عبد الحسين سلمان عاتي والإبادة الجماعية لمصادر التاريخ (5)
حسين علوان حسين
الحوار المتمدن
-
العدد: 8534 - 2025 / 11 / 22 - 23:51
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
الإبادة الجماعية للمصادر التاريخية الراسخة
أعود لنص مقالة المهندس الكيمياوي عبد الحسين سلمان عاتي المعنونة: "مذبحة الترجمة مرة أخرى" المتضمنة ما يقول أنها ترجمته الخاصة من الفرنسية للعربية لكتاب: "التاريخ الخفي للاسلام" لخدم الفاتيكان، كل من :الفرنسي خريج مدرسة إدارة أعمال أودون لافونتين الأمي بالفباء التاريخ وباللغة العربية، وعرّابه القس الكاثوليكي الفرنسي إدوار ماري صاحب أطروحة الدكتوراه التي يقتبس لافونتين منها، والمشرف على تلك الأطروحة رولان مينرات، رئيس أساقفة ديجون وعضو مجمع العقيدة والإيمان للفاتيكان. تنص المقالة على:
"المهمة صعبة، إذ رسّخ التراث الإسلامي بعض التصنيفات والصور المتعلقة به في العقل الواعي واللاواعي، مما يصعب التخلص منها عند محاولة فهم التاريخ من جديد. إلا أن المنهج العلمي، وهو جوهر منهجنا التاريخي النقدي، يتطلب إعادة التقييم هذه. جوهريًا، يجب أن نبدأ من الصفر، ونبحث في تاريخ محمد من خلال مراجعة شاملة لجميع الشهادات، بما في ذلك المصادر غير الإسلامية، ووضعها في سياقها التاريخي الفعلي. هذا يستلزم فحصًا نقديًا دقيقًا للمصادر الإسلامية، بما في ذلك القرآن ، الذي يقدم في بعض جوانبه رواية شبه مباشرة عن الدعوة وأحداث "الإسلام البدائي". في ضوء ذلك، يجب إعادة النظر في العديد من الادعاءات الراسخة. لم يعد من الممكن القول ببساطة إن "محمدًا هو مؤسس الإسلام"، نظرًا للتاريخ المعقد لنشأة الإسلام الذي بدأنا نكتشفه. وبالمثل، فإن الادعاء بأن "محمدًا بشر بالقرآن" يُبسط تاريخ القرآن المعقد أكثر من اللازم. إن القول بأن "محمدًا وُلد في مكة" مشكوك فيه أيضًا، إذ يُرجَّح أنه لم يزر المدينة قط، إن وُجدت أصلًا في عصره. علاوة على ذلك، فإن القول بأن "محمدًا كان قائد المسلمين الأوائل" أو "محمدًا أعلن نفسه نبيًا للإسلام" هو إعادة بناء غير دقيقة من التراث الإسلامي المتأخر. لذلك، ندعوكم للقراءة بعقل منفتح، متحررين من هذه الأفكار المسبقة، لفهم حقيقة من هو محمد التاريخي ودوره في التاريخ."
أنتهى اقتباسي من نص المقالة أعلاه.
وقد سبق وأن أوضحت في الحلقة الرابعة السابقة من هذه السلسلة زيف الجملة الأولى من النص المقتبس أعلاه في ضوء حقيقة أن أودون لافونتين لم يجر البحث الإحصائي المقارن المفروض بموجب الأسس العلمية لمنهج كتابة التاريخ الذي تسمح له نتائجه الاعتماد عليها لإصدار فتواه: "رسّخ التراث الإسلامي بعض التصنيفات والصور المتعلقة به في العقل الواعي واللاواعي، مما يصعب التخلص منها عند محاولة فهم التاريخ من جديد". الفشل التام لخادم الفاتيكان أودون لافونتين باجراء مثل هذا البحث العلمي المطلوب يثبت أنه يخرف بما لا يعرف وبما لم ولا يستطيع اثباته علمياً. ومن يرسل الكلام على هواه في كتابة التاريخ محكوم عليه بكونه "مزيفاً للتاريخ" لإن علم التاريخ يرفض فبركة الأضاليل. المورخ العلمي يُسأل عن المصادر والأدلة التي تثبت صحة كل جملة يقولها.
نأتي الآن إلى جملته اللاحقة:
"إلا أن المنهج العلمي، وهو جوهر منهجنا التاريخي النقدي، يتطلب إعادة التقييم هذه. جوهريًا، يجب أن نبدأ من الصفر، ونبحث في تاريخ محمد من خلال مراجعة شاملة لجميع الشهادات، بما في ذلك المصادر غير الإسلامية، ووضعها في سياقها التاريخي الفعلي."
هذا الكلام يعادي جملة وتفصيلاً المنهج العلمي لكتابة التاريخ ونقده. أولاً، المنهج العلمي في كتابة التاريخ يحكم على من يعتزم "إعادة تقييم التاريخ" عبر "البدء من الصفر" بكونه مزيفاً للتاريخ لإبادته الجماعية للمصادر التاريخية المياشرة وغير المباشرة المعاصرة للحقبة التاريخية التي يتجرد أي شخص للكتابة عنها، والتي لا يمكن تجاوزها مطلقا من طرف أي مؤرخ يحترم نفسه ويحترم بموضوعية علمية-حيادية حقائق التاريخ الراسخة لكونها تفرض حق الفيتو على ما يلي زمانها الذي ينفيها. مثلاُ - لأجل التمثيل ليس إلا – لنفترض أن الباحث في تاريخ ابن الأثير (1160 – 1233م) يجد رواية تخالف بهذا الشكل أو ذاك، أو حتى تنفي رواية تخص نفس التفصيل في الزمكان لرواية واردة في سيرة أبن هشام (المتوفى سنة 833 م)؛ عندها يتم الأخذ بالرواية الواردة في سيرة أبن هشام لكونها الأقدم تاريخاً من كتاب التاريخ لإبن الأثير، مع إيضاح خضوعها لمبدأ فيتو الأقدمية عند إيراد رواية إبن الأثير للإطلاع والمقارنة.
ثانياً، متى يمكن – بل ويجب – إعادة تقييم السرديات التاريخية المستندة على الإدلة التاريخية المباشرة وغير المباشرة القائمة؟ الجواب هو: عندما تتوفر لدى المؤرخ مصادر جديدة مباشرة موثوقة وحيادية عن الحقبة التاريخية المدروسة من شأنها إغناء أو توكيد أو تعديل أو نفي تفصيل ما وارد في السردية التاريخية المعروفة اليوم عنها. كيف يقوم المؤرخ العالم – وليس المزيف للتاريخ مثل أودون لافونتين وشركاه – بذلك بعد تثبته العلمي القاطع من وجود دليل تاريخي مباشر جديد موثوق لم يأخذه المؤرخون السابقون بعين الإعتبار في سردياتهم ؟ لا يسمح المؤرخ العالم لنفسه بنفي أو تعديل أي تفصيل أو تسبيب تاريخي معقول ومتماسك توثقه الأدلة المباشرة الموجودة بصدده إلا بعدما يتوفر لديه الدليل التاريخي المكتشف حديثاً والذي هو معاصر ومباشر لما هو موجود وموثق في كتب التاريخ المتوفرة فعلاً. مثلاً: لنفرض جدلاً أنه يتم العثور على مخطوطة رسالة مختومة بختم الرسول محمد موجهة الى ملك الغساسنة جبله بن الحارث (628-632م) يدعوه فيها للإسلام. بعد التأكد من إثبات صحة تلك الرسالة (مكان العثور عليها وخطها وختمها وخامة الرقعة المدونة عليها عبر تحليل طيف الكربون 14 المشع لها، والتثبت من مصداقية قرائنها..) عندئذ تضاف هذه الرسالة إلى سجل رسائل الرسول محمد، وهو ما يغني السردية التاريخية الخاصة برسائل الرسول (الموجودة نسخها الأصلية في متاحف اسطنبول والأردن)، فقط. لا يجوز للمؤرخ أن يلغي جزافاً وعلى هواه أي تفصيل تاريخي يستند على وجود دليل تاريخي راسخ دون العثور على دليل تاريخي أقوى حجية اعتبارية (أقدم، أوثق، أقوى وأوسع تفسيرياً، أفضل تماسكاً منطقياً مع السياقات والقرائن القائمة) لأنه إن فعل ذلك فإنما يصم نفسه ويوصمه غيره بتزييف التاريخ. أما إذا ما تأكد أن هذا الإلغاءالتحكمي لحقائق التاريخ الراسخة مدفوع الثمن من طرف جهة أو جهات منافسة (الفاتيكان والصهيونية المسيحية في حالة الأفاك أودون فالنتاين الأمي بالبحث العلمي وشركاه) فيتم فضحه على رؤوس الإشهاد، مثلما هم حاصل هنا. عالم التاريخ يحترم الأدلة الشفوية الراسخة وغير المتقطعة والتي كانت تدون بعدئذ؛ هذا إن كان عالماً فعلاً وكان يعلم علم اليقين أن نفي التاريخ الراسخ يفشل فشلاً ذريعاً في اختلاق تاريخ جديد، حتى ولو تم صرف كل دولارات الفاتيكان والخزانة الأمريكية لتمويله. نفي التاريخ يمكن أن يصطنع المسوخ، ولكنه لا يولد التاريخ.
أعود إلى النص التلفيقي لخادم الفاتيكان أودون لافونتين المقتبس أعلاه.
إذن، وفق بهلوانيات النص المسخ أعلاه، فإن على البشرية كافة ومعهم ملياري مسلم أن يبيدوا جماعياً – على غرار الإبادات الجماعية الصليبية الصهيوامبريالية المليارية لشعوب العالم الضعيفة طوال القرون القرون العشرة الماضية والمتواصلة حتى اليوم وإلى المستقبل المجهول – كل الحقائق الراسخة التي يعرفونها عن الإسلام وذلك بالتنازل لخادم الفاتيكان هذا وشركاه المأجورين والإعتراف المنبطح بكون:
"محمدً ليس هو مؤسس الإسلام"
"محمدً ليس هو الذي بشّر بالقرآن"
"محمدً لم يلد في مكة"
"محمد لم يزر مكة أبداً"
"مكة لم تكن موجودة في عصر محمد"
"محمد لم يكن قائد المسلمين الأوائل"
"محمد لم يعلن نفسه نبياً للإسلام".
فإذا ما نزلت البشرية جمعاء والمسلمون كافة عند أوامر عميل الفاتيكان أودون لافونتين وشركاه فإنهم سيفوزون ببركاته وبركات الفاتكان والسي آي أي والأم آي فايف والموساد، مع منحهم شهادة حسن السمعة والسير والسلوك لقراءتهم تاريخ الأمي بالتاريخ أودون لافونتين وشركاه "بعقل منفتح، متحررين من هذه الأفكار المسبقة" (كذا) !
يلاحظ القاريء الكريم أن كل الجمل التلفيقية المنفية أعلاه مصممة مع سبق الإصرار والترصد على نحو يجب أن يوجد فيها إسم محمد، حتماً. الخطة واضحة وضوح الشمس: "يجب نسف التاريخ الراسخ لمحمد من الجذور"، مثل صلب سيدنا المسيح بعد دمغ اليهود له بكونه "إبن زنا"و مزيف، ومثل حرق بابا الفاتيكان للمصلح التشيكي وعالم اللاهوت والفيلسوف "يان هوس" عام 1415م حرقًا على المحك في بوهيميا بتهمة الهرطقة بعد احتجاجه على الفساد المستشري أبدياً في الكنيسة الكاثوليكية، ومثل قتل الصهاينة للقديسة المسيحية الفلسطينية العذراء شيرين أبو عاقله (خريجة مدرسة الراهبات في "حن بيتينا" بالقدس المحتلة) عام 2022 في مخيم جنين للأجئين لفضحها الإبادات الجماعية الصهيونية ضد شعب فلسطين، ومثل حرق الامبريالية الغربية أعلام الفلسفة الماركسية وملايين الشيوعيين من أشرف الناس وأشجعهم وأنبلهم في كل مكان بالعالم لمنع خلق جنة الإنسان على الأرض لمصلحة عشر معشار 1% من تنانين البشر!
الإمبريالية بحاجة للأعداء لإدامة تشغيل طواحين الموت التي تدر عليها المليارات، فإن لم تجد من تطحنه، فإنها تخلق أعداءها خلقاً، مثل استعداء اليهود على أبناء عمومتهم العرب، ومثل استعداء الأوكران على أبناء عمومتهم الروس في الحرب الدائرة الآن والمتوصلة منذ 2022!
سأوضح في الحلقات القادمة كيف أن كل ما يسميه هذا الأفاك الفاتيكاني بـ "المصادر التاريخية غير الإسلامية" التي يعتمد عليها وينطقها ما ليس فيها إنما هي إما تلفيقية ومنحازة تتنافى مع العقل والمنطق ووقائع التاريخ فيما يعرفه المؤرخون الحقيقيون من ثوابت تاريخ الإسلام، أو أنها بالعكس: تعزز الحقائق التاريخية الراسخة.
يتبع، لطفاً.