاً من هذا التعريف الأولي يطرح السؤال، لماذا تمكنت دول رأسمالية كبيرة وواسعة كالولايات المتحدة الأميركية والهند من معالجة ظاهرات مماثلة تفوق الحالة اللبنانية تنوعاً وتعدّداً فيما فشلت دول أخرى؟ الجواب الأولي هو أن نجاح مثل هذه التجارب في العالم مرتبط، ارتباط علة بمعلول، بنجاح الدولة الدستورية الحديثة، وفشلها بفشلها. ففي ظل الدساتير الحديثة وسيادة القانون يتساوى المواطنون في حياتهم العامة وعلاقتهم بالدولة، ويتمتعون في حياتهم الخاصة بحرية المعتقد. الدولة هي المسؤولة عن حماية الحق بالاختلاف، من ضمن مسؤوليتها عن حماية «حقوق الإنسان» كافة.
أما لماذا تحولت، في لبنان، إلى أكثر الظاهرات تعقيداً، فلأن سياسيي لبنان حرفوا الظاهرة عن مجراها الحقيقي، ولأن مفكري القوى السياسية اللبنانية غاصوا في بحوث عن الطائفية والتنوع والتعدد، هي، من غير شك، مفيدة وصحيحة ومثمرة وذات جدوى في جميع مجالات البحث العلمي، لكن مؤداها العملي التطبيقي على الصعيد السياسي، خلال ما يقارب القرن، أثبت عدم قدرتها على المعالجة وعلى تقديم الحلول، ربما لأنها، كأبحاث سوسيولوجية، لم تجد من يترجمها إلى مهمات سياسية ملموسة، وربما لأنها استعملت في المعالجة مفردات من خارج اللغة السياسية المعتمدة في قاموس الحضارة الرأسمالية ودولة الحق والقانون. وهي لم تثبت عقمها فحسب، بل غدت عائقاً معرفياً وسياسياً أمام بناء الدولة.
التيار العلماني في لبنان لم يكن أقل ارتباكاً حيال هذا الوافد الغريب. فقد بدأت ورشة إقامة الدولة الدستورية في المشرق العربي، لبنان وسوريا والعراق، وفي مصر في فترة ما بين الحربين العالميتين. ما أن بدأت مرحلة الاستقلال حتى ظهرت الاعتراضات لا على السلطات الحاكمة فحسب، بل وعلى الدولة أيضاً، وكان لبنان الناجي الوحيد من نكبة الانقلابات العسكرية. غير أن القوى التي كانت ترفع راية العلمانية فيه وجدت أن الدولة ليست علمانية ولا ديمقراطية بما فيه الكفاية، وأن النظام السياسي هو نظام طائفي، استناداً إلى أن تركيبة السلطة السياسية فيه تعكس تركيبة المجتمع بتنوعه الطائفي.
من جانبنا نميل إلى الاعتقاد بأن الطائفية ظاهرة موجودة، نتيجة التنوع الديني والطائفي، في بنية المجتمع وفي العادات والتقاليد والثقافة، أي قبل قيام الدولة الحديثة، وبالتحديد في ظل حكم السلطنة العثمانية ونظام الملل، وقد تكون موجودة في النظام السياسي وفي أجهزة الدولة وفي السلطة السياسية، أما الدولة ككيان معنوي رمزي فهي، في لبنان، قائمة على الدستور الذي يساوي بين المواطنين، وبالتالي لا يصح القول إن الطوائف ليست طوائف إلا بالدولة( مهدي عامل). وربما استقام المعنى لو قلنا إن الطوائف ليست طوائف إلا بالسلطة السياسية، أي بأجهزة الدولة وليس بالدولة، مع الإحالة دوماً إلى ضرورة التمييز بين الدولة وأجهزتها وسلطاتها وبينها وبين النظام.
ربما كان هذا التمييز هو الذي دفع العلمانيين إلى المطالبة بإلغاء الطائفية السياسية، ربما اعتقاداً منهم أن الطائفية في المجتمع ظاهرة طبيعية وهي ليست مرذولة إلا في السياسة، وهذا صحيح. وسرعان ما ظهر أن إلغاء الطائفية من السياسة هو شعار غير قابل للتنفيذ، لأن الطائفية، ببساطة، غير موجودة على الصعيد السياسي إلا في ما يعتقد أنه «توزيع للسلطات الدستورية، رئاسة الجمهورية والحكومة والمجلس النيابي، على الطوائف». في الحقيقة هناك توزيع للسلطات لكنه ليس توزيعاً على الطوائف بل على مسؤولين ينتمون إلى طوائف، وقد أثبتت التجربة أن الطائفة ليست هي المستفيدة من وجود ممثل لها في السلطة السياسية، بل إن ممثلها هو الذي يتقن توظيف الطائفة لخدمة مصالحه ومصالح حزبه وحاشيته، بالتجييش وشحن الغرائز ضد الآخر المختلف داخل الطائفة ذاتها أو خارجها. ولهذا فإن إلصاق نعت «الطائفي «بالنظام والدولة يسيء إلى النظام والدولة ككيان رمزي جامع، وهو نعت قد يصح على أصحاب السلطة الممسكين بمقاليد الحكم وأجهزة السلطة باسم الطوائف.
في تفسيرنا لهذه الظاهرة لاحظنا أن النظام اللبناني علماني مدني لا ينتقص من علمانية دستوره البند الذي يوجب عدم حصر المسؤوليات بين أبناء طائفة واحدة، خصوصاً أن معيار الكفاءة كان يجعل المسيحيين، في مرحلة الاستقلال، أوفر حظاً من سواهم لتولي مسؤوليات عامة في الدولة. غير أن الذين تولوا إدارة شؤون الدولة بدل أن يطبقوا الدستور، استحضروا من الحضارة السابقة الأسس التي قام عليها نظام المحاصصة (المغارسة والمساقاة والمرابعة والمخامسة، الخ) وتقاسموا سلطة الدولة وثروتها وإدارتها، كأنها ملك لهم وللورثة من بعدهم، ووظفوا شعار إلغاء الطائفية السياسية فصوروه مطلباً إسلامياً هدفه النيل من صلاحيات رئيس الجمهورية، ليقابله شعار العلمنة الكاملة الذي صوروه مطلباً مسيحياً، ما هيأ لهم المناخ ليجعلوا، عبر الممارسة، انتهاك الدستور والقوانين حاجة لحماية حقوق وهمية للطوائف، وهي ليست في الحقيقة إلا لحماية مصالح مادية لزعماء الطوائف من السياسيين ورجال الدين.
*****
أطرح فرضيتي عن الطائفية وخلاصتها أن التشخيص المغلوط استتبع علاجاً مغلوطاً، وأن المسؤولين عن ذلك هم السياسيون والمثقفون على حد سواء، ولاسيما المؤرخين. ما رأيكم، دام فضلكم؟