الحلال والحرام وثقافة الغباء الجمعي
ياسين المصري
الحوار المتمدن
-
العدد: 7421 - 2022 / 11 / 3 - 15:08
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
بداية يؤكد الكاتب على أنه لا يهاجم أي دين، لقناعته بأن الأديان جميعها، مهما كانت، تشكل حاجة أساسية لحياة المؤمنين بها، كالهواء الذي يتنفسونه، والماء الذي يشربونه، والطعام الذي يأكلونه. ولكن يصبح الدين مشكلة حقيقية للمجتمعات البشرية، عندما ينحرف عن المعايير الإنسانية أو يتعارض معها، كما حدث مع المسيحية في القرون الوسطى في أوروبا. وتحتد مشكلته وتشتد معضلته عندما يكون الانحراف والتعارض جزءًا لا يتجزَّأ من جوهر الدين كما هو الحال في الإسلاموية، ومع الإصرار الدائم على انحرافها وتعارضها مع الكثير من القيم الإنسانية، ومحاولة تبريرهما بأساليب لا منطقية، مما يشير صراحة إلى مدى الغباء الجمعي المستشري في المجتمعات المتأسلمة؛ لا بسبب انعدام المعرفة، بل بسبب الرفض الدائم لاكتسابها والعمل بها.
الثابت تاريخيا وموضوعيا أن معيار الحلال والحرام الذي تقوم عليه الإسلاموية لا يمكن أن يستقيم مع أي من القيم الإنسانية، لأن تلك القيم لا تنسجم، ولا تتحقق سوى مع المفيد والضار للإنسان مهما اختلفت ديانته أو ثقافته أو وضعه. لذلك فإن جميع شعوب العالم بكل مستوياتها المادية والمعنوية لم تعرف في حياتها شيئا يسمَّى ”الحلال والحرام“، ولا تقرُّ في ثقافتها الدينية والدنيوية سوى بما ينفع البشر ويفيدهم في حياتهم، وتنبذ كل ما يضرُّ بهم أو بغيرهم، وكل ما يتعارض مع العادات والقوانين المعمول بها في بلادهم، حتى أن اليهود والمسيحيين لم يأخذوا ”الوصايا العشر“ التى جاء بها الكتاب المقدس العبراني في سفر الخروج 1:20 -17 وسفر التثنية 6:5 - 21، على أنها حلال أو حرام، واعتبروا منها ما يمس علاقة البشر ببعضهم البعض على أنه جرائم، مثل القتل والسرقة والشهادة الزور، على جميع البشر، وليس ”على الأقرباء“ وحدهم، بحسب الوصايا، وسنت لها القوانين والعقوبات المناسبة، وتركوا الوصايا الأخرى لضمير الفرد، طالما لا تسبب ضررا لأحد، مثل عبادة الإله الآخر، وصناعة التماثيل ونحتها، وصنع الإحسان إلى محبي وحافظي وصايا الرب، والنطق بإسم الرب باطلا، وذكر يوم السبت لتقديسه، وإكرام الأب والأم، وحتى الزنا واشتهاء « بيت الأقرباء» (دون غيرهم؟!) …
أما المتأسلمون فيزعمون بأن قرآنهم لم يترك صغيرة ولا كبيرة إلا وتحدث عنها، ومن ذلك، المحرمات التي حرمها الله على الإنسان، لأجل حماية دينه ونفسه وماله وعرضه، بناء على ما جاء في سورة الأنعام الآية 151، وسورة الإسراء )الآيات من 22 حتى 37)، والذي يمكن تصنيفه من قبيل الوصايا، مثل النهي عن قتل الأولاد (من دون الآخرين)، خشية الفقر لان الله يرزق الجميع، أو عدم الاقتراب من الزنا، أو قتل النفس التي حرم الله (إلا بالحق)، وعدم الاقتراب من مال اليتيم (إلا بالتي هي أحسن)، حتى يبلغ الرشد، والوفاء بالعهد، وبالكيل والميزان، وعدم القول بغير علم، وعدم المشي في الأرض مرحًا، أي الاغترار بالنفس والتكبر. وفي سورة الأعراف 33 ذكرت بعض من تلك المحرمات مرة أخرى، على النحو التالي: { قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَن تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ}.
من الملاحظ أن البشر لم يتقاتلوا قط عندما عبدوا الشمس والقمر والنار والشجر لأنها عناصر ملموسة، ولا يمكن أن يختلف اثنان حول وجودها، تقاتلوا فقط حين عبدوا إلها مخفيًّا، بإمكان حتى راعي غنم أن يتكلم بإسمه، ويزعم أنه يعرف نواياه وماذا يريد أو لا يريد من الناس!. كان نبي الأسلمة يحلل ويحرم أثناء حياته بإسم الله، تبعًا لسلوكيات وأحداث تجري في المجتمع من حوله، فلم يكن ليحرم الشرك بالله ما لم يكن الشرك متفشيا في مجتمعه، وهو امر أوصت به جميع الديانات من قبله، وبالمثل الفواحش الظاهرة والباطنة، وعدم الإحسان للوالدين، وقتل الأولاد خشية الفقر، وقتل النفس التي حرم الله قتلها (بغير حق)، وارتكاب الآثام والظلم والفجور (أيضًا بغير حق)، والقول على الله دون علم! … إلخ. ولكن هذه الوصايا المنسوبه لله لم تحقق أدنى حماية للمتأسلم، لا لدينه ولا لنفسه ولا لماله ولا لعرضه، وذلك لاتسامها بالتعميم، وتقييدها بالاستثناءات، بحيث تسمح للفقهاء ورجال الدين أن يجولوا ويصولوا بشأنها كما يشاؤون، فأصبحت مسألة التحليل والتحريم واحدة ضمن الكثير من المسائل الخرافية والخلافية التي تشكل عناصر أساسية في ترسيخ الغباء الجمعي السائد بين العربان والمتأسلمين، فديانتهم تم استنسخها على مدار عقود عديدة من الديانتين السابقتين لها، إضافة إلى عناصر أخرى من ديانات مختلفة، بشكل تلفيقي، مطاط ومفتوح للقيل والقال و”اللت والعجن“ في الكلام والعمل، مجرد ”سوبر ماركت“، يمكن لكل من هب ودب أن يدخل إليه ويختار منه ما يشاء ويضيف إليه أو يلغي منه ما يشاء، وسوف يجد دائمًا مبررات قرآنية أو نبوية تدعم وجهة نظره، وإن لم تكن موجودة يمكنه اختلاقها بأسلوب العنعنة المتَّبع والمتفق عليه. ومن ثم أصبح الحلال والحرام من المسائل التي تندرج تحت هذا النمط المطاطي والمفتوح للجميع، وهما كلمتان ذكرتا بمشتقاتهما في قرآن المتأسلمين أكثر من 45 مرة، دون تحديد، مما جعل الفقهاء ورجال الدين يختلفون في آرائهم حول قضاياها باختلاف أهوائهم وتوجهاتهم المادية والفقهية والفكرية، فضلا عن خضوعهم لأهواء وتوجهات الحكام على مر الأزمنة والعصور، فأدخلوها في فوضى عارمة، لم تخرجها منها القواعد والضوابط العبثية التي يبتدعونها!. يربطون إنسانية الإنسان بنصٍ دِينيّ من ناحية، ويبررون وحشيته بنصٍ دِينيّ آخر!. هذه المعمعة الفقهية اقتضت من الشيخ يوسف القرضاوي أن يؤلف في عام 2012، كتابا عن الحلال والحرام في الإسلام، ليقابله مشايخ الأزهر وغيرهم بفيض من الاستنكار والاستهجان، واتهامه بأنه يحلل الحرام ويحرِّم الحلال، وذلك من منطلق عدم تحديد الحلال والحرام، وتركه مفتوحًا لأهوائهم وأمزجتهم ومدى ثقافتهم وخضوعهم لاتجاهات الحكام وميولهم السياسية!
يمكن تنزيل الكتاب من الرابط التالي:
https://foulabook.com/book/downloading/347540310
***
يزعمون أن التحليل والتحريم حق خالص لله وحده، إلا أنهم يدخلون النبي بدوره في هذا الحق الإلهي، فالحلال ما أحله الله ورسوله والحرام ما حرَّمه الله ورسوله ولا يجوز لأحد كائنا من كان أن يحلل أو يحرم إلا بمقتضى ما دلَّ عليه الدليل الشرعي من الكتاب والسنة بحسب الآية 116 من سورة النحل: { وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ}، ثم يأمرهم في سورة التوبة 28 بقوله: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ{، ويأتي الثرثار أبو هريرة بأحاديث كثيرة سمعها من النبي، يقول أحدها: « مَا نَهَيْتُكُمْ عَنْهُ فَاجْتَنِبُوهُ، وَمَا أَمَرْتُكُمْ بِهِ فَافْعَلُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ» رواه مسلم النيسابوري.
لم يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل أقحم الفقهاء ورجال الدين أنفسهم أيضًا في خرافة التحليل والتحريم من منطلق الآية: { فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ } (النحل 43)، وبصفتهم ”ألي الأمر وورثة الأنبياء، وسدنة الدين“، الذين يجب طاعتهم إلى جانب طاعة الله ورسوله، يحللون ويحرمون بإسم الله ورسوله، مادامت المسألة لا تخرج عن كونها نهجًا هلاميا، يتغير ويتشكل تبعًا لأهوائهم وأمزجتهم وتعدد ثقافاتهم وتنوع احتياجاتهم، ومن ثم يضيفون اليه أمورًا مختلفة في يوم ما، ثم ينسخونه ويتخلون عنه في يوم آخر، دون خجل أو وجل. لذلك فإن الكثير مما نفعله الآن بشكل يومي، كان حراما شرعا في الماضي، والكثير مما نراه حراما اليوم، كان حلالا بيّنا في الماضي!. على سبيل المثال، هناك رسالة في تحريم الجبن الرومي وتحريم الغناء والسماع. لأبي بكر محمد بن الوليد الطرطوشي المالكي المتوفي سنة 520هـ / 1126م ، وموضوعها هو جوابه عن سؤال أهل الإسكندرية عن الجبن الذي يحمله الروم من سفنهم إلى الإسكندرية، فحرمها لأسباب اقتصادية (مقاطعة منتجات الروم) وصحية ودينية، وأشاع أنه استمع إلى تجار الجبن الذين أكدوا له أن الروم يخلطون هذه الجبن بشحوم الخنازير، كما أكد عدم مشروعيتها من قاعدة «عدم أكل الميتة»، حيث أنَّ تلك الأجبان تستخرج من حيوانات غير مذبوحة على الطريقة الإسلاموية.
https://www.noor-book.com/كتاب-رساله-في-تحريم-الجبن-الرومي-للطرطوشي-pdf
وسمعنا أيضًا عن تحريم مشروب الكوكاكولا لصناعته من دم الخنزير.
وظلت قيادة المرأة للسيارة حرامًا شرعا لعقود عديدة في مملكة آل سعود، لأنها تفتح باب الوقوع في المحظور، ثم أتيحت حاليًا، بضغط من الملك سلمان وابنه!.
والقهوة كانت محرمة بفتاوى شيوخ في الحجاز وانتقلت عدوى التحريم إلى مصر واستمر لسنوات طويلة، ووصل الأمر إلى حد أن رجال الأمن كانوا يداهمون المقاهي، مما تسبب في أحداث شغب في القاهرة. ولم تنتهي هذه الأزمة إلا بعد تعيين مفتي جديد للدولة العثمانية، أفتى بإباحة شرب القهوة!
ولا يخفى علينا قصة صنابير المياه (الحنفيات في مصر)، ففي نهاية القرن التاسع عشر، بدأ تركيب صنابير المياه في القاهرة. وقد أضر ذلك بعمل السقايين، وهم الأشخاص الذين كانوا يبيعون المياه. فذهب هؤلاء واشتكوا لمشايخ الأزهر. فأفتى شيوخ الحنابلة والشافعية والمالكية بأن الوضوء بماء الصنبور غير جائز شرعا. إلا أن الأحناف (شيوخ المذهب الحنفي) أجازوا استخدام ماء الصنبور، بل وقالوا عليه مستحب في الوضوء أيضا. وبناء عليه فقد سمى المصريون الصنبور بالحنفية نسبة إليهم.
كما أفتى الأزهريون لقرون عديدة بأن ختان الإناث حلال، واختلفوا فقط حول ما إذا كان فعله سنة أم مكرمة؟، أي أنه أمر محبب فعله، واتفقوا جميعًا على أنه حلال شرعا!، وفي عام 2006 تغير الأمر تحت ضغط من السيدة سوزان مبارك، فأصدر الأزهر فتوى تُحرم ختان الإناث، باعتباره يشكل ضررا بالغا للأنثى، طبقا للقاعدة التي تقول لا ضرر ولا ضرار!
كذلك نجدهم يتفقوا جميعًا على أن الربا كان من آخر ما حرمه القرآن لشدة خطورته، إلا أنهم يختلفون اختلافاً واسعاً حول كثير من فروعه وجزئياته، ولم يتفقوا بشانه على قاعدة ثابتة حتى اليوم..
فهل تغيِّر السماء موقفها؟، أم أنها لا تعلم شيئا عما يجري على الأرض؟.
ونجد الدكتور خالد عمران أمين الفتوى بدار الإفتاء المصرية، يقول::« التبرع بالأعضاء جائز عدا عضو واحد هو الجهاز التناسلي، لأنه يؤدي لاختلاط الأنساب»!
ونقرأ عن الشيخ الدكتور أسامة عبد العظيم المتوفي يوم 4 أكتوبر 2022، وهو أحد مشايخ الأزهر، أنه كان يحرِّم اقتناء التلفزيون والأجهزة الحديثة كالكمبيوتر، وينصح تلامذته ومريديه بذلك، إلا أنه لا يلزمهم بتركها، كما كان يحرم لبس البنطلون والكرافتة للرجال، فالصلاة بهما لا تجوز ولا تقبل بحسب علمه ومعرفته، وكان ينصح أتباعه أن يعرضوا صلاتهم عليه ليخبرهم ما إذا كانت ستقبل أم لا!، وكان له طقوس خاصة في الفتوى، فإن أراد أحد أن يأخذ منه فتوى، عليه أولًا أن يمكث معه في المسجد يومًا كاملًا، وإن كان ذلك في شهر رمضان، فعلي أن يصلي خلفه القيام والتهجّد من المغرب حتى مطلع الفجر، فهو وتلامذته كانوا يمكثون في المسجد طوال الشهر، وإن شاء أحد أن يوصف بتلميذه أن يلتزم بلبس الجلباب وطول اللحية، وإن أراد أن يزداد قربًا منه، عليه أن يأخذ معه إلى المسجد التلفاز والحاسوب ليضمن ألا يشاهد أهله "ما يغضب الله" في غيابه عن البيت.
***
يقولون أن أول القواعد الكلية في الحلال والحرام هي أن الأصل في الأشياء الإباحة، الأصل أنَّ كل شيء مباح، ولا تحريم إلَّا بنص شرعي صريح صحيح، ولكنهم كثيرا ما يعمدون إلى فبركة هذا النص ويعطونه شرعية قرآنية تأويلية أو نبوية تلفيقية، بل ويزيدون عليه بحجة أن ما يؤدي إلى الحرام فهو حرام، الزنا حرام ومقدماته حرام، كالنظر، واللبس الفاضح، والخلوة، والأدب الساقط، والمشاهدات الماجنة، كل ما يؤدِّي إلى الحرام فهو حرام، الخمر حرام، بيعها حرام، أن تجلس مع شارب الخمر حرام، أن تعصرها، أن تنقلها، أن تعلن عنها، أن تتاجر بها حرام.
إن مواقف الفقهاء ورجال الدين وفتاواهم كانت ولا زالت تخضع بشدة لمستوى ثقافاتهم الشخصية وثقافة زمانهم، وقبل هذا وذاك لميول الحكام وتوجيهاتهم. هذا ما أوضحه الأستاذ الدكتور محمود محمد علي أستاذ الفلسفة بجامعة أسيوط فيما يخص الشيخ يوسف القرضاوي، بأنه داعية مسيَّس، في كتيب بنفس العنوان:
https://www.noor-book.com/كتاب-يوسف-القرضاوي-الداعيه-المسيس-pdf
يتضح من ذلك أنه لا يوجد في حياة البشر فعل يقال إنه حلال أو حرام بشكل مطلق، وأن كل تصرف يمكن أن يحتمل الحلال والحرام من وجهة نظر معينة، إذ لا يمكن لأي إنسان أن يدرك ما هو الحرام وما هو الحلال بدقة شديدة؟، ومن ثم ما هو مفهوم الموقف الأخلاقي نحو أمر أو تصرف ما، خاصة وأن الأخلاق لا علاقة لها إطلاقًا بالدين أو بمسألة الحلال والحرام المزعومة.
ومن ناحية أخرى نجد أن الإنسان في مقابل احتياجاته الأساسية في الحياة، يضعف إيمانه ويتقلص بالتبعية تأثير الحلال والحرام عليه، ويتلاشى هدف الفقهاء ورجال الدين في حمله على التنازل عن حريته وهو على قيد الحياة في ممارسة عمل ما أو اقتناء أو استعمال او استهلاك شيء ما لأنه حرام، في مقابل جوائز تنتظره بعد موته!، وهو لا يدري أن الهدف الوحيد من مسألة الحلال والحرام هو إبقاؤه في حالة من المراهقة الدائمة، والتي يفقد خلالها وعيه بذاته، حتى ينتهي به المطاف إلى الندم وآلام الخوف وانعدام الهوية، إلى حد الانقلاب على حياته والسخط على نفسه وعلى الآخرين، والتحول الجارف نحو التعصب الأعمى؛ فالتحليل والتحريم استراتيجية إسلاموية خاصة، تهدف إلى ترسيخ الخضوع والعبودية والخوف في نفوس المتأسلمين لصالح الحكام ورجال الدين.
يلعب الوسط البيئي الذي يوجد فيه المرء دورًا كبيرا في درجة التزامه من عدمه بما هو حلال أو حرام، وعند انعدام الوعي الذاتي لديه، يستتبعه تدني درجة خصوصيته، مما يجعله في معظم الأوقات تحت رحمة آراء وتقديرات الآخرين من حوله، ومن ثم تصاغ مواقفه وسلوكياته وفق ما هو مقبول أو غير مقبول في المجتمع. وهذا يعني التزاما أكبر من ناحيته بالأوامر والنواهي الدينية، فيسأل رجل الدين ولا يسأل عقله، يتصارع مع الحلال والحرام وينسى وعيه بذاته، يعجز عن التفكير ويخاف من الحرية ويحارب كل دعوة للبهجة والسلام والمحبة!. ومع ذلك لا تتمثل المشكلة في موقفه من الحلال والحرام، حيث إن التزامه بهما من عدمه يظل مسألة شخصية، ولكن المشكلة الحقيقية تتمثل في تحويل هذا الموقف من مجرد رأي أو اختيار شخصي إلى أيديولوجية وأحكام وآراء مسبقة، يتبناها ويتحوَّل بها إلى هيئة فردية متنقلة للأمر بالمعروف (الغير معروف) والنهي عن المنكر (الغير معروف أيضًا)!، بينما تبقى حياة الفقهاء ورجال الدين أنفسهم غارقة في التملق والتزلف للحكام المتأسلمين وغير المتأسلمين والعمل على تغفيل الشعب بالتحليل والتحريم، يحللون لأنفسهم ما يحرمونه على غيرهم أسوة بنبيهم الكريم!، يعملون كل ما في وسعهم للمحافظة على أمة القطيع متماسكة، من خلال إيجاد هوية زائفه لأفراد القطيع، بحيث يرى كل منهم نفسه مُمَيَّرًا في إطار التفضيل والاستعلاء، بصرف النظر عما إذا كان ذلك في سياق ديني أو غير ديني. مهمة راعي القطيع وشيوخه أنَّ يجعلوا وعيه غائبًا، بحيث تتجاوز أناه كل الأشياء وتستهلك الوجود وتحوله إلى خدمته، بما في ذلك الدين والأيديولوجيات والآراء والمواقف المختلفة.. ومسائل "الحلال" و"الحرام"!.
الهدف من وجود التحليل والتحريم في ديانة المتأسلمين هو تشكيل عقل جمعي يفترض فيه أفراد المجتمع أن تصرفات الجماعة يعكس سلوكا صحيحا، إذ تصبح للجماعة سطوة عليهم، يفقدون معها قدرتهم على تحكيم العقل وتمييز الصواب وتحديد السلوك المناسب، ليصل بهم الأمر إلى ما يسمى « سلوك القطيع». وتتضاعف مأساتهم داخل القطيع باعتبار الشخص المستقل فكرياً عدو للمجتمع ومهدد لوحدته ومن ثم يُتهم بالخيانة والكفر وعدم الولاء، يقول الفيلسوف الالماني آرثر شوبنهاور: « أكثر ما يكرهه القطيع هو إنسان يفكر بشكل مختلف، إنهم لا يكرهون رأيه في الحقيقة، ولكن يكرهون جرأته هذا الفرد على امتلاك الشجاعة للتفكير بنفسه ليكون مختلفا»، ولذلك يجري على قدم وساق في مجتمع القطيع محاربة المستنيرين واضطهادهم وتصفيتهم جسديا أو معنويا، اذا طالبوا بالتغيير، لكن عندما يأتي التغيير من قمة الهرم، كما يحدث في مملكة آل سعود حاليا، تطأطئ الرؤوس، وتخضع النفوس، ويصبح ما كان حرامًا في عرف الفقهاء ورجال الدين حلالًا، ويصير ما كان ممنوعًا في رأيهم مسموحًا به. إنه إذن الوصاية والتضليل بهدف تحويل الأكاذيب إلى مقدسات، وتغيير مواقف القطيع تجاه أنماط الحياة المختلفة، الأمر الذي يفرض على المرء المستنير استحالة التخلص من ضلاله إلا بالتحرر من الاعتقاد الديني نفسه، ليخرِج نفسه من دائرة الغباء الجمعي، ويتخلص من حكم القصور والعجز المفروض عليه، باستخدام ذهنه دون وصاية من الغير. يكتشف أنه لا يعاني من نقص أو خلل في عقله، بل إلى ضعف في حزمه وشجاعته وإقدامه اعلى استخدام عقله من دون وصاية من أحد. إن استخدام الإنسان لعقله لا يتطلب شيئًا غير الحرية؛ التي تبدأ بحقه في استخدام عقله في كافة مجالات الحياة.