حكاية نجلاء مع السفهاء
صباح كنجي
الحوار المتمدن
-
العدد: 7851 - 2024 / 1 / 9 - 20:11
المحور:
الارهاب, الحرب والسلام
قادني البحث عن الناجيات من براثن الدواعش للقاء ثلاث شقيقات في وقت واحد جمعهن سقف شقة المانية بعد ان وصلت احداهن من مدينة شتوتغارت.. كنت قد وصلت هانوفر بناء على ترتيب سابق مع ابو سربست وزوجته عيديْ.. اللذان رافقاني في اللقاء الذي بدأناه مع المتحدثة الأولى.. نجلاء..
حكاية نجلاء خدر مطو
نجلاء خدر مطو.. مواليد 1982 سنجارـ كوجو التحصيل الدراسي سادس ابتدائي.. تتحدث الكردية والقليل من العربية.. كانت تعيش في كنف اسرة كبيرة تتكون من أب متزوج امرأتين.. امها فطومة علي برجس.. هي الكبرى التي تستقر في دار مع أولادها.. ماهر مواليد 1978.. عامر مواليد 1980.. و6 شقيقات هن.. عامرة.. ساهرة.. سميرة.. نجلاء.. رنا.. داليدا..
في البيت الثاني.. زوجة الأب منجي رشو كلي.. والدة اخيها غير الشقيق فارس وخمس بنات هن.. دنيا.. ندا.. ختام.. فاتن.. عبلة..
كان الاب اميناً لسر فرقة في حزب البعث قبل سقوط النظام.. تقول عن حياتهم السابقة كنا مرتاحين البال مع والدتنا التي استقلت في دارها الخاص.. ونواصل حياتنا دون منغصات او مشاكل.. الاب بعيد عنا بعض الشيء مع زوجته الثانية..
بعد سقوط النظام الدكتاتوري عمل شقيقها في سلك الشرطة وتوجه الثاني للانخراط في سلك حرس الحدود.. الدار التي كانت قصراً فخماً مع سياراتهم ومدخول زراعتهم وفرت لهم حالة استقرار اقتصادي مهد لعلاقات طيبة بين افراد الأسرة المتكاتفة والمتحابة التي كان افرادها يعشقون السفر وزيارة المدن العراقية.. في المقدمة منها الموصل.. بغداد.. دهوك.. اربيل.. ناهيك عن لالش المقدسة.. التي كانوا يزورونها في كل سنة مع حلول اعياد الإيزيدية في عدة مناسبات من السنة.. وفي مقدمة المتأهبين للزيارة الأب الذي عشق الوادي المقدس وارتبط بالمكان برابطة روحية تجعله فرحاً ومتفائلا كأنه كوـ قبج حر في جبل سنجار.. يغرد للجمع المحيط به من اقربائه الايزيديين.. أصدقاؤه العرب من عشائر.. المتيوت.. الخاتونية.. الشمر.. الكورد الكيچلا.. بالإضافة الى المقربين لنفسه من المواصلة.. الذين سكنوا سنجار وعملوا فيها أحبهم بصدق ونسج خيوط المودة معهم وارتبط بصداقات كان يعتز بها.. هذه كانت حصيلة علاقاته العائلية والانسانية ومنها انتقلت الصداقات من الآباء للبنين والبنات.. يتجالسون لشرب القهوة وتناول الطعام مع الضيوف بلا حرج كأنهم من أسرة واحدة..
الأيام تمضي.. تتعزز الصداقات وتتطور.. يبدأ عهد الدم والوفاء برابطة أوثق ترسخها صلة الكرافة.. التي عقدت مع خدر الحيّو المتيوتي من جهة.. اعقبها كرافة ثانية بين العم يوسف مطو وجارالله ـ ابو يوسف المتيوتي.. ناهيك عن عمها الآخر.. وعد مطو.. الذي كان يرعى الجميع ويساعد المختار أحمد جاسو..
تمضي نجلاء مسترسلة في اجابتها عن اسئلتنا.. عن طبيعة علاقاتهم السابقة للكارثة قائلة:
ـ سمعت باليهود.. شاهدت عائلة مسيحية من بغداد.. كانت تأتي الى سنجار.. اما المسلمون فقد كانوا كثر في منطقتنا وجيراناً لنا.. نحترمهم ونقدر وجودهم بالقرب منا كجيران لنا ونتواصل معهم دون مشاكل..
قراهم وخيمهم تحيط بنا.. نتوثق من وجودهم ولا نهابهم.. إذ لمْ يكن بيننا مشاكل تذكر باستثناء ما يرويه التاريخ عن الفرمانات السابقة ومآسيها.. التي كنا نسمع ندفاً من تفاصيلها عبر الأغاني والملاحم التي يتغنى بها السنجاريين..
بعد سقوط النظام الدكتاتوري قطع راتب ابي.. فأخذ يهتم بالزراعة وتوجهت زوجته الصغيرة للعمل كممرضة في المستشفى.. وعاش في سنجار حراً كريماً.. بحكم علاقاته الجيدة مع الناس والأحزاب الكردية.. بالرغم من عدم انتمائه لأي حزب وبقائه شخصية مستقلة.. باختصار كانت هذه حياتنا لغاية ظهور داعش وسقوط الموصل في التاسع من حزيران 2014 واجتياحهم لبقية مدن المحافظة دون مقاومة بعدها..
سقوط الموصل..
بعد دخول داعش للموصل.. انتشرت دعايات قوية في سنجار.. تؤكد ان الحكومة العراقية في بغداد ستسقط أيضا.. وان الدواعش لا يستهدفون المواطنين المسالمين.. بل الحكومة العراقية في بغداد وبقية المحافظات فقط.. أي انّ المدنيين هم خارج استهدافها في إطار الهجوم المحتمل على الاقضية والمدن والقرى التابعة لمحافظة الموصل..
لكن هذه المعادلة سقطت من حسابات الجمهور حينما اجتاحت قوات الدواعش قضاء تلعفر للتركمان بعد الموصل وما حلّ بالشيعة المسالمين بين قتل وذبح وتهجير وهروب..
هنا عادت ماكينة الدعاية للعمل من جديد لتخدير الناس.. اخذت تنتشر بينهم الدعايات والاقاويل التي تصور احداث تلعفر والجرائم التي ارتكبت فيها.. بالصراع بين الشيعة والسنة.. في هذا الإطار بثت ماكينة حرب الدواعش.. ان قواتها تستهدف الشيعة لأنهم يتواجدون في صفوف القوات المسلحة.. ويدافعون عن الحكومة وتواجدها بين السنة.. وان الصراع الآن في تلعفر.. موجه ضد الشيعة الخونة فقط..
خط الرعب وانتشار الفزع والخوف
ترافق مع احداث تلعفر سقوط زمار.. بدأ المخاض السيكولوجي يتحول لرعب وفزع وخوف بين اهالي سنجار.. كان الدواعش يدورون ويعبثون في محور كوجو.. والكرفان العرب يقولون:
ـ لا تخافوا.. إنهم يستهدفون الحكومة..
في تموز 2014 بدأت عملية خطف ثلاثة اشخاص من كوجو.. اثنان منهم:
1ـ حسين خلف بشار
2ـ دخيل بشار خلف..
كانوا حراس للسيبا ينامون في موقع الحراسة بالقرب من قرية (رفيع) على بعد (ه) كلم من كوجو.. داهمهم الدواعش في الساعة السادسة مساءً وقادوهم الى جهة مجهولة.. بعد اربعة ايام تأكد الناس واهاليهم.. انهم عند الدواعش.. وليسوا عند الكرفان كما تصورا خاصة بعد اختطاف الشخص الثالث.. المدعو (دلشاد سليمان قاسم) الذي كان يسرح بالغنم على بعد 4 كلم عن كوجو..
مما ولد خوفاً وذعراً لا حدود له خاصة بعدما قام اقرباء المخطوفين واولاد عمومتهم الايزيديين بخطف اثنان من العرب في اجراء مضاد للمستهدفين وجودهم.. وما اعقبه من تحرك فوري لأبناء العشائر العربية.. واتصالهم السريع بنايف جاسو شقيق احمد جاسو مؤكدين:
ـ ان الدواعش هم من خطفوا الايزيديين وليس ابناء العشائر الذين تبرؤا من هذه الافعال المشينة وادانوها..
دخول البيشمركة على الخط
تزامن معها دخول البيشمركة على الخط ووصولهم الى كوجو واعلانهم استعدادهم لحماية الايزيديين.. تم بضغط وتدخل منهم اعادة العرب.. لكنّ نائف جاسو احتج وقال:
ـ هذه تصرفات لا تبشر بخير.. وأكد للناس والبيشمركة ضرورة اتخاذ اجراءات احترازية أو مغادرة القرية في اجراء وقائي.. تحسباً لاحتمالات مهاجمة اهالي المدينة الصغيرة المسالمين..
لكنّ البيشمركة اعتقلوه واوقفوه وطلبوا منه عودة شقيقه المختار احمد جاسو الذي كان قد رافق زوجته المريضة الى تركيا للعلاج..
هكذا عاد احمد جاسو الى القرية بطلب وضغط من البيشمركة بعشرة ايام قبل الكارثة.. الذين أكدوا على ضرورة البقاء وعدم المغادرة والهروب متعهدين:
ـ سنحميكم.. لا تهربوا.. وقالوا لـ نائف مهددين ومتوعدين: سوف نعتقل كل القرية إذا خرج منها أحد..
وكان عدد البيشمركة 75 مقاتلا من الحزبين الديمقراطي الكردستاني والاتحاد الوطني الكردستاني ولديهم دوشكا وبي كي سي.. بالإضافة الى اهالي القرية المسلحين بالبنادق الخفيفة.. علما ان عدد العوائل في بلدة كوجو يفوق 1700 عائلة.. وجميع الرجال فيها تقريبا مسلحين بالبنادق الشخصية.. وموقعها في السهل.. على بعد 30 كلم من الجبل ولا تبعد عن قرية ابْليجْ العربية التي يتمركز فيها الدواعش أكثر من 10 كلم فقط.. وبالقرب من كوجو بحدود 7 كلم تقع (سيبا حجكو) التي وصل اليها الدواعش بسهولة دون إطلاق نار.. بالرغم من وجود نقطة للبيشمركة فيها انسحبوا منها دون قتال..
3/8/2014 يوم الكارثة
في الساعة الثانية ليلا حدثت معركة (كرزرك ـ التل الاصفر).. اندلع الرصاص في وجه الدواعش مع اقترابهم من (سيبا شيخ خدر).. التي نشبت فيها معركة شديدة بحكم المقاومة البطولية من الاهالي المدنيين.. للدواعش المهاجمين.. استمرت المواجهة الحامية في حَجْكوْ لغاية الساعة الخامسة صباحاً.. وعلم الناس من العرب.. ان الايزيديين هجموا على الدواعش.. وفي الساعة السادسة والنصف صباحاً اتصل أحد الايزيديين من (كْرْ عزيرْ ـ تل عزيز) منبها لاتخاذ الحذر.. وأكد: سقوط مركز قضاء سنجار بيد الدواعش بالكامل بدون مقاومة..
في ذات الوقت.. شاهد الناس البيشمركة يتركون اماكنهم.. هربوا دون قتال قائلين للناس: لدينا اوامر بالانسحاب بدون قتال.. كانوا في ذات الوقت يمنعون الأهالي والمدنيين من الخروج والمغادرة!!..
وحينما حاول عدد من المدنيين اللحاق بهم والخروج معهم. منعوهم واجبروهم على التوقف والعودة الى الخلف.. مع هذا اللغط.. وهذه الفوضى.. كان البعض من الرجال نائمين بحكم عدوتهم المتأخرة من ساعات الحراسة لأماكنهم.. لم توقظهم اصوات الاطلاقات البعيدة بعض الشيء..
هنا بدأ احمد جاسو يحث الناس لإنقاذ الاطفال والنساء.. خرجت 10 عائلات قبل ان يتصل الكريفْ (مالك نوري جدعان) من عشائر الشمر به قائلا له:
ـ لا تخف.. ولا تهرب.. وسلم السلاح الى داعش.. واحمل علماً ابيضا.. لن يتعرض لكم احدا بسوء..
للأسف كان مصير العوائل العشرة التي خرجت.. الوقوع في قبضة الدواعش في سنجار بالقرب من قنديل والصولاغ..
اولى الجرائم والمذبحة الأولى
كانت اول مذبحة في ارض سنجار في هذه الرقعة بين القنديل والصولاغ.. أعدموا الرجال فوراً.. وأسروا الاطفال والنساء.. تتالت الجرائم.. اتسعت رقعة الدم.. احمد جاسو المصدوم بحديث كريفه علم ايضا.. ان مختار قرية الحاتمية حسين برجس.. التي تبعد عن كوجو 8 كلم فقط هو ايضا باق في القرية ولا منفذ له للنجاة..
من البلد في مركز قضاء سنجار ايضا تواترت الأنباء عن حالات قتل ومجازر مع الساعة السابعة والنصف صباحاً من ذلك اليوم الأسود..
في الساعة السابعة واربعون دقيقة بالضبط قررنا.. انا وشقيقي الكبير وزوجته وابنه مع امي.. كنا خمسة افراد من العائلة الكبيرة الهرب.. كانت شقيقتي المتزوجة مع ساهرة وداليا وماهر في اربيل.. وحدثت المفاجأة في متوسط المسافة بين كوجو والحاتمية استوقفنا الدواعش عبر سيطرتهم التي وضعوها في الطريق.. كذلك استوقفوا قبلنا رجلا ايزيدياً من تل قصب كان ذاهباً لجلب عائلته.. طلبوا منه العودة نبهنا الى وجود السيطرة مؤكداً: انهم اعادوه ولم يسمحوا له بالعبور والمرور.. لم يبقى امامنا سوى منفذ واحد يمر بالقرى العربية المتعاونة مع الدواعش.. فقررنا العودة الى كوجو.. كنا نبكي ونذرف الدموع.. الاخبار تتسارع عن مقتل المزيد من الرجال.. النساء.. الأطفال..
وصل كريفنا جاسم عبد الله الى كوجو.. قال:
ـ لا تخافوا.. نحن وأنتم من المسالمين والفقراء.. ولن يتعرضوا لكم.. ولن يصيبكم أذى أو مكروه.. كان قد استبعد من تفكيره احتمالات مهاجمتنا ومعاقبتنا بسبب قناعاتنا الدينية وتصنيفنا من قبلهم بالكفار.. كان لا يتصور انهم سيعاقبون الايزيديين على الدين.. قال مؤكداً:
ـ لا تخافوا سوف اخذكم الى عندي..
أخذت مجموعات من الدواعش تجوب الشوارع.. وبدأت تصل دوريات منهم الى كوجو.. في اليوم الاول وصل صباحاً جارالله مع مجموعة من الدواعش وقال:
ـ لا تخافوا علماً ان ابنه كان قد انخرط مع الدواعش وشقيقه عبد الماجود كان عضوا في المجلس البلدي وابن اخيه فلاح ـ فلوحي من الذين سارعوا في الانتساب لتنظيم القتلة وذهب الى سنجار ليبحث عن شقيقه الذي اختفى.. بعده عصراً وصل المدعو ابو حمزة ـ محمد علي مسؤول البعاج والبليج.. طلب من الناس تجميع السلاح وتسليمه..
طلب الدخول في الإسلام
بتاريخ 6/8/2014 توضحت نواياهم أكثر.. طلب الدواعش من الايزيديين المحاصرين في كوجو التخلي عن دينهم.. واعلان الاستعداد للدخول في الدين الاسلامي.. دخل الايزيديون في صفحة من الحيرة والوجل.. وسعى الرجال والوجهاء منهم للمناورة وانتزاع المزيد من الوقت لاقتناص فرصة للنجاة.. قالوا:
ـ سوف نسلم.. لكن نحتاج للوقت.. لأقناع اقاربنا وذوينا في قرية الحاتمية المجاورة والتشاور معهم.. مهلونا ثلاثة أيام.. كانت بين الخميس والسبت على ما اذكر.. حدث خلالها هروب اهل الحاتمية ووصولهم جميعا الى الجبل باستثناء عائلتين فقط.. شكلوا مجموعة العجزة والشيوخ والمعوقين من المرضى الذين قرروا هم ايضا مغادرة الحاتمية والتوجه الى كوجو للاحتماء بأهلها.. رغم حصارهم والمخاطر المحدقة بهم.. لم يكن امامهم خيارا آخر.. باستثناء ما يريده منهم الدواعش.. بالتخلي عن دينهم ومعتقداتهم واشهار اسلامهم..
انعكس هروب اهل الحاتمية ووصولهم للجبل على الوضع في كوجو.. فرح الايزيديون فيها لهذه الاخبار السارة.. لكنهمْ توجسوا في ذات الوقت من عواقبها المباشرة عليهم.. كانوا يفكرون هم ايضا باقتناص الفرصة والبحث عن منفذ آمن للهروب.. لكن الدواعش المجرمين شددوا الضغط والحراسات عليهم..
طلب اميرهم ابو حمزة تعزيز قواته وتشديد الحراسة.. قبل ان تحل الساعة العاشرة من صباح التاسع من ايلول اللاهب.. وضعوا سيطرة داخل بلدة كوجو.. وحولوا المدرسة لمقر لهم.. واتخذوا من بيت أحمد جاسو مقراً لآمريهم.. بعد ان نهبوا امواله وممتلكاته.. قبل ان يستدرجوا احمد جاسو لكمين ليذهب معهم.. قالوا له بشيء من الدبلوماسية المفتعلة:
ـ تفضل خذ حاجيات وملابس زوجتك.. نحن لا نقترب من الحاجيات الخاصة للناس.. تركوه يغادر داره معلنين تمديد المهلة الممنوحة للجميع لغاية منتصف ايلول..
كانوا هم ايضا يحتاجون للوقت والمناورة.. من أجل وصول الدعم اللوجستي لهم.. بحكم اتساع رقعة انتشارهم بين القرى والمدن في محافظة الموصل.. والحاجة لعدد أكبر من المجرمين والقتلة.. للسيطرة على جمهرة الناس الأسرى في القرى والقصبات والمدن التي احتلت من قبلهم دون مقاومة.. مع وجود آلاف من المواطنين فيها يصعب السيطرة عليهم دون ورود تعزيزات لدعم تواجدهم وزيادة عددهم..
في هذه الفترة كشفوا عن قناعهم الاخير قالوا:
ـ لم يعد امام الايزيديين الاّ خيار واحد فقط.. الاسلام او الموت.. احكموا الطوق حولهم.. لم ييأس الناس المحاصرون.. حاولوا الاتصال بالأحزاب والشخصيات المتنفذة والمنظمات الدولية.. طالبين النجدة.. وفك الحصار عنهم.. وتناقلت الفضائيات صرخات طلب النجدة.. ومع سير عقارب الساعة كان الخوف والقلق يطغي على التفكير.. حارت النفوس.. ودخل الناس في دوامة الاحزان والمحنة..
وجاءت المفاجأة الخديعة
في الثاني عشر من ايلول.. أعلن الدواعش مفاجأتهم السارة للناس من الايزيديين المحاصرين في كوجو قالوا: لهم مبشرين:
ـ لقد وصلنا من دولة الخلافة في الموصل.. امر الخليفة ابو بكر البغدادي.. بإعلان العفو عنكم.. وعدم الطلب منكم الدخول في الاسلام..
كان احمد جاسو اول المستقبلين للخبر والمصدقين له.. خاصة بعد ان وردته مكالمة من سالم ملا علو في الموصل تطمأنه.. وتوضح له "صحة" ما نقل عن العفو الخاص بالإيزيدية.. اعقبه بساعات قليلة.. وصول ابو حمزة الى كوجو.. وتوجهه المباشر الى الدار التي يتواجد فيها احمد جاسو قائلا له:
ـ سوف نطلق سراحكم.. سنرافقكم الى قرية حردان لنترككم تتوجهون الى الجبل سالمين وطلبوا من الجميع التوجه الى بناية المدرسة.. المدرسة المزدوجة التي يداوم فيها تلاميذ الابتدائية وطلاب الثانوية في دوامين متعاقبين..
المعتقل والتخطيط للجريمة البشعة
انطلق الاهالي مجبرين متوجهين للمدرسة.. التي اتسعت لتضم بين جدرانها كل اهل كوجو.. شيوخهم.. نسائهم اطفالهم.. صباياهم ومن كان معهم من ضيوف في ذلك اليوم العصيب.. تحولت المدرسة الى فخ ومعتقل كبير.. حشر بين جدرانها جميع اهالي كوجو صغيرهم وكبيرهم دون استثناء..
طلب من النساء والفتيات اخذ الاطفال معهن والصعود للطابق الثاني.. وبقي الرجال ومن كان فوق الثانية عشر من العمر في الطابق الارضي للمدرسة.. اخذوا يسحبون منهم مجموعات من 10-12 فرداً في كل وجبة.. وقبل ان يخرجوهم يطلبون منهم وضع حاجياتهم الشخصية.. وتسليم النقود والذهب التي بحوزتهم للدواعش..
شاهدنا احمد جاسو ينزع بأمر منهم حلقة زواجه من اصبعه ويسلمها لهم.. قبل ان يأخذوه مع تلك الوجبة ويقتادوه للخارج لإطلاق سراحه كما اوهموا الجميع بأنهم سيطلقون سراحهم..
مع بقاء الباب مفتوحاً لمن يرغب في الدخول للإسلام.. ما عداها المطلوب لمن يرغب بالمغادرة تسليم ما معه من ذهب ونقود ليكسب حرية المغادرة.. هكذا بدأت فصول المسرحية المعدة بإتقان وغدر لا حدود له..
لم يمضي الكثير من الوقت على مغادرة الوجبة الاولى من الرجال للمدرسة بصحبة الدواعش.. التي اعقبها اصوات لإطلاقات نارية كثيفة.. جعلت من احمد جاسو المستفز يستفسر.. ما هذه الإطلاقات؟
اجاب أحدهم:
ـ لا تخافوا..
كانت طائرة مقاتلة تحلق فوقنا شاهدناها تقترب.. قلنا لعلها ستقصفنا مع الدواعش لكنها غادرت وابتعدت.. شككنا بالموضوع.. زاد قلقنا.. اربكتنا عودة اليافع (مالك بابير كتر) من بين الرجال المغادرين فزعاً ومتوتراً.. كان يبكي ومنع من الحديث والتكلم عما شاهده ورآه.. بعده عاد الطفل نوري شرف ابراهيم بوضع أتعس من زميله مالك.. طلبوا منه هو الآخر الصمت والسكوت وعدم التحدث لأحد عما حل بالمغادرين من الرجال..
مما دفع بـ احمد جاسو ليستفسر منهم بغضب عما يجري للوجبات المغادرة للمدرسة لكنهم تجاهلوه.. لم يردوا عليه.. هكذا جرت الحال معه.. في الاخير طلبوا منه التهيؤ للمغادرة.. للأسف كانت مغادرة باتجاه الموت..
بقيت النساء والفتيات يواجهن مصيرهن مع القتلة.. في الحال تم عزلهن وتقسيمهم وفقاً للأعمار من 50-70 سنة فما فوق في جهة.. الاقل من خمسين عاماً.. تم نقلهن الى بناية المعهد الفني في سنجار على طريق تلعفر.. بعدهم وصلت مجاميع النساء من كبيرات السن والعجائز ايضا الى ذات المبنى..
فصل الغدر والاستباحة
مع وصولنا للمعهد الفني في سنجار بدأ فصل جديد من التعامل معنا.. طلبوا من الفتيات الكشف عن الوجوه.. كانت بيدهم السكاكين المخيفة.. مارسوا الخديعة لأجل الكشف عن المتزوجات وتشخيص الفتيات بيننا ليعرفوا المتزوجة من غيرها.. قالوا:
ـ جلبنا للأطفال الحليب لتتوجه كل ام الى طفلها لإعطائه الحليب.. سوف نهتم بكن ونقيس الضغط ونعالج المريضات منكن.. هكذا اخذوا النساء بحجة رضاعة الأطفال للحديقة القريبة حول المعهد وعزلوهن عن باقي الفتيات.. مع الليل عادوا الينا ليأخذوا الصغيرات منا من عمر7- 13 عاماً.. حشروهن في اربعة منشآت كبيرة ونقلوهم الى الموصل.
اما نحن مع عائلة زوجة ابي وأخي الصغير.. فقد نقلونا بواسطة سيارة جيب الى الموصل ايضا.. سألوا زوجة ابي مستفسرين منها عن اتقانها للغة العربية.. قالت لهم إني مضمدة وتحدثت معهم.. وأكدوا: انهم سيساعدوننا وينقذونا..
في الموصل حطت بنا رحلة العذاب في بناية من ثلاثة طوابق تعود للمحافظ مواجهة لفندق الموصل أوبْرويْ.. وجلبوا بعدنا الى ذات الموقع ايضا 100 فتاة اخرى.. كنا نعرف جغرافية الموصل وحاراتها وتسمية بناياتها.. جاؤوا لزوجة أبي.. اخذوها مع ابنها الصبي البالغ 12 عشر عاماً.. ومن لحظتها لم نعرف شيئاً عنهما لحد اليوم.. اذكر التوقيت والتاريخ بدقة ولا انساه مهما طال بي العمر.. كانت الساعة الواحدة بعد منتصف الليل من تاريخ 15/8/2014.
في اليوم التالي.. بتاريخ 16/8 /2014 جاءتنا مجموعة من داعش ليأخذ كل فرد منهم واحدة له.. كنا من لحظة وصولنا المدينة قد اكتشفنا لأول مرة ما حلّ بالرجال والناس.. عرفنا الحقائق من محطات التلفزيون.. علمنا انهم قد قتلوا 100 رجل من كوجو.. كانت الأخبار صادمة للنفوس..
استغرب الدواعش من معرفتنا للأخبار والحقائق عن مآل الرجال ومصابهم.. استفسروا وحققوا عن كيفية معرفتنا بالخبر.. قلنا لهم.. ان طفلة مدت يدها وفتحت جهاز التلفزيون تبحث عن افلام كارتون..
لقد وعدتمونا بالعفو والأمان.. لكنكم قتلتم اباؤنا وابناؤنا!.. ردّ أحدهم: من قال لكم عفونا عنكم؟ أنتم كفار.. الكفار.. لا يعفى عنهم.. وأكد انهم سيعاقبون ويحاسبون ابو حمزة على وعوده..
في 17/8/ 2014.. أخذوا أول وجبة من الفتيات في تلعفر الى الموصل.. كان مع مجموعة الدواعش العراقيين اثنان من العرب ايضا.. في ذلك اليوم ليلا نقلوا ايضا 50 فتاة الى سوريا..
في اليوم التالي 18/8/2014 جاءت مجموعة اخرى من الدواعش مع الحجي عبد الله.. اخذوا ثلاث فتيات.. وكل من تذهب لا تعود.. وتنقطع اخبارها عنا وعن اهلها المتبقين في الاسر..
في الوجبة الثالثة اخذوا اربعة فتيات.. وهكذا سار الحال في المرة الرابعة إذ اخذوا 6 منهن الى تلعفر للبيع في سوق النخاسة..
في تلعفر اخذونا الى قاعة بالقرب من السايلو.. وضعونا في مدرسة كنا 30 فتاتاً.. بقينا لمدة 11 يوماً هناك.. كانوا يأتون 11 مرة في اليوم ليجبروا واحدة منا للصعود الى الطابق الثاني.. هناك.. يغتصبوها.. يهينوها.. يشبعونها ركلا وضرباً.. وسماع بذاءاتهم ويجبرونهم على تبديل ملابسهن والاستحمام.. كن يكابدن عذابات لا توصف.. ويرفضن الانصياع لأوامرهم.. فيبدأ الجلد والعقاب والتهديد بذبح الاطفال وقتلهم..
مع ذلك كانت روح التحدي.. الصبر.. المقاومة.. الأمل بالخلاص من القتلة.. تتغلب على نزعة الانكسار.. الذل.. الإهانة.. ترافقت مع حالات نفذ فيها الصبر.. قررت البعض منا التخلص من المحنة بالانتحار.. كانت نسرين من تل قصب احداهن جربت الانتحار.. القت بنفسها من فوق على رأسها.. لكنها لم تمت.. تعرضت لكسور وبدلاً من اسعافها وانقاذها تناولوا على ضربها وجلدها بقسوة.. وقرروا ابعادها الى الموصل..
وكانت اخر وجبة تتكون من 37 فتاة بقين في المدرسة لعشرين يوماً.. كنت بينهن واصبت بالانهيار والتقيؤ واستغليت حالتي الصحية وادعيت إني مصابة بسرطان الدم.. واخذت بالبكاء.. حاولوا تطميني قائلين سنأخذك الى الطبيب المختص المرافق للدواعش في سنجار.. أدركت انهم سيأخذونني الى امير الدواعش في سنجار المدعو ابو ناصر الذي كان يعرج وهو من تلعفر كما علمنا..
سمعته يقول لهم لن أأتي معكم كي لا تعرفني.. هل طلبوا منه ان يمثل دور الطبيب لست ادري؟!.. لكني حقيقة لا اتذكره ولا اعرفه قد يكون من معارف ابي في زمن النظام السابق..
نقلونا بعدها الى الحي الزراعي.. وضوعنا في بيت من طابقين يعود لمازن شيخ قاسم الذي تحول الى مسكن للدواعش.. بقينا تحت الحراسة المشددة هناك.. جاء آمرهم مع زمرة منهم قال أحدهم:
ـ انت لي..
واختار الآخر فتاتاً ثانية.. طلبت منه التريث.. قلت له:
ـ انا مصابة بسرطان الدم..
كان الداعشي سوريا في مقتبل العمر لم يتجاوز السابعة عشر من العمر تبدو عليه ملامح الطفولة ولم يكن له دقن بعد.. طلبت منه.. مساعدتي وتسهيل أمر اتصالي بأهلي في أربيل.. سلمني تلفونه الخاص.. منحني الفرصة لأتصل بأربيل.. تحدثت مع شقيقي وشقيقاتي.. استفسرت منهم عن سبل النجاة.. قالوا اهربي الى الجبل..
في نفس اليوم بعد ساعات وجدتهم يذهبون لصلاة العصر في البيت المجاور لنا.. كانت الساعة الرابعة والنصف تقريباً.. قررت الهروب.. توجهت نحو الباب.. لم أجد احداً من الدواعش.. كانت بالقرب من الدار امرأة عربية ترش الماء في الشارع.. استفسرت مني هل خرجت من بيت مازن؟.. قلت: نعم.. قالت: تفضلي ادخلي.. طلبت منها ان تسمح لي خمسة دقائق لاستخدام التواليت.. حضر زوجها.. تحدث معي بالكردية منبها وموبخاً لماذا هربت؟.. قلت: رجالنا قتلوا ونساؤنا سبوا واغتصبوا.. هل تقبل بالذي جرى معنا؟.. قال ادخلي الاسلام وخلصي نفسك.. وطلب مني الخروج من الدار ولم يدعني ان ادخل التواليت.. طرقت خمسة ابواب متتالية لعرب يسكنون سنجار.. لم يسمح احدا من سكان تلك الدور لي بالدخول.. كانوا خائفين ومرعوبين أكثر مني.. في النهاية لم يسمح لي احدا منهم بالدخول لداره لخمس دقائق.. جاءني شاب.. سألني.. ها اختي؟ قلت له: تلفون اتصل بشقيقي وخمسة دقائق فقط كي اتجاوز خطر الدواعش..
أخذني الى بيت صديقه.. قال: له معارف وعلاقة جيدة بأهالي كوجو.. سألني عن برجس خلف كان شرطياً في سنجار.. قلت له قتل.. قتله الدواعش.. أنا من قريباته.. قال: لا أستطيع ان أحويك سيقتلونني.. اتصلت بنسيبي شرحت له الوضع.. قال امنحوني عشرين دقيقة فقط.. توجهت لهيكل فارغ لأحتمي به من الدواعش.. وجلب لي الشاب ملابس سوداء مع جبة وخمار وبطل ماء.. واوضح مؤكدا نسيبك اتصل وقال ستأتي اليك سيارة وشخص لنقلك بعد ساعتين.. اختبئ في الهيكل عسى ان يمر الوقت بسلام.. بعد دقائق جاء الشخص الاول الذي طردني من داره نظر اليّ بشذر.. ومن ثم مشى على الفور قال لي ذلك الشاب هذا شخص وسخ سيخبرهم بوجودك انتبهي لحالك.. لم يكن لي خيار آخر.. بقيت انتظر مرور الساعتين.. قبل مرور هذا الوقت شاهدت دورية من الدواعش تدور في الشوارع.. كانوا يدخلون البيوت والهياكل يبحثون عني.. بعد عشرين دقيقة وصلوا للهيكل الذي كنت فيه.. كانوا بحدود عشرين وحشاً ينادون علي بأصوات مرعبة.. صمدت في مكاني في زاوية مظلمة من غرفة صغيرة كانت أقرب لحجر مهجور لحين ارتطام قدم أحدهم بي.. صاح يؤنبني.. أنت كذابة.. سحبني بقوة الى حيث يتجمع الآخرون الذين قادوني مجدداً لبيت مازن..
سمعت أحدهم يقول:
ـ سوف اخذها الى الرمادي.. أو تذهب الى الرجل الاول.. او يأخذها رجل ثالث.. قلت: سأبقى عند الأول ذلك الشاب السوري الذي ذكرته قبل الآن.. حينما انفرد بي قال: سوف لن اطلب منك شيئاً بالغصب.. تحدثت معه محاولاً أيقاظ مشاعره الانسانية.. اليس لك ام واخوات.. أترضى ان يتعرضوا لما نتعرض له.. قال: هذا امر الخليفة ابو بكر البغدادي واوامره.. وكشف لي سر مقتل الرجال مؤكداً ان جماعة ابو حمزة الخاتوني هم من قتلوا الرجال في كوجو.. سألني ان كنت اعرف الصلاة.. قلت له انا لا اقرأ ولا اكتب.. قال سآخذك لطبيب الدواعش في سنجار.. هل تعرفين علاجك.. اجبته نعم علاج كيماوي..
في سنجار شخص الطبيب الذي اختبرني قائلا ما هو الدواء الذي تأخذينه لعلاج السرطان من بين هذه الادوية.. كانت موضوعة على منضدته مجموعة ادوية في علب وقوارير زجاجية مختلفة الاحجام والاشكال.. قلت له:
ـ كنت اخذ الكيماوي.. ولا اجده بين هذه العلب..
واضاف عموماً انت مصابة بالتهاب المعدة الحاد.. زرقنيْ بإبرة.. وقال لي:
ـ مرضك التهاب معدة حاد..
اعطاني عدة أمبولاتْ مع محاقن لاستكمال العلاج في البيت الذي يسكنه الداعشي السوري المرافق لي.. الذي قدم هو الآخر مساعدته لي.. لكني واصلت عدم تناول الطعام.. مما دفعه لتهديدي بعد يومين قائلا: ان واصلت رفض تناول الطعام سأحولك لشخص اخر.. قال فقط اطلب منك ان لا تبكين.. لا اعرف ماذا سيفعلون بك وماذا سيكون مصيرك.. سأمنحك الفرصة اخرى للتواصل مع اهلك.. وسوف احافظ عليك.. لكن سأمنحك لرجل اخر من سنجار يتحدث الكردية ويفهمك أفضل مني.. سلمني لعبد العزيز عرب الذي كان من معارف ابي.. قال لي: لا تخافي.. جميعهم اخذوا سبايا واوضاعهن أفضل منك.. هل فعلا انت مريضة بالسرطان؟ قلت له: نعم بسرطان الجلد وطلبت منه التدقيق في بقعة جلد تالفة واخرى في ساقي كانت دكناء اللون ومع ذلك سعى لاغتصابي لكنه توقف امام بكائي ونواحي وتوسلي له باني مريضة.. قال هذا امر عليك ان تتحملي دين الحق والدخول في الجنة..
قلت له إذا كان دينكم دين الحق.. لماذا قتلتم ابي وامي وبقية الرجال المسالمين؟ قال سوف اعمل لك كتاب كي لا يجري اغتصابك.. سأقول: انا اغتصبتها.. لكي يكفوا ويدعوك لشأنك.. وقد صدق ذلك الفتى وجلب لي كتاب مختوم فيه المعلومات التي تؤكد مرضي وتجنب مخالطتي واخذني الى تلعفر من جديد..
في تلعفر من جديد
عدت الى تلعفر من جديد بتاريخ 8/9/2014 وجدت من حولي أكثر من 2000 امرأة وفتاة ورجل كانوا بحدود 300 رجلا.. البقية نساء معهن الاطفال.. كانت تلعفر كاملة بيد الارهابيين الدواعش بعد أن تخلصوا من وجود التركمان الشيعة فيها.. اخذونا الى قرية (كسر المحراب) على بعد 4 كلم فقط عن تلعفر بالقرب من قرية (قزل قيو) ..
وهي من قرى التركمان الشيعة.. الذين جرى التشنيع بهم هم الآخرون.. لا لسبب الا لأنهم شيعة من اتباع علي.. لقد جرى التخلص منهم بالقتل والحرق ومن بقي حياً عذب حتى الموت او ذبح كما اغتصبت نساؤهم في حين تمكن قلة منهم من النجاة والهروب.. كان الشيعة التركمان يشكلون ثلث قوام المسلمين في تلعفر وتوابعها.. من مجموع السكان المسلمين تجاوز عددهم عن 115 ألف شيعي وشيعية من مجموع 350 ألف مواطن مسلم من السنة..
ها هي قراهم المستباحة تصبح هي الأخرى مسرحاً للعبث تجوب فيها قطعان الدواعش.. تتوزع في دورهم التي انتزعت منها الاثاث الثمينة ونقلت او نهبت لتباع في الاسواق المكتظة بالمسروقات في الموصل وبقية المدن التي يتحكم بها الدواعش الانذال.. وضعونا في البيوت المنكوبة بكسر المحراب.. كانوا يأتون للتدقيق والتفتيش عن احتمالات وجود هواتف نقالة بيننا او للبحث عن الفتيات المختبئات بين النساء.. يرعدون ويتوعدون بقتل كل امرأة تسعى للهروب والنجاة..
وضعنا في بيت واحد من الجينكو بلا شبابيك وتركونا دون طعام وشراب كنا 35 امرأة.. في اليوم التالي قدمت حبة بطاطا متوسطة الحجم مع حبة طماطم مشابهة لها كوجبة غذاء لكل 6 نساء.. بحثنا عن الطحين في البيوت المهجورة كي نصنع منه خبزاً نسد به رمق الجوع القاتل وبقيت احوالنا بهذا البؤس لأربعة أشهر متتالية ذقنا فيها مرارة الجوع مع ذل الاضطهاد ومحاولات الدواعش لسحقنا والقضاء علينا.. كان مصيرنا وحياتنا آخر شيء يفكرون به.. كأن صلتهم بالإنسانية قد قطعت وتواصلهم بالبشر قد انتهى.. لا يمكن تنسيبهم واحتسابهم حتى بالحيوانات.. كانوا وحوشاً.. هذا ما يمكن ان يليق بهم ويتلاءم مع سجاياهم وميولهم وغرائزهم العدوانية البشعة.. وحوش بهيئة بشر..
كوة في جدار العتمة..
لم نفقد الأمل تشبثنا ببقايا الروح رغم عذاباتنا كي نصبر ونواصل البحث عن طرق للنجاة والخلاص.. كان الموت اهون من ان نصبر ونتحمل كل ذاك الذل.. لكنّ حاجة الآخرين لنا من الاطفال.. السبايا.. المرضى المعذبون.. الحاجة للصراخْ.. كانت دافعنا لتأجيل ما كان يجول في اذهاننا كل يوم.. لم يكن الانتحار صعباً.. لكن فكرة الخلاص من اجل ايصال صوت الآخرين.. كانت الطاقة التي مدتنا بالروح المتشبثة بالحياة.. منحتنا الكثير من الصبر والقوة في تلك الأيام المريرة لتجاوز شبح الموت والفناء..
بعد اربعة أشهر حدث ما لم يكن بالحسبان.. طلب من سعيد سليمان ذلك الراعي الايزيدي في كوجو ان يسرح بالغنم المنهوبة.. منحوه ركنا قصياً في أطراف القرية ليصبح مرعى فيما كان يعرف بحدود المنطقة الخضراء في تلعفر.. واعطوه قصر من قصور الشيعة للسكن وسط المرعى.. لا يبعد كثيراً عن موقع حراسة للدواعش.. طلبوا منه الاهتمام بالغنم وتهيئة اللبن والحليب لهم في كل يوم.. مع الاستعداد لرفدهم بالخراف وتجهيز طلباتهم اليومية من الذبائح واللحوم.. كنت مع شقيقتي سميرة ورنا من المجموعة المساعدة للراعي مع زوجته وزوجات اشقائه الاثنين.. بالإضافة الى كنة شقيقه وثلاث من اولاده الصغار اعمارهم بين 12 و13 و14 سنة..
بعد شهر قصفت الطائرات مدينة تلعفر.. سمعنا من الراديو ان القصف قد طال تلعفر وحقق اصابات بالدواعش.. وسمعنا ان 400 عائلة ايزيدية من كسر المحراب هربت الى الجبل في سنجار.. قلت للراعي سعيد سوف اذهب لكسر المحراب للتأكد واعلمت المسؤول عن الغنم سوف اذهب الى هناك لمشاهدة اقربائي.. في الطريق قال لي.. وجودكم مع سعيد والغنم أفضل لكم.. قلت له سوف نعود..
حينما شاهدنا اقرباؤنا وبخونا.. قالوا لماذا أتيتم؟.. نحن نعاني من المداهمات.. وأكدوا انهم يأخذون الاطفال وصغيرات السن منهم ولا يعرفون شيئاً عن مصيرهم.. اتفقنا مع السائق ان نعود معه في الغد.. لكنه لم يأتي.. بقينا هناك لأكثر من عشرة ايام.. جاءت مجموعة من الدواعش واخذوا رنا فتوسلت بهم ان يتركوها قلت لهم خذوني بدلاً منها لكنهم لم يستجيبوا لندائي.. بعد الحاحي وصراخي تركونا.. بقينا بعدها لعشرين يوماً آخر هناك.. ومنها اخذونا بعدها الى عائلة ايزيدية في المنطقة الخضراء لكنهم خافوا وقالوا سوف نعيدكم الى كسر المحراب..
كان الوضع متوتراً.. الانباء تؤكد وصول البيشمركة الى جبل سنجار.. شاهدنا الطائرات تحوم في المنطقة.. بدأ الدواعش بحفر الانفاق والخنادق للتحرك للقتال.. وابعدونا جميعاً في شاحنات قلاب مموهة ومغطاة بالشوادر الى الموصل.. وضعونا في الغابات.. كنا بحدود 2000 امرأة وفتاة.. قسمونا على أربع قاعات في منطقة الشلالات.. كنا نفترش الارض بلا غطاء.. بقينا هناك على هذه الحال لمدة 23 يوماً متتالية.. كانوا يقدمون لنا الطعام السيء.. في الساعة 12 ظهراً للفطور.. صمونة صغيرة مع قطعة جبن بدون شاي.. وجبة الغذاء الساعة 4 عصراً.. حبات رز فوقها مرقة دجاج على شكل شوربة.. وعند منتصف الليل يقدم العشاء.. طعام الوجبات الثلاث في غاية السوء.. وهناك ايضا استمر اخذهم للفتيات بين الحين والآخر.. بعدها اعادونا مرة اخرى الى مناطق تلعفر..
العودة الى تلعفر ومرابع الغنم مع الراعي من جديد
اعادونا من جديد الى تلعفر.. اخذونا الى الغنم مجدداً.. وذهب بباقي النساء الى تلعفر.. أخذونا للمنطقة الخضراء.. اعطونا الابقار.. ووزعوا علينا الاعمال والواجبات.. بعد عشرين يوماً في المنطقة الخضراء.. اخذوا رنا احمد جاسو من عندنا وكذلك حنان.. كانوا يداهموننا كالوحوش.. بقينا شهرين نتجرع الخوف والعذاب وقسوتهم اللامحدودة.. كانوا مستمرين بنهش النساء والفتيات ويضربون الذين يهربون ويجلدونهم..
لغز النجاة
كما أن لكل حكاية بداية.. لا بدّ وان يكون لها نهاية.. وكما هو الحال في السؤال عمن صنع داعش وكبرها؟!! مازالت الإجابة لا تفضي الا للمزيد من الأوهام والوجل.. فان حكاية نجاة نجلاء مع الدواعش الخبثاء لم تنته.. الاّ بلغز كبير يثير في النفس المزيد من الحيرة والتساؤل..
كيف نجت من براثن الموت.. من قرر اعادتها للحياة.. عن النهاية البداية.. او بداية النهاية.. لا فرق بعد ان تداخلت صفحات الموت بالحياة.. وباتت الدوافع لصنع القرار بيد جهة مجهولة تقرر مصير الكون والاشياء وبقية التسميات.. ونجلاء ومن معها لا يشكلون في هذه المعادلة التي يحيك الكبار والاقوياء من اللصوص نسيح احداثها الا بضاعة للاستهلاك في هذا الزمن الرخيص المحير للنفوس..
تواصل نجلاء..
فجأة.. بلا مقدمات.. قالو لنا: بعد حين سنطلق سراح 216 سبية من العجائز والنساء والمرضى.. لم نصدقهم.. كنا نحتسب انهم يناورون علينا.. قد يتخلصون منا في اي وقت محتمل..
نقلونا من تلعفر الى الحويجة بتاريخ 5/4/2015 في اربعة منشآت مغطاة.. بقينا في الحويجة ثلاثة ايام.. لا نعرف ماذا سيحل بنا.. قالوا: لا يوجد طريق.. الاكراد لا يفتحون لكم الطريق.. نقلونا لناحية الرشاد العربية.. سائق الشاحنة قال لنا: لسنا من الدواعش.. جئنا ننقلكم بأجورنا.. فرد من المرافقين للشاحنات مع داعشي ذهبوا نحو الساتر.. تقدموا نحو البيشمركة.. وطلبوا منهم فتح الطريق.. جاءت من الطرف الثاني منشآت للبيشمركة لتنقلنا الى كركوك.. ومنها بعد تثبيت الأسماء والمعلومات عنا.. نقلنا الى اربيل.. وبعد استكمال الاجراءات الطبية وصلنا لالش في التاسع من نيسان عام 2015..
كان في انتظارنا جمهرة غفيرة من الايزيديين.. في مقدمتهم البابا شيخ.. وكيل الأمير والوجهاء والشريحة الواعية والمثقفة من المجتمع الايزيدي.. الذي اثبتت رغم عمق الجراح وفداحة الكارثة.. انه اصدق من تعامل مع الحدث الكارثي.. وهيأ الفرصة الملائمة لعودتنا للحياة من جديد مرفوعين الرأس.. كضحايا وابرياء طالهم الكثير من الحيف والغدر.. لكنهم اثبتوا للجميع انهن.. النساء الإيزيديات.. الاقوى والانقى من طهر السماء.. فمن يتحمل جرائم وبشاعة الدواعش وتجاوزاتهم.. ولا ينكسر.. ويبقى مرفوع الرأس شامخاً ينز انسانية وعطراً.. لا يمكن الاّ ان يكون كالشمس.. التي تكوي وتحرق من يقترب من جوهرها النقي وطهارته..
اقول بفخر.. كما قالت من قبلي زميلتي نادية مراد.. وغيرهن من القديسات الطاهرات.. حرقنا المجرمين بصمودنا.. وسنحرق مع الخيرين في الكون من يقدس العنف.. ويمجد الجريمة.. ويتحدث للناس باسم إله سفاك.. قاتل.. ودين سفيه.. كسفاهة الدواعش الوحوش.. التي تأبى حتى مزابل التاريخ احتوائهم..
شكل إطلاق سراحنا لغزاً ما زلنا نبحث عن خفاياه.. الجهات التي تقف خلف الستارة ولا تعلن عن نفسها لليوم.. كأن من ينسج الأحداث ويعبث بمقدراتنا يريد ان نبقى في دوامة اللغز.. ليقودنا التفكير للمزيد من الحيرة.. كما حولت داعش حياتنا لحيرة وقبل كل شيء.. كما تكونت ظاهرة داعش.. ونمت وتقدمت لتستلم سنجار دون مقاومة..
بعد ان هرب حماتها ومن كان يتحكم بها.. في ذلك الوقت العصيب.. الذي حدث فيه لغز التسليم.. تسليم سنجار لداعش.. ها هي الصورة تستكمل بلغز إطلاق سراحنا.. وعودتنا للحياة من جديد في كفن لغز.. نقشت عليه عبارة الحياة هي الموت..
ومن يسعى لمعرفة سر التسليم.. أوسر النجاة والتحرير.. ستلحق به لعنات التاريخ ويصاب بالدوار.. ومن يواصل السير متحدياً كلكامش.. سيصل لطريق مسدود.. لن يعثر على عشبة الحياة والخلود.. ومن لا يردعه الموت ولا يرضخ لمخططات العابثين بمصير الكون والبشر.. ستوقفه قوات خاصة من الـ سي.. اي.. اي.. والـ.. افْ بي اي.. وستهاجمه قوات الآسايش وكلاب النجيفي.. وإن عبر وحالفه الحظ وتخطى كل المعوقات.. كما تخطت عشتار بوابات السماء.. سيكون في انتظاره شيطان اللصوص المتخفي بهيئة مالكي.. الذي شغل منصب القائد العام للقوات المسلحة.. في زمن الفرمان الأسود.. وكارثة سنجار ممتطى براق موجه بالريموت كونترول.. خبأت ازراره بين دفتي آلية البغدادي المثقوبة. التي يتحكم بمفاتيحها الشيخ أوباما.. ومن معه من العابثين بمصيرنا ومستقبلنا..
نستكمل الحديث مع شقيقتها سميرة خدر مطو..
اختصاراً للوقت والجهد.. قررنا ان نبدأ مع سميرة من لحظة انفصالها عن شقيقتها نجلاء التي تحدثت بإسهاب عما مرّ بهن من احداث من لحظة سقوط سنجار في الثالث من اب 2014.. تقول سميرة:
بعد ان قتلوا النساء.. وامي من بينهن.. في ذلك اليوم.. خلف المعهد استكملوا جريمتهم في الليل معنا.. فصلونا من بقية الجمع الأسير.. في موقع الصولاغ.. واخذونا عنوة الى الموصل.. كنا قبلها في الطارمة المشرفة على الصولاغ.. قبل ان يأتي الينا داعشي سعودي ضخم الجثة بيده سكين جزار.. كان يكفر بنا وبديننا.. يرافقه شخص آخر يرتدي الملابس المدنية اصرّ ان يأخذها معه والح عليها ان تردد الشهادة الاسلامية فرفضت.. حاججته ماذا فعلتم بنا؟ سألته عن الرجال الذين كانوا معهن!!.. قال لها متفاخراً: لا يوجد احد منهم الجميع قتلوا.. لأنهم قاتلونا.. وكان بمعيته عرب من اهل المنطقة.. واضاف الايزيديون كانوا في تلعفر حرس وطني.. قاتلونا هناك لهذا تخلصنا منهم..
وبعدما غادرونا قالت النسوة: لنذهب لجلب الماء.. اكتشفنا اثناء سيرنا في الطريق المؤدية للماء.. ثغرة تمكننا من الهروب.. وعند العودة من الماء طلبوا منا التجمع من جديد سألتهم دلال عن الرجال قال: لها أحدهم لا اعرف.. سيأتي المسؤول عنا.. اسألوه عنهم.. عسى ان يكون في حوزته جوابا لكم.. عقب أحدهم وهو جالس بالقرب من المدخل.. ستذهبون الى رجالكم.. سننقلكم إليهم.. جلبوا منشأتين واخذونا الى تلعفر.. تمنينا ان تقصفنا الطائرات في الطريق.. كي نتخلص من عذاباتنا.. لكنها كانت تحوم فوقنا كأنها مكلفة بمرافقتنا وحمايتنا ممن.. لست أدري!.
في تلعفر وضعونا في مدرسة من طابقين.. شاهدت العشرات من النساء والفتيات كانوا أكثر من مائتي امرأة وفتاة ومعهن الاطفال.. جميعهم من الذين اعتقلوا في الثالث من اب 2014.. ومن خلال الشباك وجدنا الامهات كنّ ايضاً من حصيلة الثالث من اب..
وضعونا في مدرسة الأزاهير.. التي فوق سطحها خزانات بلاستيكية كبيرة حمراء للماء.. بقينا 13 يوماً في تلك المدرسة.. كانوا يأتون كل يوم لأكثر من خمس مرات ليأخذوا من بيننا الفتيات.. اخذوا في البداية فتاتين.. بعدها لم نعرف ما حل بهن.. السؤال والاستفسار عن مصيرهن ممنوع.. لا أحد يجيبك..
الطعام الذي كان يقدم لنا سيء.. يبدأ مع العاشرة صباحاً بالفطور.. الذي لا يتجاوز صمونة معفنة وقطعة جبن تالف.. وفي الخامسة عصراً.. رز ومعجون لم نكن نستطيع تذوقه بسبب كثرة الزجاج المهشم المحشور فيه عمداً.. ومع انتصاف الليل يأتون بالعشاء بيضة بالإضافة الى خضراوات وصمونتين لأربعة او خمسة اشخاص.. اي لكل واحدة منا نصف صمونة او اقل احيانا.. لم يكن في الموقع مغاسل مفتوحة.. وتعرضنا للتخدير.. كنا نشعر بالدوار والخمول.. ينتابنا النعاس.. ونميل للنوم.. كان عددهم قليل فلا يستطيعون حراستنا لذلك لجأوا لتخديرنا..
وجدنا أحدهم يتجنبنا.. وفي اوقات الصلاة يذهبون لبيوت مخصصة لأداء صلاتهم سوية ويتركوننا وحدنا.. بعدها يتوجهون للنوم والراحة في البيوت التي فيها مكيفات وسبلت للتبريد.. بقينا هكذا لمدة 13 يوم تقريباً.. كانت هناك مجموعة اخرى من النساء والاطفال في مدرسة ثانية لا نعرف عددهم..
بعدها نقلونا بالمنشآت قالوا: سوف نعود بكم للقرى.. وبعد ايام وجدنا اقرباء لنا من بنات جاسو وتمكنا من ان نتحدث مع بعضنا.. وعلمنا منهم.. انهم اخذوا الاطفال والرجال وقالوا لنا: سنحاول ترتب طريق لهروبنا ولكم ايضا..
كنا لا نعرف شيئاً عن الرجال نهائياً لغاية هذا اللقاء.. حيث علمنا بمقتلهم والغدر بهم فأخذت النساء بالصراخ والعويل.. كانت الدموع تنهمر كالشلالات.. البكاء لا ينقطع.. اصوات النحيب تتعالى.. كأننا في مأتم نحيط بالجثث.. وبدأنا نتهامس عن مصدر الخبر.. حاولت النساء كبيرات السن.. اقناعنا بالتمسك بالصبر والثبات.. كي لا نجلب الانتباه.. لكن العويل لم يتوقف لحين ابلاغنا بقرار النقل الى كسر المحراب وقزل قيو المتجاورتين حيث كانت البيوت فيهما فارغة..
في ذلك اليوم بتاريخ 8/9/2014 التقينا في كسر المحراب مجدداً بذوينا وشقيقاتنا بعد فراقنا.. وقررنا ان نفكر بطرق ووسائل تنقذنا من سطوة الدواعش المجرمين.. تذرعنا بمعاناة الاطفال من وجع الاسنان.. قالوا: سوف نرسل الأطفال.. لكن لن نسمح للأمهات بمرافقتهم..
كانوا يهيئون اسماء الوجبة على مزاجهم.. قال لي المسؤول عن تسجيل الاسماء.. لن أسجل اسمه.. لكن إذا بقي العدد اقل سوف احشره مع الاسماء.. قال: ليبقى مع خالته نجلاء.. حاولت ان أعلن موافقتي على ارسال ابني.. لكن لم انطقها.. وبعدها حشر اسمي ايضا معهم.. لم يراني أحد من الدواعش وتمّ تمريري الى الموصل.. جاء الأمن في الموصل وشاهدوا الاطفال وفرزوا الشباب.. طلبوا مني النزول مع الاطفال بحجة صغر سنهم واعادوني الى المنطقة الخضراء في تلعفر مجددا..
بحثت عن مكان للاختفاء.. وجدت ثلاث رجال من بلدتنا ـ الراعي سعيد وأولاده ـ ذهبنا أليهم الى موضع الغنم بالقرب من المدرسة.. وبسبب بعد بيت سعيد.. توجهت الى بيت ابو قاسم من دهوليْ.. وطلبت منه مساعدتي للوصول الى بيت سعيد لكنه فزع.. طمأنته واكدت له ان احداً من الدواعش لم يشاهدني للآن.. حاولت تشجيعه.. قلت له: لا تخف.. لكنه بقي مذعوراً.. واضاف من باب التبرير.. قبل قليل سجلوا افراد عائلتي.. نصحني بالابتعاد عنه والذهاب.. ترك لي حرية الحركة والمغادرة.. ونصحني ان اقول للدورية انْ استوقفتني ابحث عن حليب للأطفال..
توقفت سيارة الدواعش.. سألني احدهم الى اين تذهبين؟.. اجبته الى اهلي.. قال هناك بيت فيه خزانان للماء اذهبي اليه.. سأعود في الليل لأساعدك.. هذا بيت اختي.. تفاجأت بوجود الدواعش فيه.. لمحت شاباً ايزيدياً يصلح السيارات العاطلة.. تقرب اليّ سألني بهمس ناصحاً لي.. قال: عودي لا تقولي شيئاً المرأة شاهدتني.. دخلت عليها دخيل وبكيت قلت لها: شقيقك ارسلني اليك وحكيت لها قصتي.. قالت: الم يراك احد من الدواعش؟.. اكدت لها لم يراني منهم احدا منهم.. وعن الشاب الذي كان يصلح السيارات العاطلة قالت.. ان اسمه تحسين.. لا تخافي منه انه يزيدي مثلك.. بقيت عند المرأة في بيتها وطلبت ان ادخل للحمام كي استحم.. رفضت الاستحمام.. اخذتني الى الغرفة وقالت لي اذن بدلي ملابسك كي لا يتعرف عليك أحد منهم.. ولا يدركوا إنك ايزيدية.. واعطتني ملابسها الخاصة.. وقدمت العشاء لنا.. قالت بعد ان فتحت الباب بهدوء وتأني.. لقد جاء اخي.. وطمأننا قائلا: في الليل لا يأتي أحد منهم الى هنا.. واستفسر مني ماذا تنوين وماذا تطلبين منا؟.. قلت دخيلك.. جد لنا طريق للهروب.. قال: مسؤول تلعفر يبحث عنك.. نفيت له مشاهدتي لهم أصريت انهم لا يبحثون عني بل عن امرأة اخرى.. كان بدوره يريد التأكد.. قلت له اريد الوصول الى بيت سعيد.. في اليوم التالي ذهب الى سعيد وعاد يقول: سعيد تذرع بالعدد الكبير الذي معه وقال: ليس بوسعي زيادة العدد.. توسلت اليه ان يحميني ويساعدني.. اوضح المشكلة مع الاطفال هم لا يتكلمون العربية.. بقاؤك هنا خطر على الجميع وسينكشف امرك بسبب الاطفال لذلك سأرسلك الى اقربائي.. الى ابو رعد وعائلته.. ومنهم سأعود بك الى بيت اختي.. قولي له: ابحث عن حليب للأطفال.. وسوف ابحث لك عن طريق للوصول عن طريق ابو حاتم.. حتما سيجد لك منفذاً.. وحملني سطل لبن.. وقال لي: اذهبي مع الاطفال واللبن كي لا يشكو بأمرك.. توجهت الى البيت مع شقيقتي وزوجة شقيق زوجي زينة.. قلت لهم فشلنا لحد الآن ولكن لن نستسلم.. كان معهم خبز تقاسمناه.. لكنهم قالوا لا يجوز ان تبقي عندنا لأنهم جاؤوا وسألوا عنك.. ولم نقدم لهم المعلومات عن وجودك او مشاهدتك.. اي نفوا علمهم بعودتي ومعرفتهم بوجودي..
لهذا ومن باب التحوط لكل الاحتمالات توجهت لبيت عائلة ايزيدية.. الرجل من خانصور يدعى الياس وزوجته بنت خالد من دوكري.. وصلت إليهم ومكثت ساعة عندهم صارحتهم بنيتي للهروب.. قالوا نخاف.. لأنهم أخبرونا بوصولك..
كانوا يرتعدون من الخوف.. لم يتحملوا وجودي بينهم.. فاضطررت لتوديعهم.. ورافقني الياس الى بيت ابو قاسم.. كي ينقلني بالجرار الزراعي الى سعيد.. وكان هذا أسلم وأسرع.. في الطريق قال لي الياس: إذا خاف او تردد ابو القاسم عودي الينا..
حال وصولنا لدار ابو القاسم.. ارتعدت زوجته من الخوف.. اخذت تؤنبني.. لكن زوجها وبخها وسكتها. قلت له: اريد مساعدتك في الوصول الى سعيد مجدداً.. وبالصدفة وصل شخص من بلدتنا يقود جراراً زراعياً.. أعلن عن استعداده لنقلي.. وطلب مني امهاله بعض الوقت.. لكني لم اصبر على الموعد المحدد.. وقررت مواصلة السير معتمدة على نفسي والذهاب مشياً.. المسافة ليست بعيدة ولا تتجاوز 3 كلم..
مع حلول المساء دخلت وسط الزرع.. اخذت اسير بهدوء مع الاطفال.. تجاوزنا الخندق ومررنا من طريق السيارات بالقرب من سيطرة الدواعش.. ونفذت منها دون ان يشاهدني احدا منهم.. وصلت بعد ان هدني التعب وكاد العطش ان يفتك بالأطفال.. تجاوزت ابنه الذي كان مع الغنم.. دون ان يقترب منا.. او ينادينا.. تقدمت نحو سعيد.. شاهدته يسند ظهره للجدار.. حوله ثلاث نعجات.. سألني عن حالي.. قلت هذا هو وضعنا.. كان يعرف حالنا من خلال الشخص الذي مرّ ذكره.. شاهدت عن بعد عدداً من البيوت والشاحنات والخيم العربية.. عدت بذاكرتي لحديث اخي عن العوائل العربية في أطراف تلعفر.. قلت لسعيد على الفور سنبقى معك.. قال: اخذوا الكبار منا ولم يبقى منهم أحداً.. كان معه فتيات لم يشاهدهم الدواعش.. لكن المشكلة كما اوضح بالأطفال.. ماذا نفعل بهم؟.. كيف نخبأهم؟!!.. قلت له ساعدني اذن في الوصول الى العوائل العربية.. عسى ان أجد عندهم منفذاً او مأوى مؤقت.. اتوقع ان يستقبلوني.. ان وقعت دخيلة عليهم فهم من الجزيرة.. طلب مني التريث قليلا بسبب كثرة الحركة في المطار.. عمل لنا عشاء لكن لم أتمكن من تذوقه بسبب الضجر.. قال سعيد: سوف اخذك بالسيارة الى مسافة قريبة منهم كانت الأضوية واضحة في الهياكل التي يسكنها العرب.. لكن السيارة تعطلت بسبب عدم وجود البنزين.. كان معه لتر بنزين احتياط في قنينة بلاستيكية استخدمها لمسافة قصيرة.. لكن السيارة تعطلت وتوقفت كأنها تحاكي مأزقنا وحالنا..
توقفنا لندير وجهة السيارة نحو عكس السير.. باتجاه بيت سعيد.. كي لا تجلب الانتباه.. وواصلنا المسير بمساعدته.. كنت متوجسة منه.. طلبت منه العودة.. لكنه أصرّ على مرافقتنا لحين تأمين وصولنا.. كنا نركض وابني على ظهري والآخر اسحبه سحباً معي من يده الى حين وصول وادي عميق قال لي.. سيري في الوادي لكيلا تكشفكم السيارات المارة في الشارع.. مشينا في الوادي بين الخضار.. بعد ربع ساعة كما قال لي بالضبط خرجت من بطن الوادي.. شاهدت ضوء المصابيح في مواجهتي تماماً.. بت قريبة من الوصول إليهم.. بدأت اسارع الخطى نحوهم.. سمعت صوت دراجة نارية فتوجست لأن الدواعش يستخدمونها بكثرة لحين مغادرتها البيوت وابتعادها عنهم.. فتقدمت من جديد نحوهم وقفت خلف الزرع ووضعت قمصلتي على الأطفال.. كي لا يكشفنا ضوء الدراجة التي توجهت نحو تلعفر..
وعندما ابتعدت.. تقدمت خطوات اخرى للأمام بحذر.. فشاهدت سيارة للدواعش تهم بالمغادرة هي الاخرى.. احتميت خلف قلاب واقف.. جاءت الكلاب تنبح.. غادر الدواعش المكان.. كان البناء عبارة عن غرف متباعدة ومتناثرة.. الضوء يتسرب ويشاهد من فتحات شبابيكها في ذلك المساء.. فتحوا ستارة المدخل التي تعوض عن الباب.. كانت الساعة بحدود الثامنة مساء.. خرج الجميع على نباح الكلاب دخلت الفناء.. قبل ان أصل إليهم طلبتُ الدخالة.. بصوت مكسور يشق عباء السماء.. ويستنهض مكامن المشاعر الانسانية في اعماق البشر..
ـ دخيلكمْ..
كلمة تختصر الوجود والتاريخ وعذابات اهل سنجار.. كلمة تبحث عن صدى لها في ضمير من يشاركنا المصير.. ويتضامن مع جيرانه في زمن المحنة والغدر وسفالة الدواعش..
قادني اول رجل اقترب منا بصمت الى داخل الدار.. سكر الباب.. شاهدت رجلا وقورا طاعنا في السن يجلس وسط الدار.. تقدمت نحوه رميت نفسي تحت اقدامه.. دخيلكم عمو..
اجلسي بنتي.. بهدوء حزين أقرب للصمت.. نطقها ذلك الشيخ البدوي بعفوية صادقة.. جعلتني اشعر ان في هذا الكون الهمجي الذي أنجب الدواعش.. متسع انساني يفيض بالرحمة والامان..
سحبني فيها اللاشعور المستفز من الرعب والقلق.. الى برهة سلام آمن.. وادخلتني غيبوبة اعياء من التعب.. لا أدرى ان كنت سقطت.. او أغمي علي.. سمعتهم يقولون: لا تخافي.. كانوا يرشون الماء على وجهي.. حدثتهم عن تفاصيل حكايتي والقصص التي حدثت معي.. استفسروا من اي طريق قدمت.. قلت من الوادي.. قال الرجل كي اطمأن على وجودك بيننا..
الحمد لله لسنا من الدواعش.. جلبوا لنا الطعام والشراب واللبن.. نهض الرجل قال لابنته وكنته اعطوها ملابس خاصة بالعرب.. ومنحوا الاطفال ايضا قطعا من الملابس.. مما كان بحوزة اطفالهم.. بعد فترة قصيرة وصل رجل طويل القامة من نفس العائلة.. كان شيخاً للعشيرة قال:
ـ هذا غنمنا وحلالنا.. نحن من الجزيرة وداعش لا يأتون الينا الا عند حاجتهم النادرة عندنا.. قال تحدثي بلا خوف واطلبي الذي تريدينه.. وكرر ماذا تريدين منا ان نفعله؟.. وماذا تريدين وتطلبين؟.. سألني عن اهلي.. قلت له: شقيقي في اربيل اعطيته رقمه.. قال: ماذا نفعل نحن وسط داعش والطرق من حولنا مسدودة.. سنحاول عسى ان يهدينا الله لحل لمشكلتك ونحقق رغبتك في الوصول الى ذويك سالمة.. قلت له سأبقى عندكم انتم تقولون داعش لا يأتون اليكم.. قال لدينا قرية في الجزيرة.. لكنها للأسف تحت سيطرة داعش..
في اليوم التالي بدلوا أسماؤنا.. اسموني دلال وبلند أصبح حمودي.. اما سداد فقد أصبح احمد.. جاءنا شخص بملابسه الرعوية.. استفسر منا عن بعض التفاصيل.. وفي اليوم التالي.. وصل رجلان وسلما علي وسألا عن اسمي.. قلت دلال.. قال لا تخافي اذكري اسمك الصحيح الحقيقي.. وقال اعطيني رقم تلفون اخيك.. كي اتصل به.. واعلمه بوجودك معنا.. كنت قد حفظت الأرقام.. وبقينا ننتظر نتيجة مكالمتهم.. واكد ان اشاء الله سنصل الى نتيجة..
ووضعونا في مخزن معزول كي لا يشاهدنا أحد من زوارهم الآتين لمساعدتهم في قص الصوف.. وطلبوا منا ان لا ننهض مبكرين..
بعد الغذاء قال:
اغتسلوا انت والأطفال.. لكن لا تحدثوا أصواتا.. كي لا ينتبه الاخرون لوجودكم.. عند الرابعة عصراً قال:
ـ تهيئوا للحركة صعدنا سيارة نيسان بالقرب من سيارة للدواعش وعبرنا بشكل طبيعي ونقلنا الى منطقة فيها سيارة كيّة وضعنا فيها تحت الكشن ووضع بطانية فوقنا للتمويه.. واخذ يسير بنا احسست بعبورنا لسيطرتين.. بعدها قال: ارفعوا البطانية لقد تجاوزنا الخطر.. وأنزلنا داخل زرع وصلنا حفرة.. شاهدنا امرأة واطفالها الاثنين.. كانت عائلة شهاب احمد جاسو.. كانوا قد غادروا قبل يومين واختفوا عن الانظار.. تفاجأنا بالموقف وطلب منا عدم الخروج من الحفرة.. وأكد بعد ساعة سيأتيكم شخص لينقلكم.. قالت لي زوجة شهاب كنت قريبة منكم.. وأصبحنا امرأتين واربعة اطفال ننتظر الخلاص من براثن داعش..
في الوقت المحدد وصل الرجل أشر بيديه.. قال تعالوا وسيروا في هذا الوادي شاهدنا تلة قريبة بالقرب منها سيارة متوقفة.. مع السائق رجلين وطلب منا نحن النساء ان نختبأ في الصندوق والاطفال توزعوا بينهم.. بعد ربع ساعة سير تقريباً وصلنا طريق حجري مرصوص بالتيكلا فتح باب الصندوق وقال: انزلوا سوف تتابعون بقية المشوار سيراً على الاقدام.. وسبقنا في السير لمسافة أحدهم ليؤمن الطريق.. كي لا نقع في كمائن الدواعش..
كنا نجتاز بقية المسافة عندما يأذن لنا بالتقدم من خلال التلفون النقال بين الحين والآخر.. هكذا سار بنا الحال لأكثر من 6 ساعات متواصلة.. كنا نتوقف لشرب الماء فقط.. بعد نفاذ الماء توقفنا عند حفرة نحتسي ماؤها من شدة العطش..
في الافق البعيد لاح ضوء مصباح منير قال لنا دليلنا:
ـ انه ضوء البيشمركة.. ستصلونه عند الساعة الثالثة فجراً.. إذا لم تتوقفوا وترضخوا لنداء التعب.. اخذنا نسير بلا توقف ونسارع الخطى شيئاً فشيئاً.. مع العاشرة ليلا كنا قد وصلنا الهدف.. قادنا اول بيشمركة وصل الينا لمكان قريب.. وقدم لنا الماء واعقبه بيشمركة من إيزيدي من سنجار اسمه قاسم سمو.. كان سائق مدير آسايش.. وبدورهم بادر كل من.. دخيلْ عيسى ومراد برجس من الحاتمية.. ليوصلونا الى (جادر قاسم سمو) ونقلنا هو بسيارته مع الاطفال الى سنوني.. التي وصلناها الثالثة فجرا تقريباً.
ومن هناك بعد استراحة وتناولنا للطعام وتبديل الملابس.. تحركنا في اليوم التالي الى دهوك..
في الختام قبل ان تنتهي حكاية سميرة خدر مطو.. طلبت منها ان تحدثنا عمن فقدتهم من افراد عائلتها.. في محنتها من ايام الموجة السوداء للدواعش.. فذكرت من الضحايا..
1ـ باسم قاسم علي زوجها.. عسكري.. جندي في صفوف الجيش العراقي
2ـ حازم قاسم علي.. شقيق زوجها.. مقاتل مع الكرد
3ـ ناظم قاسم علي.. شقيق زوجها.. كاتب في المستوصف
4ـ سعد قاسم علي.. شقيق زوجها
وجميعهم فقدوا من المدرسة بعد فصل النساء عن الرجال
5ـ ابيهم علي قاسم
6ـ امهم عدي عباس قاسم
ـــــــــــــــــــــــــــــ
ـ جرى اللقاء بثلاث شقيقات من الضحايا في هانوفر بتاريخ 16/9/2016 وينشر لأول مرة