صوبوا على الطائفية وما أصابوا


محمد علي مقلد
الحوار المتمدن - العدد: 8556 - 2025 / 12 / 14 - 02:54
المحور: مواضيع وابحاث سياسية     

هذا فصل من ورقة أعددتها عام 2003بناء على طلب من قيادة المعارضة الحزبية تحضيراً للمؤتمر التاسع للحزب الشيوعي اللبناني. لم تقدم أمام المؤتمر، لا لأن المعارضة لم توافق عليها، فهي لم تكن لتوافق على شيء لأنها لم تكن تملك مشروعاً سياسياً بديلاً، حتى أن أحداً من أهل السلطة والمعارضة في الحزب وفي الدولة، لم يكن في وارد الموافقة على مشروع الدولة. استعدت الورقة من محفوظاتي لأستأنس بآرائكم حول سبل معالجة المسألة الطائفية، واقتراحي أن تكون البداية من استبدال التشخيص، نظام المحاصصة بدل النظام الطائفي. أما موضوع الدولة فقد صار محل إجماع لبناني بعد ثورة 17 تشرين. التشخيص بالطائفية لم يساعد على إيجاد حل، فهل يساعد مصطلح المحاصصة؟
من دولة المحاصصة إلى دولة الوحدة الوطنية
إما بناء الوطن والدولة إما سياسة المحاصصة. هذه هي المشكلة التي رافقت تطور لبنان الحديث، حيث اعتادت السلطات اللبنانية على توزيع سيادة الدولة فكان للإقطاع السياسي حصة وأخرى لزعماء الطوائف الروحيين، ثم اقتطع الفلسطينيون حصة داخل المخيمات ما لبثت أن اتسعت خلال الحرب ،وكاد النفوذ السوري يطغى على دور الدولة، لاسيما بعد الطائف إلى أن نعمت قوى الأمر الواقع بجزر أمنية وإنمائية وقضائية وإدارية في المناطق وفي أجهزة الدولة ، بالتواطؤ الكامل بين أهل السلطة والأجهزة السورية وأمراء الحرب وسلاطين المال.
بديلا عن سياسة المحاصصة هذه لا بد من قيام سلطة الدولة، دولة القانون والمؤسسات والكفاءة وتكافؤ الفرص والديمقراطية والعدالة الاجتماعية. وفي سبيل ذلك ينبغي أن تستعيد الدولة كل الصلاحيات المصادرة منها والموزعة على قوى داخلية وأخرى خارجية، وذلك من خلال المهمات التالية:
1- ارتفاع أداء السلطة إلى المستوى الذي يجسد سيادة الدولة كاملة على الحدود الدولية مع فلسطين المحتلة، وذلك بدخول الدولة إلى المناطق المحررة، واستكمال إشرافها الإداري والإنمائي عبر اجهزتها ومؤسساتها كافة بما في ذلك الجيش، وإلغاء كل الأجهزة الرديفة والبديلة التي استولت على دور الدولة وصادرته، لا بغفلة عن السلطة أو بعيدا عنها، بل بمعرفتها ومباركتها، على غرار ما تساهلت بتوزيعه على قوى الأمر الواقع في سائر المناطق اللبنانية.
2- إلغاء الجزر الأمنية اللبنانية والفلسطينية على كل الأراضي اللبنانية، دون أن يتناقض ذلك مع استمرار الجهود السياسية والعسكرية من أجل استكمال تحرير الأراضي اللبنانية في مزارع شبعا وسواها وتحرير الأسرى والمعتقلين في السجون الإسرائيلية، ولا مع كل عمل عربي مشترك دعما لنضال الشعب الفلسطيني داخل الأرض المحتلة .
3- معالجة المسألة الطائفية على قاعدة التعامل مع الطوائف بصفتها جزءاً عضوياً من النسيج الاجتماعي اللبناني ومن المجتمع الأهلي ، مع ما يمليه ذلك على الدولة والأحزاب السياسية من تفاعل مع عاداتها وتقاليدها من موقع الاحترام وحماية حرياتها في ممارسة طقوسها وشعائرها، على أن يترافق ذلك بحزم ضد نزوعها للعب دور سياسي أو لتحولها إلى بنى سياسية رديفة تنمو على حساب الدولة والوحدة الوطنية.
إن استخدام المنابر والطقوس في غير العبادات، ومصادرتها في معظم الأحيان وتوظيفها خارج إطارها الديني، يشكل تجاوزًا للدور الثقافي والاجتماعي المنوط بالمؤسسات الدينية، واعتداء صارخاً على سلطة الدولة، لأنه يوظف جمهور المؤمنين في المساجد والكنائس في عمل سياسي مباشر، من غير الخضوع لقوانين النشاط الحزبي المعمول بها في لبنان، وينقل الطوائف من الحيز الاجتماعي الطبيعي إلى ممارسة دور سياسي مباشر تغذيه الغرائز والنعرات الطائفية والشحن المذهبي المهدد للوحدة الوطنية، ولأنه يشكل وسيطاً في العلاقة بين الدولة والمواطن مما ينتقص من سلطة الدولة ويشوه مفهوم المواطنية.
لقد اكتنف موقف الشيوعيين اللبنانيين من المسألة الطائفية التباس، لم يكن كافياً إعلان الهوية العلمانية لتبديده، بل على العكس، ساعد في تكريسه بسبب تصنيفات مشبوهة ساوت بين العلمانية والإلحاد، وبسبب موقف خاطئ وسلوك غير صحيح مارسه الشيوعيون اقتداء بالتجربة السوفياتية.
غير أن الشيوعيين حسموا في مؤتمراتهم الأخيرة موقفهم ووضعوا حدا لهذا الالتباس وأعلنوا أن الانتماء إلى عضوية الحزب رهن بالموقف من القضايا السياسية والوطنية فحسب، وأن الحزب ليس حزباً فلسفياً، بل تنظيم سياسي يلتزم بما تمليه عليه قوانين الدولة وأعراف المجتمع وعاداته وتقاليده، ويناضل لتحقيق برنامج في رأس أولوياته حماية حرية المعتقد والتفكير والتعبير وحرية ممارسة الطقوس والشعائر، لكنه في المقابل، يناضل بلا هوادة ضد كل انتقاص من سيادة الدولة وانتهاك لها ومقاسمتها ومحاصصتها من جانب الأفراد والجماعات، سياسيين كانوا أم دينيين.
إن التواطؤ بين معرقلي قيام الدولة وظف شعار إلغاء الطائفية السياسية توظيفاً إيديولوجياً، فوضع إزاءه شعار العلمنة لكي يلغي أحدهما الآخر، وفي المقابل أخفقت القوى العلمانية، ومنهم الشيوعيون، في وضع تحليل علمي صحيح لظاهرة الطائفية فاستخفت بها واعتبرتها عابرة طارئة، بينما أثبتت التجربة أنها متجذرة في بنية المجتمع اللبناني، وأن معالجتها بالحلول الطائفية المطروحة أمر مستحيل، ذلك أنها قضية سياسية بامتياز ولن تعالج إلا بحلول ذات طابع سياسي . إن الطائفية انتهاك صارخ لسيادة الدولة والقانون، ولا يجوز أن يبقى التنازع قائما بين سلطة الدولة الواحدة وسلطات موازية تهدد بنفوذها السلم الأهلي ووحدة البلاد .
لقد آن الأوان لوضع حد لهذه الازدواجية لكي تستعيد الدولة سيادتها من مغتصبيها السياسيين والدينيين في كل شأن يتعلق بالمواطنية والمجتمع المدني وقوانين الأحوال الشخصية، وأن تشرف إشرافاً مباشرًا على المحاكم الشرعية وتخضعها لسلطة مجلس القضاء الأعلى، وللقوانين اللبنانية التي تحكم استنادا إلى القوانين الوضعية وإلى القوانين الشرعية المرعية لدى الطوائف والمذاهب اللبنانية.