من قتل مهدي عامل ولماذا قتلوه؟


محمد علي مقلد
الحوار المتمدن - العدد: 8552 - 2025 / 12 / 10 - 22:19
المحور: مواضيع وابحاث سياسية     

إلى الذين يحبونه ولم يقرأوه
نبدأ من المحل الشاق، من نصوص منسوبة إلى قادة ومفكرين في الحزب الشيوعي اللبناني. وهو شاق بنوع خاص لأن أصحاب النصوص أصدقاء تعلمت منهم كيف أخطو خطواتي الأولى في صفوف اليسار وفي مسيرة الثقافة الماركسية، مع تحفظ فحواه أن انتماء المرء إلى الحزب الشيوعي لا يمنحه الزعم بأنه صار ماركسياً. وهو شاق بنوع أخص لأن أحد أصحاب هذه النصوص هو مهدي عامل، استاذي وصديقي ورفيقي، وأنا مدين له بالتجرؤ على الكتابة أول مرة، قبل انفجار الحرب الأهلية، نصاً في نقد مجلة "مواقف" ورئيس تحريرها أدونيس، يوم كان الشاعر الكبير محصّنا بهالة من المهابة جعلت المشرفين على مجلة الطريق التي يديرها المكتب السياسي للحزب يمتنعون عن نشر مقالتي فيها.
قد يقول قائل، ماذا عدا مما بدا لنعود، بعد ثلاثة عقود على استشهاده، إلى قراءة مؤلفاته قراءة نقدية في سياق الكلام عن الأصوليات وأحزاب الله. وللحقيقة، أنني بدأت ورشة إعادة النظر قبل ذلك بكثير، منذ لحظة اغتياله الذي أثار أسئلة تتعلق بتجربتنا الحزبية والوطنية، ولا سيما أن ذلك تزامن مع بداية أزمة الحزب واليسار والحركة الشيوعية، فكتبت ما يتجاوز الرثاء إلى رفع صوت الشكوى ملمّحاً إلى ما آلت إليه حال الحزب، (جريدة السفير، 20 - 6 - 1987)
«غداة موتك اهتزت خطواتنا، وفي ما ترسّب منك في آذاننا وعلى أوتار قلوبنا نستجمع أحزاننا وأحلامنا كاليتامى بحثاً عن كلام تنضح منه الحقيقة... وإذا كنا يا حسن قد فقدنا بغيابك بعضاً من نكهة الصبر وشهية العناد، فلأن الكورس قد شرد عن اللحن، ولأن أفراد الجوقة تاهوا في ركام من عزف منفرد»
عام 1994 نشرت في مجلة الطريق بحثاً طويلاً عن الأصوليات اليسارية، ثم أنتقلت من التلميح إلى التصريح في كلمتي أمام مؤتمر الحزب قلت فيها:«أيها الشيوعيون، احذروا من تبشير الشيوعيين بأنهم ماركسيون، وإن فعلتم فإنكم تجعلونهم ينامون على حرير الجهل. لا تطمئنوهم إلى ماركسيتهم، بل دعوهم يقلقون عليها، حتى يدفعهم القلق إلى نبش ما في نفوسهم من قيم ومبادىء تشبه ماركس. لا تجعلوا النصوص مقدسة لكن لا تتنكروا لها أو تتراجعوا عنها أو تنقلبوا عليها، فنصوصنا كأولادنا، ليست لنا بل هي للحياة. دعوها تنمو وتكبر برعايتنا وبرعاية الحياة. تحرروا منها ودعوها تتحرر منكم حتى لا نكون عبيداً لها وأصوليين، ولطالما كنا أصوليين، ولطالما أفرطنا في أصوليتنا.»
ثم إلى النقد في تكريمه في الذكرى السنوية لاغتياله، عام 2002، «حسن حمدان أصولي ماركسي بامتياز. هو مفكر ثوري أصيل بامتياز. ولئن كانت الأصولية الماركسية تشبه كل أصولية، بما هي عودة إلى أمهات الكتب لفك رموز الحاضر، غير أن أجتهاد مهدي في الحقل السياسي أنتج نظرية نمط الانتاج الكولونيالي، على غرار اجتهاد سمير أمين المتعلق بالتطور اللامتكافئ في حقل الاقتصاد، واجتهادات سواهما على صعد أخرى، وهي اجتهادات تتوخى دفع عجلات التاريخ إلى الأمام، لكي تمضي البشرية نحو مستقبلها التقدمي. أما الأصوليات الأخرى، بما في ذلك أصوليات ماركسية، فهي تمضي في شد التاريخ إلى الوراء.» (جريدة السفير18-5-2002)
من الواضح أن منسوب الشكوى بدأ باكراً وأخذ يتصاعد مع نمو القراءة النقدية للتجربة. شكوى؟ ممن؟ شكوى منه وعليه وعلينا نحن، عائلته وأصدقاءه ورفاقه وحزبه. فقد بات معروفاً أنه هو الذي حمل إلى عائلته خبر اغتياله منشوراً في صحيفة، وأصر على ألّا يحمي نفسه من موت معلن، وعلى ألّا يغادر «لأنها البداهة في ضرورة أن يكون المثقف ثائراً، أو لا يكون، وفي ضرورة أن تكون الثقافة للفرح الكوني ضد كل ظلامية، أو لا تكون» (محاضرة منشورة بصوته على الأنترنت). ولأن البداهة تقول بتلازم المعرفة والثورة، في نظره، تلازماً لا يساويه تلازم الجفن والعين(فيصل دراج، مجلة الطريق، عدد 5-6 - 1988ص82)، ما ألزم هذا المفكر الثوري بالمواجهة حتى لو كانت غير متكافئة بين القلم وكاتم الصوت.
شكوى بل صرخة مكتومة استبطنت أسئلة ليست كتلك التي تطرحها أجهزة الأمن والمباحث الجنائية لمعرفة هوية القاتل والجهة التي ينتمي إليها، بل أسئلة سياسية وجدانية نطرحها، نحن أهله ورفاقه وحزبه، عن حصتنا من المسؤولية عما إذا كان وكنا شركاء، من حيث لا ندري، عن عملية اغتياله. وهي ليست من نوع التشكيك أو الاتهام أو التخوين، بل هي بحث في البراكسيس النظري والسياسي، الأثير على منهجه في التفكير، وعلى منهج النقد والنقد الذاتي.
سيل من الأسئلة احتشد في عقولنا: لماذا مهدي بالذات، ولماذا في هذا الوقت بالذات؟ لماذا لم يعمل ولم نعمل على تأمين حمايته ؟ لماذا لم يهاجر؟ لماذا لم يتخفّ؟ هل قُتل بسبب أفكاره؟ وهل أفكاره هي ملكه أم هي من الأملاك العامة الحزبية؟ هل هذا هو مصير كل مثقف ماركسي؟ ما مسؤوليتنا نحن، المريدين والمعجبين والمروجين لأفكاره على المنابر والمنصات؟ هل نتحمل جزءاً من المسؤولية في لفت الأنظار إلى «خطورة» أفكاره؟ هل كان يمكن تفادي موته؟ هل كان ضرورياً أن يوظف «مغامرته» الفكرية في معركة التغيير؟ هل كانت الظروف ملائمة حقاً للتغيير الثوري؟ هل كان ضرورياً أن ننخرط في هذه الحرب منذ البداية؟ إلى آخر سلسلة الأسئلة التي ظاهرها تعبير عن ألم، وباطنها بحث عن حقيقة توهمناها جلية في إجابات مهدي الحاسمة والقاطعة على كل الأسئلة.
اغتيال كمال جنبلاط لم يكن كافياً لتبديد الغموض. فقد اعتقدنا، نحن العامة من المناضلين، أن قائد الحركة الوطنية ذهب ضحية اختلاف على نهج المواجهة مع العدو الخارجي، غير أن اغتيال مهدي وضعني وجهاً لوجه أمام حقيقة مؤلمة، وهي أن الحروب الداخلية أكثر خطراً على الوحدة الوطنية من أي عدو خارجي، وأنها المولود الطبيعي لسياسة الاستبداد الشامل، استبداد الأنظمة بالأحزاب والأحزاب والميليشيات بالشعوب. ثم صارت الإجابة أكثر إيلاماً بعد أن دخل الحزب والحركة الشيوعية مرحلة «زمان القطع» من الأزمة، والمصطلح هذا هو من تأليفه.
تدرجت الجرأة في النقد من إشارة وتلميحات إلى فرضية متكاملة أعادت النظر بالبراكسيس النظري والسياسي الذي تعلمناه من مهدي، إلى الحد الذي بتنا معه مقتنعين بأن من واجبنا القيام بما كان سيقوم به هو بالتأكيد، فيما لو بقي حياً. لكن، رغم اقتناعنا الراسخ بأن مهدي هو الأقدر والأجدر والأولى والأكثر جرأة منا للقيام بعملية النقد والنقد الذاتي، لكن «الأفكار التي بلورها مهدي، مثل كل الأفكار العظيمة، لم تعد ملكه، وأن أفضل طريقة لإبقاء الأفكار العظيمة حية هي مناقشتها» (عصام الخفاجي، مجلة الطريق، كانون الأول 1988، ص127)
شعار»الاشتراكية هي الحل» يشبه، من حيث الشكل فقط، شعار الإسلام هو الحل أو شعار الوحدة العربية هي الحل، أما الفوارق بينها فهي كبيرة جداً. لكن ما يعنينا عند الكلام عن "أحزاب اللّه" هو المشترك الذي أسس لتحالف غير وطيد وتعاون غير صادق، أو لمعارك دامية بين رافعي هذه الشعارات. مبدأ التحالف غير الوطيد هذا هو الذي قتل مهدي.
الحتميات، على تناقضها وتباينها، هي المشترك في منهج التفكير داخل هذا التحالف، يضاف إليها الاعتقاد، المشترك أيضاً، بأولية العوامل الخارجية، وتحميلها مسؤولية التخلف، وهو ما جعل أصحاب هذا المنهج يلتقون في حقل نضالي واحد لمواجهة عدو «خارجي» على الدوام، يتمثل على الكرة الأرضية بالإمبريالية أو الشيطان الأكبر، وبالرجعيات المحلية، بصفتها عميلة للأمبريالية، فضلاً عن الصهيونية والمتواطئين معها في منطقتنا العربية. ومن نافل القول أن السلطات الحاكمة عمّمت هذا المنهج من التفكير ورسخته في الوعي العام وحظرت كل فكر نقدي تحت طائلة التخوين والمحاكمة والاغتيال، وفرضت باسم الحقائق المطلقة والحتميات أنظمة تقوم على الأحكام العرفية وتمارس كل أشكال الاستبداد، ولا فرق بين أن تكون هذه الحتميات ذات أصول دينية أو قومية أو ستالينية.
على هذا الأساس يكون من المنطقي الظن بأن هذا النوع من الحتميات، دينية كانت أم علمانية، هو المسؤول عن اغتيال مهدي عامل، وبهذا المعنى طرحنا التساؤل الفلسفي والسياسي، أي التساؤل غير الأمني، عن حصتنا من المسؤولية، بصفتنا ننتمي إلى مدرسة الحتميات والحقائق المطلقة ذاتها، التي قد تكون غيبية كما في الأديان أو استشرافية كما في الماركسية اللينينية الستالينية، أو شوفينية كما في الحركات القومية.

*من مقدمة كتاب "أحزاب الله" توزيع دار النهار للنشر