ريمون آرون بين بين قذارة الحروب، واستحالة السلام بين الدول


زهير الخويلدي
الحوار المتمدن - العدد: 8411 - 2025 / 7 / 22 - 11:55
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع     

مقدمة
يُعدّ ريمون آرون (1905-1983) أحد أبرز المفكرين الفرنسيين في القرن العشرين، حيث امتاز بمساهماته الفكرية العميقة في علم الاجتماع، الفلسفة السياسية، والعلاقات الدولية. تميّزت أعمال آرون بمحاولته فهم الديناميات الاجتماعية والسياسية للمجتمعات الصناعية الحديثة، مع التركيز على الصراعات بين الأنظمة السياسية كمحرك أساسي للتاريخ، بدلاً من الصراع الطبقي الذي ركّزت عليه الفلسفة الماركسية. كما تناول آرون في كتاباته قضايا الوعي التاريخي، محاولاً تفكيك أوهام التقدم التي سادت في عصره، وانتقد بشدة الأيديولوجيات الشمولية، مثل النازية والستالينية، التي رأى أنها أغرقت العالم في حروب مدمرة. في الوقت ذاته، أثار آرون تساؤلات حول إمكانية تحقيق السلام الدائم بين الدول، معتبراً أن التنافس السياسي والأيديولوجي يجعل هذا الهدف شبه مستحيل. يهدف هذا المقال إلى استكشاف أفكار آرون حول مراحل الفكر الاجتماعي، أبعاد الوعي التاريخي، وموقفه من الحروب واستحالة السلام، مع الاستناد إلى أهم أعماله وتسليط الضوء على إسهاماته الفكرية.
المحور الأول: مراحل الفكر الاجتماعي عند ريمون آرون
ركّز ريمون آرون في كتابه مراحل الفكر السوسيولوجي على تتبع تطور الفكر الاجتماعي منذ مونتسكيو إلى ماكس فيبر، مروراً بكارل ماركس وأليكسيس دو توكفيل. يرى آرون أن علم الاجتماع يسعى إلى فهم الواقع الاجتماعي بشكل شامل، دون عزل أي جانب من جوانبه، سواء كان اقتصادياً، سياسياً، أو دينياً. في هذا السياق، يؤكد آرون أن حركة المجتمعات لا تقتصر على الصراع الطبقي، كما زعم كارل ماركس، بل إن الصراع بين الأنظمة السياسية يشكل قوة دافعة أكثر تأثيراً. في كتابه ثمانية عشر درساً في المجتمع الصناعي، تناول آرون الجوانب الاقتصادية للمجتمعات الصناعية، بينما ركّز في صراع الطبقات على الجوانب الاجتماعية، وفي الديمقراطية والتسلط على الجوانب السياسية. هذه الثلاثية تعكس منهجية آرون في دراسة المجتمع ككل متكامل، حيث لا يمكن فهم أي ظاهرة اجتماعية دون مراعاة التفاعلات بين مختلف الأبعاد. كما تأثر آرون بماكس فيبر، خاصة في مفهوم "الأنماط المثالية"، الذي استخدمه لتحليل التاريخ والمجتمع بعيداً عن التفسيرات الوضعية الصلبة. آرون، في مقاربته للفكر الاجتماعي، دعا إلى "نزع الأيديولوجية" عن العلم، معتبراً أن الأيديولوجيات، مثل الماركسية، قد شوهت فهم الواقع الاجتماعي من خلال فرض تفسيرات مسبقة. هذا الموقف جعله ينتقد المثقفين الذين تبنوا الماركسية كـ"أفيون" يعميهم عن رؤية الحقائق، كما جاء في كتابه الشهير أفيون المثقفين عام 1955.
المحور الثاني: أبعاد الوعي التاريخي
تناول آرون الوعي التاريخي من منظور نقدي، حيث رفض فكرة التقدم الخطي التي سادت في الفكر الأوروبي خلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر. في كتابه الخلاص من أوهام التقدم ، يرى آرون أن الاعتقاد بتقدم مستمر وتلقائي للإنسانية هو وهم، خاصة في ضوء الكوارث التي شهدها القرن العشرين، مثل النازية والستالينية. يؤكد آرون أن هذه الأنظمة الشمولية أثبتت أن زعيماً ديماغوجياً يمكنه تجنيد الملايين بالأكاذيب والشعارات الشوفينية، مما يؤدي إلى حروب مدمرة. في سياق الوعي التاريخي، يرى آرون أن التاريخ ليس مجرد تحولات، بل يتضمن "الاحتفاظ" بالماضي وتراكم المعارف والخبرات. في نصّه حول مفهوم التاريخ والتقدم، يشير آرون إلى أن التقدم يتحقق عندما يستجيب جيل لأعمال الجيل السابق، مع إضافة عناصر جديدة، مما يسمح بتراكم إيجابي للمعارف والإنجازات. ومع ذلك، يحذّر آرون من الاعتقاد بأن التقدم العلمي أو التكنولوجي يعني بالضرورة تقدماً أخلاقياً أو سياسياً، حيث أن الإنسانية لا تزال عرضة للانتكاسات بسبب الصراعات الأيديولوجية والسياسية.
المحور الثالث: قذارة الحروب واستحالة السلام
كان آرون من أشد المنتقدين للحروب والأنظمة الشمولية التي أدت إلى تدمير العالم في القرن العشرين. في كتابه التفكير في الحرب ، يحلل آرون الطبيعة المدمرة للحروب، مركزاً على كيفية استغلال الأيديولوجيات المتطرفة، مثل النازية والستالينية، للشعارات العنيفة لتبرير الصراعات. كما عارض آرون فكرة أن الحروب يمكن أن تؤدي إلى حلول نهائية للصراعات، مشيراً إلى أنها غالباً ما تولّد المزيد من العنف والكراهية. فيما يتعلق بالسلام، كان آرون متشككاً في إمكانية تحقيق سلام دائم بين الدول، نظراً للتنافس المستمر بين الأنظمة السياسية والأيديولوجيات. في كتابه الخلاص من أوهام التقدم، يرى أن الصراعات الأيديولوجية، مثل تلك الدائرة بين الرأسمالية والاشتراكية، تجعل السلام هدفاً بعيد المنال. ومع ذلك، دعا آرون إلى تعزيز المؤسسات الدولية، مثل الأمم المتحدة، كآلية لتقليل التوترات وتسوية النزاعات، على الرغم من محدودية فعاليتها. موقف آرون من استقلال الجزائر، حيث دعم النزعة السلمية وانتقد الاستعمار الفرنسي، يعكس إيمانه بأن العنف الاستعماري لا يمكن أن يؤدي إلى حلول مستدامة.
خاتمة
يمثل ريمون آرون نموذجاً للمفكر الملتزم الذي يجمع بين التحليل العلمي والنقد الفلسفي. من خلال أعماله حول مراحل الفكر الاجتماعي، قدم آرون رؤية شاملة لفهم المجتمعات الصناعية، مركزاً على الصراعات السياسية كمحرك أساسي للتاريخ. كما أسهم في تفكيك أوهام التقدم من خلال تحليله للوعي التاريخي، محذراً من المخاطر الأيديولوجية التي تهدد الإنسانية. أما فيما يتعلق بالحروب، فقد كشف آرون عن "قذارتها"، مؤكداً أن التنافس الأيديولوجي والسياسي يجعل السلام بين الدول هدفاً صعب التحقيق. ومع ذلك، فإن دعوته إلى تعزيز الحوار والمؤسسات الدولية تعكس أمله في تقليل الصراعات، حتى لو لم يكن السلام المطلق ممكناً. إن إرث آرون يكمن في قدرته على مواجهة الأفكار الخاطئة، كما وصفها كلود-ليفي ستراوس بـ"النظافة الثقافية"، حيث استطاع أن يفهم خصومه الفكريين قبل الرد عليهم، مما جعله صوتاً عقلانياً في زمن طغت عليه الأيديولوجيات المتطرفة.
المصادر والمراجع:
آرون، ريمون. أفيون المثقفين. ترجمة جورج طرابيشي. بيروت: دار الساقي، 2006.
آرون، ريمون. مراحل الفكر السوسيولوجي. ترجمة فكتور باسل. بيروت: منشورات عويدات، 1980.
آرون، ريمون. الخلاص من أوهام التقدم. باريس: كالمان-ليفي ، 1969.
آرون، ريمون. ثمانية عشر درساً في المجتمع الصناعي. ترجمة فكتور باسل. بيروت: منشورات عويدات، 1980.
آرون، ريمون. صراع الطبقات. بيروت: دار الكتاب العربي، 1970.
آرون، ريمون. الديمقراطية والتسلط. باريس:غاليمار ، 1965.
آرون، ريمون. تفكير الحرب. باريس: :غاليمار ، 1975.
بلاتمان، كريستوفر. لماذا نحارب: جذور الحرب وطرق السلام. مركز المستقبل، 2022.