الشيخ والجبل
حسين علوان حسين
الحوار المتمدن
-
العدد: 8554 - 2025 / 12 / 12 - 22:47
المحور:
الادب والفن
(مهداة للشيخ صفوك الذي أوحى لي بفكرتها)
بعدما قبَّل رأس طفله البكر "السنوار" وخد زوجته، ودَّع زوجته وأمها وأبيها، وامتطى يحيى حماره وأخذ الطريق الحصوية المؤدية لقريته الكائنة في وادي الجبل الفاصل بينها وبين قرية أهل زوجته في سلسلة جبال بامير. أنتابته مشاعر الإرتياح الممزوج بالزهو: الإرتياح لأنه استطاع إيصال زوجته الحامل إلى بيت أهلها حالما أحسَّت بأوجاع الطلق عصر البارحة، والزهو لأن أم زوجته الخبيرة وصويحباتها قد نجحن بتوليد زوجته بإبنه البكر فجر اليوم بلا مضاعفات جانبية. كما تفهَّم التماس زوجته منه السماح لها بالبقاء عند أهلها لأسبوع كامل للنقاهة والتفرغ لرضاعة إبنه السنوار. وعقد العزم على نحر أكبر كبش في حضيرة أغنامه بين قدمي زوجته حال عودتها لبيتها ومزرعته، ومن ثم وتوزيع لحمه على بيوت قريته احتفاءً بإهدائها أول طفل له.
عندما وصل يحيى مزرعته، راعه مشاهدة كلبه "سلمان" الذي تركه لحراسة حضيرة أغنامه الأربعين، وهو منبطح على الأرض بلا حراك. تقدم نحو بحماره وألقى نظرة فاحصه عليه فوجده ميتاً بجسده الممزق والمضمخ بالدماء. إشتد وجيب قلبه، ولكز حماره نحو زريبة أغنامه الكائنة في قاعة مسقَّفة ومبنية باللِّبْن. شاهد الباب مفتوحاً. ترجَّل وهرول نحو زريبته، فغاص قلبه بين ضلوعه. كانت كل أغنامه الإربعين منطرحة على الأرض وهي نافقة وتنز جروحها الفضيعة بالدم نزاً ! إنه ذئب الجبل إياه! لقد ضرب مرة أخرى! لا يقبل بغير قتل كل ضحاياه من الخرفان حالما يخلو له الجو وسطهن، مهما كان عددهن، دون أن يأكل أياً منها. يالها من حَيْوَنة دموية!
ترك زريبة أغنامه وتوجه إلى زريبة أبقاره الخمس، ففرح لكونها لم تمسس بسوء. توجه إلى قن الدجاج، فوجدهن بخير. شكر ربه على نعمائه عليه، وهو يردد في نفسه: عندما يأخذ ربنا شيئاً من مؤمنيه فإنه يعوضهم بما هو أغلى منه؛ تفديك يا ابني السنوار الأربعون من الغنم، وحفظك الله!
بعدما أنهى مختار القرية وأولاده الذين أستدعاهم لمساعدته دفن جثة كلبة وأغنامه الأربعين بعد سلخ جلودها في قبر واسع واحد، قال له المختار:
- اسمع يا سيد يحيى: أنا عاتب عليك لأنك لم تبلغني بتركك لمزرعتك عصر البارحة. ولو كنت قد أبلغتني لسهرت بنفسي أنا وأولادي على سلامة حلالك!
- أنت محق في لومك هذا، مختارنا المحترم! ولكنني دخت، ودار رأسي عندما أبلغتني زوجتي فجأة ببدء أوجاع الطلق عندها، وكان كل همي هو ايصالها لدار أهلها بدون أدنى تأخير.
- فداءٌ لك وللوليد ولأمه. زُرني صباح يوم بكرة، وخذ مني ستون معزى مع كلبين. تولَّ رعيها بنفسك ولك عُشر الولادات بعد الحول، إتفقنا؟
- أنا خادم لك، وأنت صاحب الفضل.
- هل لديك بندقية ؟
- للأسف لا.
- سازودك بكرة عندما تأتي لاستلام القطيع بالكـﭼــك الطويلة الخاصة بي والتي أعتز بها أشد الاعتزاز كما كانت قطعة مني، فهي تراثي من المرحوم جَدّي، وأريدك أن تعتني بها كما لوكانت إبنة لك، وتعيدها لي صاغ سليم عند انتهاء الحول في الصيف، اتفقنا ؟
- صار، مختارنا الكريم!
- عندما تأخذ الأغنام للرعي يوم غد، زُرْ صومعة الشيخ ياسين الكائنة في أعلى الجبل، وخبَّره بالذي حصل لأغنامك وكلبك، فهو خبير باصطياد ذئاب الجبال.
- وهو كذلك، مختارنا الحكيم!
عندما أبلغ يحيى الشيخ ياسين بواقعة أفتراس الذئب لكل أغنامه، ركب الشيخ بغلته، وعاد مع يحيى لمزرعته. تفقد آثار الأقدام ملياً في زريبة أغنامه المفترَسة وخارجها، ثم قال له:
- لم يكن ذئباً واحداً؛ بل إثنين! ذكر وأنثى!
- لا حول ولا قوة إلا بالله.
- هل لديك فروة كبش جديدة استخدمها طُعماً للذئاب؟
- نعم، لدي أربعون فروة!
- أعطني ثلاث منها!
- تؤمر، شيخنا.
- عندما تسمع في إحدى الليالي صدى إطلاقات البرنو، تأكد أنني قد اصطدت أحد الذئبين أو كليهما!
- الله يسمع من لسانك، مولانا الجليل.
في فجر اليوم الرابع، تناهت لأسماع يحيى وهو يصلي صدى إطلاقتين مدويتين. أحس بالارتياح، وصلى ركعتين زيادة.
عند الضحى، زار يحيى صومعة الشيخ ياسين، فشاهده جالساً يقرأ القرآن. سَلَّم عليه، فردَّ عليه السلام، وهو يقول له:
- أبشر، لقد قتلت الذئبين إياهما. تعال معي كي نحمل جثتهما وندفنهما، وتستعيد أنت فرواتك الثلاث.
- الحمد لله، أين ندفنهما، شيخنا الجليل ؟
- عشرون متراَ أعلى صومعتي!
بعد مضي عشرين يوماً، زار يحيى صومعة الشيخ ياسين صباحاً، فوجدها مغلقة، والشيخ غير موجود. بقي هناك حتى المساء، ولم يعد الشيخ لصومعته. استبد القلق بيحيى، واسرع بالعودة مع أغنامه، وابلاغ مختار القرية بغياب الشيخ ياسين.
في صباح اليوم التالي، اصطحب المختار ولديه مع أثنين من إختيارية القرية وصعدوا لصومعة الشيخ ياسين. ناداه المختار من خلف باب صومعته بصوت عال عدة مرات، وما من مجيب. إستبد القلق بالمختار، فطلب من إبنيه فتح باب الصومعة فقد يكون الشيخ قد مات بداخلها وهو نائم.
بعد فتح باب الصومعة عنوة وولوج الرجال اليها، هالهم جمال تنسيق أرفف الكتب على جدرانها الأربعة، وهندمة سرير النوم الفارغ. ولم يعثروا على الشيخ ولا على بندقيته البرنو الذائعة الصيت ولا بغلته اللوزية اللون.
خرج الرجال من الصومعة وتفرقوا فرادى، وراحوا يبحثون في كل الأماكن والمنحنيات ومنزلقات سفوح الجبل حولهم بلا طائل.
في اليوم التالي، خرج كل رجال وشبان القرية على دوابهم ومشياً على الأقدام للبحث عن الشيخ ياسين في كل مكان وأي مكان في ذلك الجبل والجبال القريبة دونما أي نتيجة.
استمر البحث الحثيث شهرا كاملا تم خلاله مسح كل أرجاء الجبل دون أن يفلحوا في العثور على أي أثر للشيخ ياسين.
بدأت الأقاويل تتناقل بين أوساط القرية عن مصير الشيخ ياسين. بعضهم يقول أن نبي الذئاب "بنيامين" قد حوَّل نفسه إلى عقاب أسود وأختطفه هو وبغلته وذهب بهما بعيداً إلى الكيان الصهيوني لخوزقتهما كإرهابيين يشكلان خطراً رهيبا بالبندقية البرنو والأرجل الأربعة السريعة الجري على مستقبل المحتلين الصهاينة وذلك في سجن صحراء النقب "سدي تيمان" بسبب قتل الشيخ للذئبين اللذين إفترسا أغنام يحيى؛ فيما سفَّه آخرون هذه الرواية وقالوا أنه هو الذي اختار الصعود بنفسه مع بغلته اللوزية الجميلة على أجنحة الغمام إلى عنان السماء بمعاونة مَلَكَين صالحين، واستقر مع بغلته هناك يجوب ويجول حولهم ليحرس أرض القرية وأهلها وحلالها من علٍ. ولكن هناك من حلف الأيمان المغلظة بأنه قد شاهد بأُم عينيه الشيخ ياسين وهو يسير على بغلته اللوزية الجميلة تحف بهما الملائكة الصغار وغابا داخل نبع ماء النهر الذي يزود قريتهما بالماء والسمك، واستشهد بالعدد الكبير وغير المعهود من الأسماك التي صاروا يستطيعون اصطيادها من النهر الصغير كل يوم منذ تاريخ اختفائه.
انتشرت الإشاعات عن ارتقاء وبركات وكرامات الشيخ الجليل ياسين في أرجاء قرى جبال بامير، وسرعان ما أصبحت صومعته مزاراً يحج إليها الناس، وصار أبناء مختار القرية سدنته، ثم أقاموا قبة خضراء ضخمة فوق أيوان فسيح عال ضم صومعته وقبر الذئبين اللذين إفترسا أغنام يحي، وازداد عدد أفواج حجاجه يوماً بعد يوم.