إصلاح التعليم في مصر


محمد زكريا توفيق
الحوار المتمدن - العدد: 8080 - 2024 / 8 / 25 - 10:21
المحور: دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات     

منذ عدة سنوات، أيام حكم الرئيس السابق مبارك، كنت في زيارة لمصر بعد غيبة طويلة، فسرتني أشياء، وراعتني أهوال. لكن والحق يقال، أشدها هولا، وأكثرها ضراوة، هي المسألة التعليمية.

لقد رأيت رأي العيان، مالا يخطر على بال إنس أو جان. لقد رأيت كيف توقفت طلبة المدارس، وخصوصا طلبة الشهادات والثانوية العامة، عن الذهاب إلى المدارس الحكومية. لأن المدارس الحكومية أضحت مضيعة للوقت.

رأيت كيف أدمنت الطلبة الدروس الخصوصية، إدمان المخدرات، إلى الدرجة التي لم تعد معها قادرة على فهم أي شيء، إلا عن طريق ملقن خصوصي في المنزل.

هذا يذكرني بعملية تزغيط البط في الريف. أي تغذية البط رغما عن أنفه، وبدون كامل إرادته. بعد أن تضع الفلاحة رجلها فوق دكر البط، وتفتح فمه عنوة، وتصب فيه كمية لا بأس بها من الفول الناشف والدشيشة، حتى يسمن ويزيد وزنه. وهي عملية لابد أن تتنبه لها جمعيات الرفق بالحيوان، لأنها مؤلمة جدا للطائر المسكين. وتفقده القدرة على البلع.

كما شاهدت، أثناء زيارتي، طالب الثانوية العامة يتعاطى دروسا خصوصية في المادة الواحدة عند أكثر من مدرس واحد (إثنين أو ثلاثة). هذا يشرح أفضل، والثاني يلخص أفضل، أما الثالث، فهو أمهر في حل المسائل.

ورأيت كل الطلبة تأخذ دروسا خصوصية في جميع المواد. كل ذلك حتى يستطيع الطالب المسكين الالتحاق بالكلية التي يريدها، والتي تتطلب مجموعا معجزا يقترب من المئة في المئة.

لقد أصيبت طالبة، تمت لي بصلة قرابة، بانهيار عصبي، نقلت في أثره إلى المستشفى، لأنها حصلت على مجموع ثلاثة وتسعين ونصف في المئة، وهو مجموع لا يؤهلها لدخول الجامعة التي تريدها. وأعتقد أن السيد وزير التربية والتعليم في ذلك الوقت، رغم احترامي الشديد له، وتقديري لكفاءته، لن يستطيع الحصول على هذا المجموع لو دخل الامتحان بدلا منها.

رأيت أيضا الكتب والمناهج التي لا تفهم (بضم التاء)، والطلبة التي لا تفهم (بفتح التاء). وشاهدت وسمعت عن الأسر التي تعاني الأمرين لتوفير أجرة المدرس الخصوصي على حساب قوتها اليومي. مما يضطرها في أحيان كثيرة لبيع قطع أثاث من عفش البيت، أو الاستدانة وسؤال اللئيم، أو استبدال جزء من المعاش، أو عمل جمعيات مع أهل الخير والأصدقاء، لتوفير ما تيسر.

ورأيت أيضا طلبة الجامعات لا تذهب إلى المدرجات، ولا حتى تقوم بالمراجعة والاستذكار، بحجة أن الملازم والمطبوعات لم تصدر بعد، لأن أستاذ المادة غالبا ما يصدر الملازم قبل الامتحان بأيام قليلة، حتى لا يكون أمام الطالب أي خيار آخر سوى شراء هذه الملازم (فتاكة وفهلوى).

شاهدت أيضا مدارس خمس نجوم بالعملة الصعبة لأولاد الحظوة والنخبة، بها كل شيء يبهج النفس ويسر الخاطر. ومدارس في الكفور والنجوع وعلى أطراف الوجود، للعامة والدهماء والبؤساء والمعذبون في الأرض، بدون أسوار وبدون دورات مياه. وهي أمور تثير الحصرة، ويندى لها الجبين.

وهناك مدارس متنوعة. مدارس عامة حكومية، ومدارس خاصة، ومدارس دينية حكومية، ومدارس دينية خاصة. مدارس مصرية، وأخرى أجنبية. مدارس ومعاهد على كل لون يا باتيستا (نوع من القماش)، دون هدف مشترك لكل هذه اللخبطة والمكرونة الإسباجتي.

كما أنني شاهدت ولامست وعاينت مدى الخواء والهيافة والسطحية التي آل إليها شبابنا وأولادنا وبناتنا، سواء كانوا طلبة المدارس الحكومية أو الأجنبية. فلاهم يعلمون من هم، ولا إلى أين هم ذاهبون. ولا كيف كانوا أو أصبحوا أو أمسوا. لا يقرأون ولا حتى الجرائد اليومية، ولا يسمعون ولا يشاهدون إلا التلوث السمعي والبصري الموجود في الفضائيات.

ولا يهتمون إلا بملابسهم الخارجية والعربية والموبيل. فتيان كالنخل، وما أدراك ما الدخل. أرض بلقع، وبحار تئن فيها الرياح، ضاع فيها المجداف والملاح. ثم نتساءل، لماذا التطرف؟ ولماذا المخدرات؟

أذكر أن معلم الجيل الأستاذ أحمد لطفي السيد كان يعارض سياسة التعليم المزدوج، المتمثل في المدارس الدينية والمدارس المدنية. بحجة أن هذا يخلق انشطارا في بنية المجتمع المصري وشخصيته.

وكان من رأيه أن التعليم الديني يجب أن يكون موادا دراسية عن طريق المدارس الحكومية العامة والجامعات. ويكون متاحا للجميع، مسلم ومسيحي، حتى يظل النسيج الوطني متماسكا.

وقد كنت ألاحظ فعلا أثناء دراستي الإعدادية والثانوية، أن مدرس اللغة العربية والدين في أيامنا، كان يختلف في شخصيته ولبسه وسلوكه وطريقة تدريسه عن باقي المدرسين. لا لشيء سوى اختلاف الخلفية التعليمية لكل منهما.

ما هو الهدف من الخطة التعليمية في مصر، ومن هو المسؤول عنها، وأين دور مجلس الشعب؟ وهل إصلاح التعليم يكون بدمج المواد وإنقاص عددها، أو بإخراج بعضها من مجموع الدرجات الكلي المطلوب في الكليات الجامعية والمعاهد العليا؟

هل الهدف من التعليم هو التوظيف ومنح الشهادات للعمل والزواج فقط؟ أم تربية الطالب بدنيا وعقليا وخلقيا؟ ام كل هذا؟ وإذا كان الهدف هو التربية، فعلى أي مبدأ ومنهج؟

هل نريد من أولادنا أن يكونوا أبطالا، أو عباقرة، أو نساكا زاهدين، أو آدميين؟ أم الهدف هو تدمير أجيال وتحويلها إلى غثاء سيل، حتى يسهل حكمها، أم ماذا بالضبط؟ وكيف نعدهم كي يستطيعوا العيش والبقاء والمنافسة الشريفة في هذا الزمن الصعب؟

هذه بعض الملاحظات والتأملات في المسألة التعليمية لعلها توقظ هذه القضية الهامة من ثباتها. لأن هدفي من الكتابة هو التنبيه والتحذير، وليس الإمتاع والتخدير. "ويا بخت من بكاني وبكى الناس علي، ولا ضحكني وضحك الناس علي" (مثل شعبي).

التعليم في بلادنا يعتمد على الحفظ والتسميع بدون فهم. إجهاد للذاكرة، وشلل للقدرة التفكيرية، وقتل لملكات العقل التحليلية. ولقد كنت اتساءل في صباي عن جدوى تدريس الهندسة المستوية(الإقليدية) في سن مبكرة.

ويأتي الجواب، لأن تدريب التلاميذ في سن مبكرة، على نظريات الهندسة المستوية وعلى حل تمارينها، هو خير وسيلة لتدريب العقول على التفكير المنطقي السليم.

إذا لم يكن تفكيرك في تسلسل منطقي ومنظم، فلن تستطيع برهان شيء، أو حل أي تمرين هندسي، أو كسب أي قضية، أو الوصول إلى أية حقيقة.

تدريب العقول منذ نعومة أظافرنا على التفكير المنطقي، هو الذي سوف ينهض بشعوبنا ويحل مشاكلنا الاجتماعية والسياسية والاقتصادية.

الهدف بناء عقول قادرة، وليست عقول حافظة لمعلومات مكدسة لا يربطها رابط. عقول فاهمة، وليست عقول تحمل شهادات بدون فهم. مثل الحمار الذي يحمل أسفارا، ولكنه لا يعلم ما بها من معلومات. وأرجوا مخلصا إلغاء الشهادات بالمرة. حتى لا يطلب العلم إلا من يريده حقا. وأنا جاد في هذا الاقتراح.

معظم المدرسين غير أكفاء لهذه المهنة الجليلة. فمنهم من يقوم بصب المواد في عقول الطلبة صبا. وكأنك تصب سائل في قمع دون روية، ودون مراعات درجة استيعاب كل طالب على حدة.

ومنهم من يقف حجر عثرة في طريق الفهم والتحصيل. ومنهم من يسبب بأسلوبه وغبائه كره الطلبة لمادته ولعملية التعليم برمتها. ومنهم من يحول طلبة الفصل إلى مجموعة متطرفين، وثان يعرض على طلبته أفلام جنسية أثناء الدروس الخصوصية، وآخر يقوم بقتل طلبته ضربا وركلا لتقويمهم. كما جاء في صحافتنا مؤخرا. فهل ننتبه لدور المعلم في تشكيل عقول أولادنا.

هل نعلم أولادنا القدرة على النقد؟ والقدرة على التمييز بين الحقائق والخرافات؟ ومعرفة أي ريح تدفع شراع المركب إلى الأمام أو الخلف؟

وهل نضع أمامهم المواضيع والقضايا بأوجهها المختلفة كما هي، حتى يختاروا بأنفسهم إذا استطاعوا؟ وإن لم يستطيعوا، هل نعلمهم القدرة على الشك؟ لأن الأغبياء فقط هم الواثقون والمتأكدون والمدافعون حتى الموت عن أول فكرة أو قضية تواجههم في حياتهم. وكما قال دانتي:" الشك يسرني كما تسرني المعرفة".

وهل نشجعهم على إبداء الرأي؟ في أي موضوع يخصهم أو لا يخصهم؟ ونجعلهم يتساءلون، لماذا تكتب "عمرو" بواو زائدة و "داود" بواو ناقصة.

أو لماذا مصر فقيرة اليوم؟ ولديها البحر الأبيض بالعرض، والبحر الأحمر بالطول، ونهر النيل، والبحيرات والمياه الجوفية والجزر والغابات والواحات والجبال، والصحارى، وسيناء والمناجم وقناة السويس والبترول والغاز الطبيعي والأيدي العاملة والآثار والمناخ الرائع والموقع الفريد؟

هل نربى أولادنا على الخشونة، والرجولة، والقيم النبيلة؟ وهل نشجعهم على معرفة تاريخ وإمكانات بلدهم، وإعادة اكتشاف أنفسهم وقدراتهم؟

وهل نشجعهم على اكتشاف ودراسة حيوانات، ونباتات ومعادن الوادي، والصحراء، وسيناء. وهل نعلمهم النظافة والنظام والحفاظ على البيئة وحمايتها منذ نعومة أظافرهم؟

هل نعلمهم الأخلاق، والصدق والأمانة، وأدب الحوار، والاستماع الجيد، وفضيلة الصمت، كما كان أجدادنا قدماء المصرين يعلمون أولادهم؟ وهل نعلمهم تقديس الحق والعدل، والامتثال للحقيقة متى وجدت، والاعتراف بالخطأ عندما يظهر.

وهل نعلمهم التذوق الفني الذي يرقى بالحس والشعور، من موسيقى وشعر وأدب، وفنون تشكيلية، وسينما، ومسرح؟ فالفنون والآداب الجيدة تحرر الإنسان وتروضه. وتجعله أكثر حكمة وقدرة على فهم معنى الحياة. وهل يمكن أن نفهم النفس البشرية إذا لم نقرأ أو نشاهد مسرحيات شكسبير وروايات دوستويفسكي؟

وهل نهتم بصحة أولادنا وبناء أجسامهم بالرياضة البدنية، لكي يكون العقل السليم في الجسم السليم. ولكي نقوى عندهم روح الفريق، والمنافسة الشريفة، والثقة في النفس؟

وهل نعرضهم للريح والشمس، والبرد، والخشونة، والخطر؟ حتى يتخلص كل منهم من كل مظاهر الضعف والليونة في ملبسه ونومه، ومأكله، ومشربه، ومسلكه. دعنا نجعله شابا قويا مسؤولا، بدلا من صبي خرع ضعيف مترشون. زيارة عابرة للساحل الشمالي ستوضح لك ماذا أعني.

وهل نعلمهم الشجاعة والأمانة، والقدرة على قول كلمة "لا" عندما يتطلب الأمر ذلك، حتى لا يصبحون عبيدا لشخص واحد؟

هل نعلمهم لماذا وكيف، بدلا من أين ومتى، عند دراسة التاريخ؟ وهل نعلمهم الفلسفة والتساؤل حتى لا يقعوا فريسة لحاكم ظالم يغرر بهم. وهل نعلمهم أن الفضائل تقاس باعتدالها لا بحدتها حتى لا يختلط عليهم الأمر؟

هل نعلمهم حب الوطن، والتعايش السلمي مع أبنائه، واحترام الآخر والمرأة والكبير، والعطف على الصغير والضعيف، وأصول الصداقة، وواجبات المواطنة، وحقوقهم وواجباتهم السياسية، وأن الدين لله والوطن للجميع؟ وهل نعلمهم حب فعل الخير، وكره فعل الشر، بدون الخوف من عقاب، أو طمعا في مكافأة؟

يقول الفيلسوف الأمريكي، جون ديوي، خبير التربية والتعليم: التعليم الحقيقي يأتي فقط عن طريق الممارسة والفعل، أي التجربة والخطأ. من هنا جاءت أهمية التعليم والتدريب أثناء الوظيفة.

ويقول ديوي أيضا، ليس هدف التعليم، محو الأمية فقط. إنما هو هدف يطلبه الفرد طوال حياته. إجابة سؤال "لماذا" أهم من إجابة سؤال "كيف". التعليم ليس عبارة عن جمع وتكديس للمعلومات، ثم يتوقف بعدها الفرد عن التعلم قانعا بما يعرف. لكن التعليم فعل مستمر، من المهد إلى اللحد. في حالة استمرار.

وظيفة المدرسة هي إمداد الطالب بالأجهزة والكتب والنصيحة. الباقي يأتي خارج المدرسة. الهدف من التعليم هو اكتساب الخبرة والقدرة على حل المشاكل. التعليم، حسب تعريف ديوي، هو تنظيم للخبرات بطريقة تؤدي إلى زيادتها.

التعليم يجب أن يكون للجميع، صغار وكبار، رجال ونساء. ويكون بكل الوسائل، مدارس وجامعات ومعاهد ومراكز أبحاث وإعلام، ورحلات كشافة وزيارات للمتاحف ومشاهدات للمسرح والأوبرا، إلخ.

التعليم بالنسبة للصغار، يكون بهدف إعداد الطفل لكي يستطيع الحياة وسط المجتمع. وليس الهدف حشو رأسه بمعلومات غير مهضومة وغير مفهومة. التعليم يكون بهدف إعداد الفرد لكي يعيش في المجتمع تحت أي ظرف. من ثم، يقاس النجاح في التعليم بما يحققه من تقدم في سلوك وشخصية الفرد، لا بمقدار ما يحفظه من معلومات.

مواد الدراسة يجب أن تكون ملائمة للعصر. الطفل يجب أن يكون شغوفا ومحبا للمدرسة والتعليم. المواد الدراسية يجب أن تكون عملية، تنتقل إلى التلميذ بأسلوب تعاوني ومشاركة، لا عن طريق الضرب والأوامر.

هدف جون ديوي، هو بناء مجتمع ديمقراطي. وإيجاد توازن بين قيم الفرد وقيم المجتمع عن طريق التربية والتعليم. كان يرى أنه هناك علاقة وثيقة بين التقدم العلمي والنظام الديمقراطي.

الديموقراطية عند ديوي، ليست مجرد صناديق اقتراع، ولكنها تأتي عن طريق تكوين رأي عام ناضج، ناتج من التواصل بين المواطنين والمفكرين والسياسيين.

مشاكل التعليم في مصر هم، والهموم كثيرة. ولكنه هم مخيف. السلعة الرديئة يمكن التخلص منها، والعوض على الله في ثمنها وينتهي الأمر. ولكن ما بالك بدكتور سيء التربية والتدريب، أو مدرس رديء أو مهندس غير كفء. سوف تظل هذه السلع الرديئة تدمر المجتمع وتلقى بسمومها داخله لعدة أجيال، هي عمرها الوظيفي.

التقدم له أسبابه، والتخلف له أسبابه أيضا. ولننظر كيف تبنى الحضارات، وما هي نوعية الفرد فيها وأسلوب تعليمهم.
لذلك نقول إن التعليم مهم لمستقبل بلدنا الحبيب (ومن يعترض على هذا؟). فيجب أن نوجه بعض اهتماماتنا لمشاكل التعليم. ويا ليت نفك دبابتين أو طائرتين، وبثمنهم يمكن عمل شيء ولو قليل. يقول الشاعر:

لقد أسمعت لو ناديت حيا---ولكن لا حياة لمن تنادى
ولو نار نفخت بها أضاءت---ولكن أنت تنفخ في رماد